وشم الطائر.. جماليات الألم وسيمياء الطبيعة والأحلام 

وشم الطائر
وشم الطائر

محمد‭ ‬سليم‭ ‬شوشة

رواية‭ ‬“وشم‭ ‬الطائر”‭ ‬للروائية‭ ‬والشاعرة‭ ‬العراقية‭ ‬دنيا‭ ‬ميخائيل‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الرافدين‭ ‬2020‭ ‬والتى‭ ‬بلغت‭ ‬القائمة‭ ‬القصيرة‭ ‬فى‭ ‬البوكر‭ ‬العربية‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬تقديرنا‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الروايات‭ ‬العربية‭ ‬ثراء‭ ‬وجمالا‭ ‬وتعد‭ ‬نموذجا‭ ‬سرديا‭ ‬فريدا‭ ‬وذات‭ ‬خصوصية‭ ‬استثنائية‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬عالمها‭ ‬وبناءها‭ ‬السردى‭ ‬وما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬النواتج‭ ‬الدلالية‭ ‬والقيمة‭ ‬الإنسانية‭.‬‮ ‬

لهذه‭ ‬الرواية‭ ‬عديد‭ ‬المنجزات‭ ‬الجمالية‭ ‬والدلالية‭ ‬التى‭ ‬تنبع‭ ‬منها‭ ‬أهميتها،‭ ‬أولها‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬تقليدية‭ ‬أو‭ ‬معتادة‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬ارتباطها‭ ‬بمقاربة‭ ‬الإرهاب‭ ‬أو‭ ‬رصد‭ ‬جرائم‭ ‬داعش‭ ‬وما‭ ‬تسببوا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬وقتل‭ ‬وتخريب،‭ ‬فهى‭ ‬لا‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬بعينه‭ ‬من‭ ‬الطابع‭ ‬الرسائلى‭ ‬الانتقادي،‭ ‬بل‭ ‬تبدو‭ ‬برغم‭ ‬رصدها‭ ‬كابوسية‭ ‬ما‭ ‬تخلفه‭ ‬داعش‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬معنية‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬الأساس‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬معنية‭ ‬برصد‭ ‬جماليات‭ ‬حياة‭ ‬عائلة‭ ‬“شموّ”‭ ‬الإيزيدية‭ ‬وأسطورية‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬هيلين‭ ‬وإلياس‭ ‬وغرائبية‭ ‬حياة‭ ‬الجبل‭ ‬ورمزية‭ ‬الطيور‭ ‬والنباتات‭ ‬هناك‭ ‬وأن‭ ‬توغل‭ ‬فى‭ ‬وصف‭ ‬الثقافة‭ ‬المحلية‭ ‬وتقربها‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬جوانبها،‭ ‬وتبدو‭ ‬الرواية‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬التحقق‭ ‬والثقل‭ ‬التى‭ ‬تجعلها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬فيلما‭ ‬تسجيليا‭ ‬أو‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬تسجيلى‭ ‬وتوثيقى‭ ‬أكيد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والفن‭ ‬أو‭ ‬التخييل،‭ ‬وتبدو‭ ‬بثقل‭ ‬عالمها‭ ‬وتفاصيله‭ ‬واكتمالها‭ ‬وتناغمها‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬الافتعال‭ ‬أو‭ ‬التأليف‭ ‬فتكون‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬التوثيقية‭ ‬أو‭ ‬التسجيلية‭ ‬التى‭ ‬يصبح‭ ‬المتلقى‭ ‬معها‭ ‬فى‭ ‬أعلى‭ ‬مراتب‭ ‬الإيمان‭ ‬بحقيقة‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬وتفاصيل‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يعيشه‭ ‬بكل‭ ‬جوانحه‭ ‬وينغمس‭ ‬فى‭ ‬كابوسيته‭ ‬وكأنه‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬الحكاية‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬شخصياتها‭.‬‮ ‬

وفى‭ ‬تقديرنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬أمر‭ ‬مهم‭ ‬ويمثل‭ ‬اختلافا‭ ‬كبيرا‭ ‬عن‭ ‬السائد‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬المشغول‭ ‬بمقاربة‭ ‬التطرف‭ ‬من‭ ‬نواح‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬سياسية،‭ ‬فهنا‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إنساني،‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬القتل‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬الحياة،‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬الكراهية،‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬والأمل‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬الجنون‭ ‬واليأس،‭ ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬حافلة‭ ‬بالثنائيات‭ ‬المتناقضة‭ ‬والمتعارضة‭ ‬الضمنية‭ ‬وليست‭ ‬الصاخبة‭ ‬أو‭ ‬المعلن‭ ‬عنها،‭ ‬وهى‭ ‬ثنائيات‭ ‬يوحى‭ ‬بها‭ ‬عالم‭ ‬الرواية‭ ‬عبر‭ ‬ملامحه‭ ‬وتفاصيله‭ ‬وليست‭ ‬مباشرة‭ ‬فى‭ ‬لغة‭ ‬السرد‭ ‬أو‭ ‬مفرداته‭ ‬أو‭ ‬يصدح‭ ‬بها‭ ‬الصوت‭ ‬السردي‭.‬

وهكذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬ملامح‭ ‬العالم‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الاتساق‭ ‬والتكامل‭ ‬والتناغم‭ ‬بما‭ ‬يجعلها‭ ‬فى‭ ‬أعلى‭ ‬مراتب‭ ‬التصديق‭ ‬وأبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬التأليف‭ ‬أو‭ ‬التخيل‭ ‬المصطنع‭ ‬الذى‭ ‬قد‭ ‬تعتريه‭ ‬الثغرات‭ ‬أو‭ ‬غياب‭ ‬التبرير‭ ‬أو‭ ‬اللامنطقية‭ ‬برغم‭ ‬ترامى‭ ‬أطراف‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الروائى‭ ‬وكثرة‭ ‬حكاياته‭ ‬وتفاصيله‭ ‬وازدحامه‭ ‬بالإشارات‭ ‬والشخصيات‭ ‬والعلامات‭ ‬الدالة‭.‬‮ ‬

الرواية‭ ‬حافلة‭ ‬بجماليات‭ ‬عديدة‭ ‬ترتبط‭ ‬بجماليات‭ ‬الألم‭ ‬والمأساة‭ ‬والشجن‭ ‬وأدب‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مغاير‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬سائد‭ ‬من‭ ‬نبرة‭ ‬استدرار‭ ‬العاطفة،‭ ‬بل‭ ‬يلتزم‭ ‬الخطاب‭ ‬الروائى‭ ‬بنبرة‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬الرسم‭ ‬والتصوير‭ ‬تجعل‭ ‬وراء‭ ‬اللغة‭ ‬السردية‭ ‬دلالات‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يهمس‭ ‬بها‭ ‬الخطاب‭ ‬أو‭ ‬يلمّح‭ ‬لها‭ ‬دون‭ ‬إعلان،‭ ‬فهناك‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬المحايدة‭ ‬أو‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الثرثرة‭ ‬والذاتية‭ ‬فى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬عاطفى‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬والحكايات‭ ‬المأساوية‭ ‬التى‭ ‬يتضمنها‭ ‬خطاب‭ ‬الرواية،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬مساحات‭ ‬شاسعة‭ ‬للمتلقى‭ ‬ليعمل‭ ‬فيها‭ ‬وجدانه‭ ‬ومخيلته‭ ‬وإحساسه‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أشمل‭ ‬من‭ ‬الإحاطة‭ ‬والفهم‭.‬

