الصين تسعى للهيمنة على الاقتصاد العالمى

«اليوان الرقمى» يهز عرش الدولار

العملة الرقمية الصينية e-CNY
العملة الرقمية الصينية e-CNY

دينا توفيق

الصين تقوى وتسعى إلى الصعود فى صمت، بالسيطرة الناعمة على النظام العالمي، وبناء اقتصاد قوي.. ينقض التنين الصينى على أى فرصة يمكن أن يحقق منها مكسبًا حتى لو كان ضئيلًا، يتغلغل فى اقتصاديات البلدان الأخرى، خاصة الدول المفروض عليها عقوبات اقتصادية.. كان العالم ينتظر صعود التنين الصيني، فإذا به يقود التغيير والعالم إلى مرحلة جديدة، مع إصداره عملة "اليوان الرقمي"، الأولى من نوعها لاقتصاد رئيسى متداولة اليوم، من أجل تجنب الحصار الأمريكى للشركات الصينية، وتعزيز دوره فى المعاملات الدولية، مع السماح لها بمراقبة اقتصادها.

الحديث عن اليوان الرقمى ليس جديداً، ولكنه أثار قلق البعض فى واشنطن من أن وضع الدولار الأمريكى كعملة احتياطية عالمية بات تحت التهديد، حيث يمكن للعملة الصينية الرقمية أن تبدأ محاولة طويلة الأمد لإسقاط الدولار. والمعروف أنه فى مارس 2020، أطلق بنك الشعب الصينى (PBoC) أضخم عملة رقمية حكومية فى العالم تُعرف باسم اليوان الرقمي، وبدأت عمليات تجريبية واسعة النطاق لها والدفع الإلكترونى (DCEP) داخل حدود الصين، فى خطوة سببت إزعاجًا للولايات المتحدة على ما يبدو؛ حيث يقضى إلى حد كبير على قدرة الولايات المتحدة على فرض العقوبات والحصار على أساس نظام تحويل SWIFT، ذلك النظام المركزى العالمى لتنفيذ التحويلات المالية المتبادلة بين البنوك العالمية إلكترونياً، الذى تتحكم فيه واشنطن، فضلاً عن الحصول على معلومات حول تلك المعاملات.

وتعتبر بكين هذه الخطوة وسيلة لزيادة سيادتها النقدية وحمايتها من القرارات الأمريكية. كما أن إنشاء عملة رقمية خارج نظام تحويلSWIFT، يسمح بإجراء المعاملات، التى تتم اليوم بالدولار، بكفاءة ودون وساطة مع الشركات الصينية التى تتواجد بشكل متزايد فى الاقتصاد العالمي، ما يمكن أن يضاعف نسبة المعاملات الدولية إلى 88%. ويساعد تطوير الطرق اللوجستية والتجارية الرئيسية التى تخطط الصين لفتحها فى المستقبل فى تعزيز توسع الهيمنة الاقتصادية للصين فى العالم. ويعمل بنك الشعب الصينى (PBoC)  منذ سنوات على اليوان الرقمي، والذى يُطلق عليه أيضًا اسم e-CNY، حيث أنشأه فريق بحث متخصص عام 2014. فيما دعت الصين فى السابق البنوك المركزية الكبرى إلى العمل معًا لضمان توافق العملات الرقمية السيادية مع بعضها البعض.

