اليوميات

نعم نستطيع... حكاية نجاح في مواجهة الفساد

أسامة عجاج
أسامة عجاج

قد يبدو الأمر فى ظاهره قضية شخصية، تتعلق بنزاع قانونى حسمه القضاء، ولكنه فى حقيقته، تأكيد ودليل على قدرة مجموعة من الأفراد العزل، فى مواجهة فساد مستشر، متغول.

هكذا بعد ١٢ عامًا، أعيد استخدام الشطر الأول من عنوان تلك اليوميات» نعم نستطيع»، والتى تمثل قصة استغرقت كل تلك المدة، وانتهت بانتصار كبير من مواطنين مصريين، قرروا الوقوف فى وجه الفساد، دون مصلحة خاصة، عبر حكم قضائى نهائى من المحكمة الإدارية العليا، صدر أول أمس السبت، لنبدأ مرحلة نهائية فى تلك المعركة الضارية، بعودتها بالأمور إلى وضعها الطبيعي، بإزالة العمارة المخالفة، وإقامة حضانة مكانها كما كانت عليه الأمور فى تسعينيات القرن الماضي.


فى يناير ٢٠٠٩كتبت عمودا فى «الأخبار»، عن قضية فساد تابعتها شخصيا، بحكم وجودى فى قلب الحدث، كأحد السكان تصادف أن أقيم أمامها عمارة سكنية، على أرض يعرف الجميع، أنها مخصصة لإقامة حضانة للأطفال، تؤكد حقيقة غابت عن الكثيرين، من أصحاب شعار «مفيش فايدة» بأن بالمثابرة، والتنظيم والإعداد الجيد، والإيمان بقضية عادلة، بعيدا عن لغة المصالح الضيقة، الوصول إلى بر الأمان، إلى الغاية المنتظرة، بأن الحق لا يضيع، طالما وراءه مطالب، وكانت البداية حصول سكان العقار الذى أقيم فيه، على حكم قضائي، أصدره المستشار السيد محمود الطحان، بسحب رخصة مزورة، تم استخراجها بأساليب ملتوية، وتم تأسيسها على حكم باطل، لبناء عمارة سكنية، استطاع مالكها بناء خمسة أدوار من ١١ دور، كان الحكم الأول نتيجة جهد عدد من سيدات العقار المواجه فى شارع أحمد الصارى فى حى مدينة نصر، الذى استفزهم بناء العمارة على أرض مرخصة بقرار جمهورى لتقسيم مدينة نصر، لأغراض تعليمية، بل أقيم عليها منذ عقود حضانة أطفال، لتنضم إلى مدرستي أمير الشعراء الثانوية، ومحمود تيمور الإعدادية فى نفس التقسيم، خاصة بعد أن اشتكت مديرة إحدى المدرستين، من أن عمليات الحفر، تعيق العملية التعليمية، كما أن عمليات تشوين مواد البناء والحفر، أدى إلى سقوط سور المدرسة الثانوي، مما أدى إلى حالة من الهرج والمرج توقفت معها الدراسة.


    سيدات مقاتلات


    ولعل من المهم هنا، ذكر أن السيدات المقاتلات، كما يجب أن يطلق عليهن، التى تصدين للقضية، من البداية وحتى النهاية، وكلهن لم يسبق لهن حضور جلسات محاكم، أو دخول أقسام شرطة، أو التعامل مع أضابير الإدارات المحلية، فى الأحياء ومحافظة القاهرة، أو التعاطى مع الإدارات القانونية، فى العديد من الجهات، أو حتى تقديم الشكوى إلى جهات عديدة ومنها الرقابة الإدارية ولكن لا يتسع المجال لذكرهن فردا فردا وفقا لحجم وجهد كل منهم ويستحقون أن تكتب أسماؤهن بأحرف من نور، فى لوحة شرف، تحركن بإخلاص ويقين، أمام شراسة الخصم، الذى يشاع أنه مسنود، والذى استخدم كل الوسائل، ومنها الرشى لبعض ضعاف النفوس فى الحي، السيدات المقاتلات لم يجدن بابًا لمسئول إلا وطرقنه، متسلحات بملف كامل وواف،تم إعداده عن حجم المخالفات فى الأمر، ووكلن الأمر إلى أحد المحامين الذين انضموا إلى كتيبة القتال ضد الفساد، الأستاذ هشام بسيونى، والذى كان على قناعة منذ اللحظة الأولى، أن أمر القضية لا يتعلق بتعامل ككل القضايا، والسعى إلى الحصول على أتعاب معتبرة، فالصرف على القضية من دخول المتدخلين فيها من السكان، إنما هى احتساب لله فى ضرورة مواجهة الفساد، باعتباره واجبا شرعيا وإنسانيا وأخلاقيا، فأخذت القضية من وقته الكثير، جهدًا وعرقا وعملًا ودراسة وبحثا فى مواد القانون، طوال تلك السنوات ال ١٢ التى كانت كافية للتخلى عنها، خاصة وأن عمله دون مقابل، ولكنه الإيمان بقدرة البشر متسلحين بالله وبعدالة القضاء فى استعادة الحق، واستحق فى نهاية الأمر إشادة من رئيس المحكمة العليا للقضاء الإدارى الذى أصدر الحكم الأخير بمذكراته ودفاعه التى قدمها، وقد تكون ذلك سابقة فى هذا المجال.


