رحيق السطور.. لماذا فاز هذا الكتاب بجائزة الشيخ زايد؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ليست مجرد سيرة وحكى عن حياة إنسان ما منذ ولادته إلى وفاته، بل تتبع لأثر السير وراء خطوات شخص ما، وكشف غموض كل ما شغل ذهنه، كل ما مس حضوره ووجوده، بل وموته، من المقبرة التى دفن بها ومن أنشأها ومن دفن إلى جواره، بعض من عرفه وشكلوا أسباب حياته وموته، تاريخ الأماكن التى عاش فيها أو بحث عنها، كل الأفكار التى شغلته والهواجس والعقبات التى واجهها، كل هذا تتشابك معه الأديبة إيمان مرسال فى كتابها «فى أثر عنايات الزيات»، والذى حصل على جائزة الشيخ زايد فى الآداب هذا العام، كتاب عابر للنوع الأدبي، سرد يدمج بين أثر كاتبة شابة انتحرت فى ستينيات القرن الماضى قبل صدور روايتها الوحيدة «الحب والصمت»، وبين أثر أديبة شابة أخرى عثرت على الرواية مصادفة فى تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تهاجر إلى كندا برفقة أسئلة متشابكة فى ذهنها لتعود عام 2014 محاولة فك رموز حياة وموت أديبة مجهولة، ثم تكتمل الرحلة عام 2019 ويصدر الكتاب عن دار الكتب خان، ويحقق انتشارا واسعا فى العديد من الطبعات، ويحصد أكبر جوائز العالم العربي، إضافة إلى ترجمته. دار أول الأسئلة حول سبب انتحار هذه الأديبة، لكن الرحلة فرضت أسئلة أهم وأعمق حاولت «مرسال» الإجابة عنها وهى تتبع أثر عنايات، بدا أول الآثار الواضحة أمامها نعيًا منشورًا فى جريدة الأهرام عام 1967 عرفت من خلاله مكان دفن عنايات فى مقابر المرحوم رشيد باشا، فألتقطت «إيمان» الخيط ومن هنا بدأت، وعند هذا انتهت الخاتمة الأولى لرحلتها، البحث عمن هو هذا الشخص الذى دفنت فى مقبرته. أثر آخر كان لامعًا ولا يمكن تغافله وهو الفنانة الراحلة نادية لطفي، صديقة عنايات الزيات الأقرب، وخزانة أسرارها، أو هكذا ظنت إيمان فى بداية رحلتها،عدة مكالمات تليفونية، ولقاءات مع نادية قبل وفاتها، تشكل من خلالها إيمان ملامح أساسية للعلاقة بين الفنانة والأديبة، فى طفولتيهما ومراهقتيهما، فتاة شقراء وأخرى سمراء لا يفترقان حتى تحترف نادية الفن، لكنها فى النهاية لن تحقق ما رغبت فيه إيمان، فهى لا تكشف عن عنايات وحدها بمعزل عن نادية، وكذلك مقابلاتها مع أخت عنايات، فتح أوراقها القديمة لدى الصديقة والعائلة، لم يحقق ما تريده الساردة لكنه كشف جزءا من مأساة عنايات التى تزوجت وأنجبت مبكرا وعانت للحصول على الطلاق، كما عانت خلال رحلتها فى محاولة نشر روايتها الأولى والتى لم تكلل بالنجاح إلا بعد انتحارها، تبحث «مرسال» وراء قصة علاقة عنايات الزيات بأعلام الأدب فى عصرها مثل مصطفى محمود وأنيس منصور ويوسف السباعى بأكثر من طريقة وفقا لروايات مختلفة، لكنها تستخلص من بين السطور إنها لم تكن علاقات حقيقية، لكن ما حكاه بعضهم فى مقالات لاحقة ما هو إلا محاولة للتطهر بعد انتحارها، فما كتب عنها من إشادة لم ينشر فى حياتها، كذلك لم تنشر قصصها التى أشيد بها فى تلك المقالات، ولا روايتها الوحيدة إلا بعد أسبوعين من موتها، لكنها تستطيع التعرف أكثر من خلال تلك الحكايات، ومقالات لطيفة الزيات ومحمود أمين العالم ونعم الباز، بعد انتحار عنايات على طبيعة الوسط الثقافى آنذاك، وعلى دور فردية عنايات وطبيعتها الشخصية التى لم يكن معها يمكن التواجد فى إطار الحياة الثقافية آنذاك التى حكمها نسق سياسى واجتماعى محدد، تطلبت رحلة إيمان تتبع أثر تاريخ الأرشيف المصرى فى كل المؤسسات المتاحة، وآليات عمله، كذلك تاريخ الطب النفسى فى مصر منذ بداياته، حيث تلقت عنايات العلاج فى بعض تلك المؤسسات، كما تتبعت أثر عالم الآثار الألمانى لودفيج كايمر، الذى كانت ستدور عنه رواية عنايات الثانية، فقد عملت عنايات فى معهد الآثار الألمانى وكانت مهتمة بتاريخ هذا الرجل، منهج إيمان فى بحثها كان أيضًا قائمًا على دمج أثر عنايات الزيات على حياة إيمان ذاتها، وما واجهته من مصاعب شخصية خلال رحلتها، مما أضاف إلى الكتاب بعدا روائيا مغايرا، فنجدها تروى لنا عن حضور عنايات لتصوير إحدى مشاهد فيلم «حبى الوحيد» حيث استخدمت نادية حقيبة عنايات وتتخيل إيمان عنايات وهى تخرج أشياءها من الحقيبة، وتغادر المكان وهى تتأمل مشهدًا غراميًا بين نادية لطفى وعمر الشريف الذى كان يعمل طيارًا فى الفيلم، وهى نفس مهنة زوج عنايات، الذى عانت فى الحياة معه ولم تجد الحب الذى تبحث عنه، ثم تحيلنا إيمان إلى مشهد متخيل آخر لعنايات قبل انتحارها وهى تقص شعرها أمام المرأة، فى طقس تعرفه نساء كثيرات فى حالات الاكتئاب، وبين المشهدين نكتشف علاقة حب لم تكتمل لخوف عنايات من ترك ابنها الوحيد، والسفر مع من أحبت، كل تلك المشاهد التى تخيلتها إيمان بناء على الوقائع التى جمعتها من حكايات شهود عيان، ويوميات عنايات وروايتها الوحيدة، وقصاصات عن روايتها الثانية التى لم تكتب، إلى جانب مقالات نشرت حولها، كانت أثار اقتفتها إيمان مرسال، لتضيف واحدة من أهم شعراء قصيدة النثر فى التسعينيات الكثير إلى مجال سردى غير مطروق كثيرا فى أدبنا العربى الحديث.