ومن ناحية أخرى، وفقًا لمجلة "فوربس" الأمريكية، يوفر النظام للحكومة الصينية سيطرة كاملة على المعاملات فى إخفاء الهوية الخاضعة للرقابة والذى يسمح لهم بمعرفة المبالغ التى يتم نقلها وأين يتم ذلك، مما يتيح إجراء التحقيقات عند اكتشاف عمليات احتيال. وفى الوقت الحالي، ليس لدى الصين خطط لإصدار أموال أكثر مما هو متداول بالفعل، فكل يوان رقمى صادر يلغى ما يعادله ورقيا، ويحل محل النقد المتداول. كما يتم تخزين العملة فى محافظ رقمية ويمكن إجراء المدفوعات باستخدام آليات الدفع الرقمية الحالية مثل Alipay و WeChat Pay (بالاعتماد على رموزQR)، ويمكن أيضًا إرسالها بدون اتصال بالإنترنت أو الهاتف عن طريق وضع الهاتفين بالقرب من بعضهما البعض، واستخدام بروتوكولات الاتصال قريب المدى. كل ذلك ساعد فى انطلاق اليوان الرقمى بسرعة ويمثل 95% من جميع المدفوعات المحلية، وبدأ التدفق على العملة نظرًا لسهولة الاستخدام وانخفاض الرسوم، خاصة فى مجتمع الأعمال؛ على سبيل المثال دفع أجور المقاولين المشاركين فى مشاريع مبادرة الحزام والطريق (BRI) فى القوقاز وآسيا الوسطى وأفريقيا، والذين يمكنهم تحويل اليوان الرقمى بسرعة وبتكلفة منخفضة إلى العملة المحلية باستخدام البنوك الصينية.

بالإضافة إلى ذلك، تقود الصين حملة لزيادة اعتماد اليوان الرقمى عبر جنوب شرق آسيا، لتوسيع نفوذها فى المنطقة، مثل إندونيسيا وميانمار وكمبوديا ولاوس، حيث سهلت البنوك وشركات التكنولوجيا الصينية هذا التبنى من خلال توفير أجهزة نقاط البيع التى تقبل مدفوعات العملة الرقمية. ومنذ أن أصدر عملة البنك المركزى الرقمية (CBDC)، مر التطور دون أن يلاحظه أحد فى البداية، لأن المدفوعات فى الصين أصبحت رقمية بالفعل، منذ أن بدأت كوريا الشمالية فى اختبار الصاروخ النووي، رغم العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها. واتضح أن هذه القدرات يتم تمويلها باستخدام العملة الرقمية الصينية، والتى لا تستطيع السلطات الأمريكية تتبعها. بعد ذلك، صارت الدول التى تريد الهروب من الرقابة والعقوبات الأمريكية، مثل روسيا وإيران، على نفس النهج فى إصدار عملاتها الرقمية الخاصة.

فيما يزيد المسؤولون فى وزارة الخزانة ووزارة الخارجية الأمريكية والبنتاجون ومجلس الأمن القومى من جهودهم لفهم الآثار المترتبة على العملة الرقمية للبنك المركزى الصيني. حيث تم عقد اجتماع لمجلس الأمن القومى فى 19 نوفمبر الماضى بعد تجربة صاروخ بيونج يانج؛ واستجابةً للتهديد، يحتاج مجلس الأمن إلى إدارة المخاطر الجيوسياسية التى يشكلها النفوذ الإقليمى المتزايد للصين من خلال عملة اليوان الرقمي.

وقد أدى تقدم اليوان الرقمى السريع إلى تجديد الجهود فى الولايات المتحدة لإنشاء دولار رقمي. ووفقًا لوكالة "بلومبرج" الأمريكية، فإن إدارة الرئيس الأمريكى "جو بايدن" لا تخطط حاليًا لاتخاذ أى إجراءات مضادة ضد التهديدات طويلة الأجل لليوان الرقمي. وفى الوقت نفسه، يعمل الاحتياطى الفيدرالى بنشاط على الدولار الرقمي. وقال رئيس مجلس الاحتياطى الفيدرالي، "جيروم باول"، فى فبراير الماضي، إن الدولار الرقمى يمثل مشروعًا "ذا أولوية عالية" للمجلس. وفى الآونة الأخيرة، أعلن بنك الاحتياطى الفيدرالى فى بوسطن ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) إنهما يخططان للكشف عن نموذجين أوليين على الأقل للدولار فى الربع الثالث من العام الجاري. وحسب ما جاء فى تقرير عن الاتجاهات الاقتصادية العالمية، نُشر الشهر الماضي، من قبل الاستخبارات الوطنية الأمريكية، أنه "من المرجح أن تحظى العملات الرقمية بقبول أوسع خلال العقدين المقبلين مع زيادة عدد العملات الرقمية للبنك المركزي". 