  طرق الأبواب


لقد نجح تحرك السيدات المقاتلات، فى طرق أبواب كافة المسئولين، والاسماء عديدة وكبيرة، ومنهم مكتب سوزان مبارك، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف، وزكريا عزمى، والوزراء أحمد درويش وعبد السلام المحجوب وعادل لبيب وزير الحكم المحلى الأسبق، ويسرى الجمل وزير التعليم فى ذلك الوقت، وجميع محافظى القاهرة، ابتداء من عبد الرحيم شحاتة حتى آخر محافظ، وجميع اللواءات فى مكتب التفتيش الإدارى للحكم المحلى بمصر الجديدة، وجميع مستشاري المحافظين ومستشاري نوابهم وأعضاء من مجلس الشعب، ونواب دائرة مدينة نصر، ورئيس الوزراء محمد إبراهيم محلب أثناء ماكان رئيس وزراء، ومسئولى مكافحة الفساد بالتنظيم، والإدارة ومتابعة شكاوى مجلس الوزراء، بما يخص أراضى الدولة المنهوبة، والمسئولين عن الأبنية التعليمية، كطرف يمكنه الاستفادة من الأرض كمدرسة، لتخفيف كثافة الفصول فى حى مدينة نصر، وعندما اقتنع الكثير من المسئولين، بغياب المصلحة الذاتية، سوى مكافحة فساد مستفز، بدأ الدعم والمساندة، وكانت الثمار الأولى على يد المحافظ الراحل عبدالعظيم وزير، بقراره بوقف البناء، لحين الفصل فى القضايا، ودخلت المحافظة طرفًا فى القضية، بعد النجاح فى الحصول على ملف كامل من الوثائق، التى تثبت تواطؤ البعض، لدرجة أنه تم القبض على رئيس حى مدينة نصر الأسبق، بتهمة تلقى رشوة عن إصدار رخصة العمارة المخالفة، والاكتفاء بإبعاد رئيسة الشئون القانونية بالحى إلى أحد الأحياء الأخرى، وعلى مدى شهور، تم تداول القضية، حتى تم الحصول على الحكم الأول، بسحب رخصة العمارة.


