أبداعات عربية

على نبض غزة

على نبض غزة
على نبض غزة

أمير‭ ‬داود‭ - ‬قلقيلية

أطفالى‭ ‬الصغار‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬ماذا‭ ‬تعنى‭ ‬كلمة‭ ‬حرب،‭ ‬ولا‭ ‬يعرفون‭ ‬أيضاً‭ ‬ماذا‭ ‬تعنى‭ ‬كلمة‭ ‬موت،‭ ‬الحرب‭ ‬والموت؛‭ ‬كلمات‭ ‬غامضة‭ ‬وحزينة‭ ‬ومقفلة،‭ ‬نلفظها‭ ‬بعجلة‭ ‬مثيرة‭ ‬للانتباه،‭ ‬وكأننا‭ ‬نتخلص‭ ‬من‭ ‬شيءِ‭ ‬عالق‭ ‬فى‭ ‬أفواهنا،‭ ‬يعجز‭ ‬الأطفال‭ ‬عن‭ ‬ادراكها،‭ ‬مفهوم‭ ‬الحرب‭ ‬والموت‭ ‬عند‭ ‬الأطفال‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬كونها‭ ‬لعبة‭ ‬ترمم‭ ‬الفجوة‭ ‬الهائلة‭ ‬بين‭ ‬برامج‭ ‬الكارتون‭ ‬والواقع‭. ‬الموت‭ ‬فى‭ ‬غزة،‭ ‬تجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الوعى‭ ‬الكرتونى‭ ‬عند‭ ‬الأطفال،‭ ‬وصار‭ ‬حقيقة‭ ‬بالغة‭ ‬الصعوبة‭ ‬والأثر،‭ ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تأمل‭ ‬تجربة‭ ‬طفل‭ ‬غزاوي،‭ ‬تجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الطفولة‭ ‬المبكرة‭ ‬بخبرة‭ ‬تحتوى‭ ‬ثلاثة‭ ‬حروب‭ ‬كاملة‭ ‬فى‭ ‬وعيه‭ ‬العميق؟‭ ‬

‭***‬

لو‭ ‬انزلنا‭ ‬مفهوم‭ ‬البطولة‭ ‬والشجاعة‭ ‬عن‭ ‬شجرة‭ ‬النظرية‭ ‬والأسطورة‭ ‬الى‭ ‬حيّز‭ ‬الواقع‭/ ‬على‭ ‬ألمه‭ ‬وقسوته،‭ ‬لقلنا،‭ ‬أن‭ ‬الطفل‭ ‬الناجى‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬حروب‭ ‬على‭ ‬التوالي،‭ ‬هو‭ ‬مشروع‭ ‬بطل،‭ ‬يتجاوز‭ ‬ذهنياً،‭ ‬البطولة‭ ‬الكرتونية،‭ ‬التى‭ ‬ظلّت‭ ‬بعيدة‭ ‬جداً‭ ‬سابقاً،‭ ‬وصارت‭ ‬قريبة‭ ‬فى‭ ‬غزة،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الحصر‭ ‬لا‭ ‬المثال‭ !‬

اشتركت‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬بيومين‭ ‬فى‭ ‬خدمة‭ ‬الاخبار‭ ‬العاجلة‭ ‬على‭ ‬هاتفى‭ ‬الشخصيّ‭. ‬قلت،‭ ‬هاتفى‭ ‬صامت‭ ‬دائماً،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يتصل‭ ‬بي،‭ ‬ولا‭ ‬رسائل‭ ‬تصلني،‭ ‬وانا‭ ‬أصلاً‭ ‬لا‭ ‬اشاهد‭ ‬الاخبار‭ ‬الا‭ ‬نادراً،‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬ببعض‭ ‬رسائل‭ ‬عن‭ ‬العاجل‭ ‬السياسى‭ ‬فى‭ ‬بلادنا،‭ ‬فاشتركت‭. ‬يومان‭ ‬فقط‭ ‬واشتعلت‭ ‬الحرب‭ ‬واخبارها‭ ‬مثل‭ ‬عيدان‭ ‬كبريت،‭ ‬واشتعل‭ ‬هاتفى‭ ‬معها،‭ ‬صار‭ ‬يرن‭ ‬بلا‭ ‬توقف،‭ ‬صار‭ ‬عندى‭ ‬مئات‭ ‬الرسائل،‭ ‬تصل‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬الأوقات،‭ ‬فى‭ ‬الصباح‭ ‬والمساء‭ ‬وآناء‭ ‬الليل‭ ‬وأطراف‭ ‬النهار،‭ ‬كلها‭ ‬اخبار‭ ‬عاجلة،‭ ‬عن‭ ‬الشهداء‭ ‬والجرحى‭ ‬وألاحياء‭ ‬المنكوبة‭ ‬والمنازل‭ ‬والشوارع‭ ‬والحدائق‭ ‬المهدمة‭ ‬والمكتبات‭ ‬المدمرة‭ ‬والمستشفيات‭ ‬الحزينة‭ ‬وصافرات‭ ‬سيارات‭ ‬الأسعاف‭ ‬والاطفاء‭. ‬صرخات‭ ‬الأطفال‭ ‬والنساء‭ ‬والرجال‭ ‬غادرت‭ ‬حناجر‭ ‬أصحابها‭ ‬فى‭ ‬غزة‭ ‬وصارت‭ ‬عندي،‭ ‬تحولت‭ ‬الأصوات‭ ‬المخنوقة‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬غزة‭ ‬الى‭ ‬أفواه‭ ‬تصرخ‭ ‬فى‭ ‬وجهي،‭ ‬وانا‭ ‬أصغر‭  ‬وأصغر،‭ ‬وأتضاءل‭ ‬امام‭ ‬هذا‭ ‬الصراخ‭. ‬كل‭ ‬رسالة‭ ‬تصل‭ ‬وأفتحها،‭ ‬يخرج‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭ ‬يصرخ‭ ‬فى‭ ‬وجهي،‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يرن‭ ‬الهاتف‭ ‬عندى‭ ‬تخرج‭ ‬امراة‭ ‬ضعيفة‭ ‬وهشة‭ ‬تبكى‭ ‬امامي،‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أفعل‭ ‬شيئاً،‭ ‬احاول‭ ‬ان‭ ‬أقول‭ ‬لهم‭ ‬أننى‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬تعاطف‭ ‬كبيرة‭ ‬معهم،‭ ‬لكن‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬اهمّ‭ ‬بالحديث‭ ‬حتى‭ ‬يختفى‭ ‬هؤلاء‭ ‬من‭ ‬غرفتى‭ .  ‬يحدث‭ ‬هذا‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬اليوم‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أفتح‭ ‬الرسائل،‭ ‬عندى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسين‭  ‬رسالة‭ ‬لم‭ ‬أقرأها‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬قراءتها،‭ ‬انا‭ ‬فقط،‭ ‬لا‭ ‬اجيد‭ ‬قراءة‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل،‭ ‬أنا‭ ‬ضعيف‭ ‬امام‭ ‬رسائل‭ ‬الضحايا،‭ ‬ضعيف‭ ‬وصغير‭ ‬وجبان‭ ‬ونقطة‭ ‬فى‭ ‬آخر‭ ‬السطر‭ !‬