ورقة وقلم

ورقة وقلم| ياسر رزق يكتب: الكبيرة.. والكبير

ياسر رزق
ياسر رزق

إذا‭ ‬عُزَّت‭ ‬مصر،‭ ‬عز‭ ‬العرب،‭ ‬تلك‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬جدال‭ ‬فيها،‭ ‬يحدثنا‭ ‬بها‭ ‬التاريخ،‭ ‬بوقائعه‭ ‬وحادثاته،‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور.

وسط حقول ألغام من كل الاتجاهات، محاطة بأسوار من أسلاك شائكة، تحفها مستنقعات لا نجاة منها إن خضت فيها، كان هذا وضع مصر فى أعقاب ثورة 30 يونيو، وكانت تلك هى أحوال البلاد عند حدودها الشمالية الشرقية، والغربية والجنوبية، حينما تسلم قيادتها الرئيس عبدالفتاح السيسى قبيل سبع سنوات مضت.

وعبر سياسة متزنة رشيدة، معززة بقوة شاملة للدولة تعاظمت بمعدلات عالية شهرا بعد شهر، تحولت مصر من حال رجل المنطقة المريض، إلى مكانة القوة العظمى الإقليمية، القادرة على استعادة الدولة الوطنية فى جوارها العربى الذى عصفت به أعاصير فصول حلت فى غير أوانها، وهددت بتفتيت الأوطان شظايا وركاماً، وإلقاء شعوبها فى أتون حروب أهلية يرتفع أوار لهيبها، دونما أمل فى إنقاذ.

مصر التى كانت محاصرة من حولها بالإرهاب والتآمر، والتى أريد لها أن تتشرنق داخل حدودها وتتقوقع على مشاكلها الداخلية، انتفضت، وألقت قمقمها، واشتد عودها، وأفردت ذراعيها، واستعادت قوتها ودورها ومكانتها، وضاعفت منها جميعاً، وأمست بعد جهد وعرق وتضحيات، هى الدولة المفتاح فى إقليمها، وفى منطقتها، وفى قارتها.

حينما عادت مصر، عاد السودان، وعادت ليبيا، وصار بالإمكان إنقاذ شعب غزة من القصف الوحشى الإجرامى، بل وإعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة اهتمام العالم، بعدما ظن الجميع -وأولهم بعض العرب- أن تلك القضية انتقلت إلى ذمة التاريخ..!

إذا عُزَّت مصر، عز العرب.
تلك حقيقة لا جدال فيها، تحدثنا بها الوقائع، والحادثات على مر العصور.

الكبرى مصر، لا تحتاج إلى شهادة من فرد أو حركة أو دولة، على تبنيها لقضية فلسطين، ودفاعها عن حق شعبها فى إقامة دولته المستقلة على أرضه وعاصمتها القدس الشريف.


يكفى مصر أنها ضحت بأكثر من مائة ألف شهيد على مدار خمس حروب من أجل قضية فلسطين وبسببها، وهو ما يقرب من ضعف أعداد شهداء الشعب الفلسطينى منذ نكبة 1948 وحتى الآن.

والكبير قائدها، لا ينتظر كلمة شكر أو عبارة إشادة من أى أحد، على قوميته الصادقة وعروبته المخلصة ولم يبتغ من موقفه الصريح إلا حقن الدماء الفلسطينية وإنقاذ أرواح الأطفال والنساء والشباب والرجال من أبناء غزة المنكوبة، مثلما لم يرد من وراء سعيه لجمع الصف الفلسطينى عبر إجراء المصالحة بين الفصائل، سوى الحيلولة دون تصفية القضية بين أبنائها، ولم الشمل توطئة لتمهيد الطريق نحو استئناف التفاوض لإقرار الحق الفلسطينى وفق حل الدولتين.

حينما كانت القنابل والصواريخ الإسرائيلية تنهال على بؤساء غزة المناضلة، تهدم بيوتهم على رءوسهم، كان البعض ممن يفترض فيهم المسئولية الأولى عن صون دماء وأرواح أبناء القطاع، يتابعون أعمال القصف والتدمير عبر شاشات التليفزيون، فى دول أخرى، وكأنهم يشاهدون مباراة فى الملاكمة، لا تصيبهم هم اللكمات ولا تدمى وجوههم.

وحينما كان صراخ الأطفال المذعورين يمزق القلوب، وهم يسيرون وراء نعوش آبائهم، وكانت جثث الصغار تنتشل من تحت الانقاض، تشيعهم ولولة أمهاتهم الثكلى، كان بعض العرب يضن حتى ببيانات كلامية تشجب وتدين وتستنكر، وكان البعض يتحسس تصريحاته، حتى لا تخدش شعور المعتدين، بينما غير العرب من القوى الإقليمية إما التزموا الصمت الرهيب واختبأوا، وإما أطلقوا حناجرهم تهتف بالموت لإسرائيل فى نضال ميكروفونى مجانى، مادام حتى آخر قطرة دم فلسطينية..!

منذ أول طلقة، سارعت مصر لوقف العدوان على غزة وذرائعه. أوفد القائد وفوداً من المخابرات العامة، تبذل جهوداً هنا وهناك، دون أن يصيبها اليأس من التشدد والتعنت الإسرائيلى، وميل غطرسة القوة إلى تصعيد العدوان، ردا على صرخات مقذوفات، تستهدف إيقاف القصف الوحشى.