   ماراثون طويل


 لم يكن ماحدث سوى نقطة البداية، فى ماراثون طويل استمر ١٢ عامًا، تم خلالها استخدام كل الوسائل الممكنة والمتاحة، ومنها الصحافة، وكانت صحيفة الأخبار فى المقدمة، والفضائيات، وتوالت المفاجآت، أثناء المواجهة، حيث ظهر ان هناك تواطؤا من بعض المسئولين، فى شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير، ومع تحول الموضوع إلى قضية رأي، عام، اضطرت الشركة لرفع قضية بمحكمة شمال القاهرة، على شركة مصر لبناء دور العلم، المالكة للأرض، وصادر لها ترخيص بناء حضانة رقم ١٤٩لسنة ١٩٩٨والتى قامت ببيع الأرض بعقد مزور، للشخص الذى قام بالبناء، وهو ماتم ذكره بتقرير مكتب الخبرة، الصادر من هيئة الرقابة الإدارية، وإدارة الكسب غير المشروع والأموال العامة، بالتقرير الهندسى فى القضية رقم ٥٧٢٦لسنة٢٠٠٤ادارى مدينة نصر اول، وكان المتوقع مع انتهاء تلك المرحلة من التقاضي، عودة جميع أرض المدرسة والحضانة لملكية الشركة، بحكم واجب نهائى واجب النفاذ، وأن تعود الأمور إلى طبيعتها، ويتم البدء فى عمل حضانة، ولكن الفساد كان له رأى آخر، وتم التلاعب من جديد والقيام ببيع الأرض لأ حد المقاولين، المتخصصين فى شراء الأراضى المخصصة خدمات، وبناء عمارات سكنية، بالتعاون ومساعدة الفاسدين بالأحياء، ولن أذكر اسمه، فالهدف أبدا لم يكن التشهير، وقام برفع العديد من الدعاوى القضائية، لكى يستأنف البناء، وخسرها جميعا بمحكمة مجلس الدولة بالإدارية العليا والقضاء الإداري، وأثناء ذلك تضامن عدد من سكان العمارة المقابلة مع الجهات الإدارية فى القضايا، وسمح لهم رسميا من مجلس الدولة بالانضمام، لكونهم متضررين بالرؤية، من خلال أحكام صادرة من المحكمة الدستورية العليا، وبرأى الجمعية العمومية للفتوى والتشريع بمجلس الدولة، وفعلا ذكر أسماء العديد من السكان فى الدعاوى والأحكام الصادرة، وتوالت الأحكام التى صدرت لصالح مالكى وحدات العقار المواجه ومحافظة القاهرة، وكذلك فى الطعون التى  رفعها الخصم.


ممارسة البلطجة
 

 وفى الأسابيع الأخيرة، اتخذت الأمور منحنى آخر، بعد فشل أصحاب العقار المخالف فى الاستفادة من قانون التصالح، الذى توقف العمل به منذ نهاية شهر مارس، رغم استعداده لدفع الملايين لذلك، فى ظل رفض اللجنة المختصة بالتصالح، قبول ذلك نتيجة فحص اللجنة ملف العمارة، ووجود عدد كبير من الأحكام القضائية، وآخرها كان محجوزا للحكم، بالإضافة إلى كم المخالفات الموجود فى الملف المقدم، حيث حاول مالك العقار دفع أحد الأشخاص إلى سرعة تشطيب إحدى الشقق، لخلق أمر واقع، ونتيجة كثرة الشكاوى والبلاغات المقدمة من أصحاب المصلحة فى العمارة المقابلة، وسرعة استجابة رئيس حى شرق مدينة نصر العميد أحمد أنور لها، حيث أمر بسرعة وقف الأعمال، وقطع المرافق التى تم توصيلها، بالمخالفة للقانون، ونشهد للرجل أنه أحد المتصدين للفساد، فلم نلجأ له فى أى مرة، سوى كانت الاستجابة السريعة، والحسم فى المواجهة، فلجأ مالك العقار المخالف إلى البلطجة، وخلق حالة من الترويع، حيث فوجئ سكان الشارع بتواجد حوالى ٥٠ بلطجيا فى الأسبوع الأخير من رمضان،تصاحبهم سيدة مأجورة، تدعى بأنها صاحبة الشقة، ومعهم عدة كلاب الحراسة، وقاموا بمنع السكان من النزول للشارع، واعتدوا على أحد سكان العمارة وابنها وحطموا زجاج سيارتها، وبعدها تم التوجه إلى قسم مدينة نصر أول، والتقدم ببلاغ حيث كان الاستقبال حافلا من المأمور ومن رئيس المباحث العقيد حسام ناصر، والذى كلف الرائد أحمد الوكيل، برفقة قوة من القسم بضبط وإحضار العشرات من البلطجية، الذين سارعوا بالفرار، فور علمهم بذلك بناء على توصية من أحد شباب الأخبار مصطفى يونس مسئول الملف الأمنى بالقاهرة.


    نهاية سعيدة وبعد


وأول أمس فقط أسدل الستار على الجزء الأهم فى القضية، بالحكم النهائى واجب النفاذ، دون ان يكون هناك أى درجة أخرى للتقاضي، بسحب الرخصة وإلغاء الترخيص، حيث سيبدأ بعدها الحصول على نسخة بالحكم، لحين صدور النسخة النهائية، لتبدأ مرحلة إزالة المبنى، وإقامة حضانة للأطفال كما كان وفقا لخريطة تقسيم حى مدينة نصر، ونحتاج هنا دعما من كل أجهزة الدولة المعنية بإزالة المخالفات، ونناشد اللواء خالد عبدالعال محافظ القاهرة التعاون فى إنجاز هذه المهمة.