ووفقــــا لصـحـيـفـــة «فاينانشــيال تـايمـــز» البريـطـــانـيــــة، اسـتـحـــــوذت حمــى العمـــلات المشـفـرة على الأسـواق؛ حــــيث وصـــل ســعر البيتكوين إلى ارتفاعات جديدة بينما احتدم الجــــدل حـــول ظهور تقنية العملة المشفرة. وقد يكون هذا عرضًا جانبيًا لاتجاه متزايد كبير يطلق عليه الرقمنة السريعة للعملة الصينية. وكما يرى كبير مسؤولى الاستثمار فى صناديق السندات العالمية لدى فرانكلين تمبلتون، "مايكل هاسينستاب"، يمكن أن يكون هذا التحول هو المفتاح الذى يسرع من تراجع هيمنة الدولار، كما يمكن أن يسرع قبول الرنمينبي، كما يُعرف باليوان أيضًا، باعتباره المنافس الرئيسى لعملة الولايات المتحدة. بالنسبة للصين، سيسمح اعتماد العملة الرقمية للبنك المركزى داخل حدودها وخارجها لنظامها المالى بتقليل الاعتماد على الدولار والحد من دور المؤسسات المالية الأجنبية والهيئات التنظيمية والرقابة عليها. فى حين أن العديد من البلدان بدأت مناقشة التطبيق المستقبلى المحتمل للعملات الرقمية للبنوك المركزية، فقد مضت الصين قدما فى التنمية. ومن جانبها، قالت كبيرة الاقتصاديين "ديانا تشويليفا" فى مركز الأبحاث البريطانى "إندو إيكونوميكس"، إن النظام الصينى بقيادة "شى جين بينج" يريد السيطرة على الاقتصاد العالمى ويسعى لتحقيقه، كما يرفض بشدة أى تدخل أجنبى فى شؤون البلاد الداخلية، وأدرك أنه كان يعتمد على نظام مدفوعات عالمى يمكن أن تستغله وكالات الاستخبارات والإدارة الأمريكية لمنع البنوك الصينية من الوصول إلى التمويل بالدولار. ومع ذلك، فى حين تمتلك الصين حافزاً جيوسياسياً لإسقاط الدولار كعملة احتياطية فى العالم، فليس من الواضح ما إذا كان اليوان الرقمى سيدعم هذا الهدف، وفقًا للرئيس السابق لقسم الصين فى صندوق النقد الدولى وأستاذ الاقتصاد بجامعة كورنيل "إسوار براساد". وأضاف أن "معظم المدفوعات عبر الحدود سواء للتجارة أو التمويل رقمية بالفعل، لذلك من الصعب تخيل تأثير كبير لليوان الرقمى على المدفوعات الدولية". وأكد أن التطور الأكثر أهمية هو إدخال نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك فى الصين عام 2015، وهو منافس لنظام تحويل SWIFT. ومن شأن هذا النظام، إلى جانب اليوان الرقمي، أن يسهل على البلدان التى تواجه عقوبات أمريكية، بما فى ذلك روسيا وإيران وفنزويلا ، الدفع باليوان مقابل النفط أو الصادرات الأخرى. ولكن هناك فرص ضئيلة يمكن أن يهدد اليوان الرقمى دور الدولار الأمريكى كعملة احتياطية عالمية، والتى تعتمد على الحجم والسيولة غير المسبوقة لأسواق الدين الأمريكية، ومرونة سعر صرف الدولار، والقوانين التى تُمكن رأس المال من حرية التصرف.