أمسك الرئيس السيسي برغيف الخبز المصرى، واقتسمه مع الأشقاء من أبناء غزة التعساء ليعلن عن تقديم ٥٠٠ مليون دولار، أى نحو ٨ مليارات جنيه مصرى، لإعمار غزة بعد الدمار الذى خلفه العدوان، على أن تتولى الشركات المصرية المختصة بناء المنشآت الخدمية والمساكن التى تهدمت، حتى يصل عون الشقيق الأكبر إلى مستحقيه على أكمل وجه.

وصدرت الأوامر الرئاسية بفتح منفذ رفح لإخلاء المصابين، عبر عشرات من سيارات الإسعاف، التى نقلتهم إلى المستشفيات المصرية لتجرى لهم الجراحات اللازمة بأفضل رعاية صحية.
وبينما جهود فريق الأمن المصرى رفيع المستوى، تتواصل مع السلطات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية، وتقترب من التوصل إلى اتفاق، كان البعض يراهن على فشلها، ويتمنى ألا تنجح، غير أنه حينما تكللت تلك الجهود بالتوفيق فى الوصول إلى وقف لإطلاق النار، قبيل فجر أول أمس، وجدنا هؤلاء يتزاحمون من أجل نيل قطعة حيث لا كعكة، وانتحال دور حيث لا مسرح..!

وفى صبيحة وقف إطلاق النار، ووسط أصداء الألعاب النارية وقبل أن يخبو لمعانها، وفى خضم هدير صيحات الفرح التى دوت فى سماء غزة ومدن فلسطينية، والهتافات الصادقة لمصر وقائدها، انطلقت قافلة الأخوة المصرية إلى أبناء غزة عبر منفذ رفح، تضم ١٣٠ شاحنة، محملة بمواد غذائية تزن أكثر من ٢٢٠٠ طن، ونحو ٦ أطنان من الأدوية وألبان الأطفال، و٨ أطنان من المنظفات والكمامات، و٢٤ طنا من الملابس والمفروشات، و٥٠ طنا من الأدوات الكهربائية تضم ٢١٢ ألف قطعة وجهاز.

بعيداً عن عبارات الثناء وبيانات الإشادة، أمريكيا وعالميا وعربيا، التى أسبغت الشكر دون تحفظ على الدور الذى قام به الرئيس السيسى من أجل وقف إطلاق النار فى غزة، والجهود التى بذلها فريق الوساطة المصرية مع الجانبين، كان الملاحظ فى مكالمة الرئيس الأمريكى مع الرئيس السيسى عقب التوصل إلى وقف إطلاق النار، تأكيده على دور مصر التاريخى والمحورى فى الشرق الأوسط وشرق المتوسط وأفريقيا لدعم الاستقرار وتسوية الأزمات، وهو اعتراف يتخطى ما كان ينظر إليه فيما قبل بشأن الدور المصرى وقصره على منطقة الشرق الأوسط.

كان الملاحظ أيضا هو أن الرئيس السيسي قفز فى حديثه فوق حد الوقوف عند وقف إطلاق نار أو هدنة فى غزة، لافتا نظر الرئيس الأمريكى إلى أن التوصل إلى حل جذرى شامل للقضية الفلسطينية يضمن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة فى إقامة دولته وفق المرجعيات الدولية، هو الكفيل بإنهاء العنف وحالة التوتر المزمنة فى المنطقة وتحقيق أمنها واستقرارها.

ولعل منطق الرئيس السيسى كان وراء تصريح الرئيس بايدن بعدها بساعات فى مؤتمر صحفي، بأن حل الدولتين هو السبيل الوحيد الممكن لإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وهو تصريح غاب عن أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية على مدار 4 سنوات مضت.

المهمة التى استدعت مصر نفسها لتنفيذها فى أعقاب تدهور الأوضاع فى غزة، لا تتوقف عند حد وقف إطلاق النار.

فى الأيام القادمة، تجمع مصر الفصائل الفلسطينية بممثلى السلطات الإسرائيلية بفرض تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، سعيا للوصول إلى تهدئة طويلة الأمد.

على نفس المسار، أحسب أن الجهود المصرية ستمتد إلى عودة مسار الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية إلى طريقها بعدما تقرر تأجيلها لإحجام إسرائيل عن الموافقة على إشراك أبناء القدس الشرقية فى التصويت.

وغرض مصر، هو إيجاد سلطة منتخبة، للدخول فى المفاوضات المأمولة، وقطع الطريق على حكومة إسرائيل فى التذرع بعدم وجود شريك فلسطينى يمكن التفاوض معه، حتى يمكن استثمار الزخم الذى ولدته الدماء الفلسطينية الطاهرة التى أريقت على أرض غزة، نحو طريق يصل حتما إلى إقامة الدولة الفلسطينية.

لا أستطيع وأنا أتحدث عن الترحيب العالمي، والارتياح العربى، والابتهاج الفلسطينى، بالموقف المصري ونجاح الشقيق الأكبر للعرب فى وقف العدوان على غزة، أن أتغافل عن سموم الكراهية التى بثها الإخوان عبر وسائل التواصل الاجتماعى وشاشات الفضائيات المأجورة، حقداً على مصر وقائدها، وتشكيكا فى موقفها وبواعثه قبيل وقف إطلاق النار وبعده، وبدا واضحا أن نفوسهم العفنة كانت تتمنى أن تزهق كل أرواح الغزاويين، على أن تصونها مصر بقيادة السيسى.

على أننى اكتشفت مجددا أن أخون الخونة من الإخوان، أولئك الذين يحملون الجنسية المصرية وهم فى قلوبهم يمقتون كل ما هو مصرى.

لعنهم الله وأساء وجوههم على سواد قلوبهم وفساد ضمائرهم.