وهى‭ ‬كذلك‭ ‬حافلة‭ ‬بجماليات‭ ‬المعرفة‭ ‬وبخاصة‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بثقافة‭ ‬الإيزيديين‭ ‬وتفاصيل‭ ‬حياتهم‭ ‬ومعيشتهم‭ ‬فى‭ ‬المأكل‭ ‬والمشرب‭ ‬والملبس‭ ‬والبيت‭ ‬والضيافة‭ ‬والعمل‭ ‬والزراعة‭ ‬وكافة‭ ‬جوانب‭ ‬الحياة،‭ ‬وهى‭ ‬تفاصيل‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬الجمال‭ ‬تأتى‭ ‬منثورة‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬الأحداث‭ ‬وبشكل‭ ‬عفوى‭ ‬وطبيعى‭ ‬وكأنها‭ ‬غير‭ ‬مقصودة‭ ‬لذاتها،‭ ‬وهذه‭ ‬الجماليات‭ ‬المعرفية‭ ‬التى‭ ‬تبحث‭ ‬فى‭ ‬ثقافة‭ ‬خاصة‭ ‬تجعل‭ ‬الرواية‭ ‬مضاعفة‭ ‬القيمة‭ ‬لأنها‭ ‬تمثل‭ ‬سياحة‭ ‬وتنقيبا‭ ‬لدى‭ ‬فئات‭ ‬خاصة‭ ‬وتمثل‭ ‬بحثا‭ ‬إثنولوجيا‭ ‬وإنثربولوجيا‭ ‬مهما،‭ ‬ويضيف‭ ‬للقارئ‭ ‬شيئا،‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معلوما‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬كذلك‭ ‬وصف‭ ‬طبوغرافى‭ ‬وجيولوجى‭ ‬وتنقلات‭ ‬عبر‭ ‬أماكن‭ ‬خاصة‭ ‬ونادرة‭ ‬الحضور‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬خصوصية‭ ‬العالم‭ ‬الروائى‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الثقافة‭ ‬والمكان‭ ‬أو‭ ‬البيئة‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬التى‭ ‬شكلت‭ ‬خصوصية‭ ‬الخطاب‭ ‬الروائى‭ ‬نفسه‭. ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬ثراء‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الخصوصية‭ ‬الثقافية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بعادات‭ ‬فى‭ ‬التواصل‭ ‬والإشارات‭ ‬وطرائق‭ ‬التعبير‭ ‬والتفاهم‭ ‬فى‭ ‬الجبال‭ ‬مثل‭ ‬استخدام‭ ‬الصفير‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬القرية‭ ‬أو‭ ‬الحيات‭ ‬غير‭ ‬السامة‭ ‬الأليفة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬العدوانية‭ ‬التى‭ ‬يلعب‭ ‬بها‭ ‬الأطفال‭ ‬والكبار،‭ ‬وكذلك‭ ‬ثقافة‭ ‬المنطقة‭ ‬أو‭ ‬هذه‭ ‬المحليات‭ ‬عن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الطير‭ ‬والاحتفال‭ ‬بالطقوس‭ ‬والأعياد‭ ‬التى‭ ‬تبدو‭ ‬بيئية‭ ‬أو‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬المعهود‭ ‬من‭ ‬الأعياد‭ ‬الدينية‭ ‬المعروفة،‭ ‬فهنا‭ ‬أعياد‭ ‬موغلة‭ ‬فى‭ ‬القدم‭ ‬ترتبط‭ ‬بالأساطير‭ ‬والحياة‭ ‬القديمة‭ ‬والخرافات‭ ‬مثل‭ ‬اختناق‭ ‬القمر‭ ‬أو‭ ‬أكل‭ ‬الحوت‭ ‬له‭ ‬وكيف‭ ‬تكون‭ ‬احتفالات‭ ‬هذه‭ ‬القبائل‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬صلواتهم‭ ‬وأطعمتهم‭ ‬وتاريخهم،‭ ‬وفى‭ ‬تقديرنا‭ ‬أنها‭ ‬كلها‭ ‬أجواء‭ ‬خاصة‭ ‬مهمة‭ ‬وفريدة‭ ‬وجديدة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ ‬فى‭ ‬مجملها‭.‬

فى‭ ‬الرواية‭ ‬حركة‭ ‬واسعة‭ ‬وضخمة‭ ‬فى‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬وحركة‭ ‬فى‭ ‬المصائر‭ ‬المعقدة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحب‭ ‬والحالمية‭ ‬والأمل‭ ‬وبين‭ ‬الموت‭ ‬والفقد‭ ‬والاختطاف‭ ‬والقتل‭ ‬والاغتصاب‭ ‬وغيرها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬تشكل‭ ‬فى‭ ‬المجمل‭ ‬لوحة‭ ‬حياتية‭ ‬مركبة‭ ‬وشديدة‭ ‬التعقيد‭ ‬لكنها‭ ‬تأتى‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬سرد‭ ‬روائى‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬معادلته‭ ‬الخاصة‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬بين‭ ‬كافة‭ ‬التناقضات‭ ‬تحولا‭ ‬تدريجيا‭ ‬أو‭ ‬مبررا‭ ‬وطبيعيا،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬انعكاس‭ ‬طبيعى‭ ‬للعنصر‭ ‬الجديد‭ ‬الذى‭ ‬دخل‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬خاصة‭ ‬هادئة‭ ‬فحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬جحيم،‭ ‬عنصر‭ ‬إضافى‭ ‬واحد‭ ‬صنع‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التفكك‭ ‬وبدل‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬إلى‭ ‬نقيضها‭.‬‮ ‬

حياة‭ ‬مركبة‭ ‬ومعقدة‭ ‬ومترامية‭ ‬الحكايات‭ ‬والتفاصيل‭ ‬والشخصيات‭ ‬يتبدلون‭ ‬من‭ ‬الرعى‭ ‬والأمل‭ ‬فى‭ ‬الحب‭ ‬والكسب‭ ‬والعلم‭ ‬والإنجاب‭ ‬والفن‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬كابوس‭ ‬يصنع‭ ‬فجوة‭ ‬شعورية‭ ‬هائلة‭ ‬لدى‭ ‬المتلقى‭ ‬نفسه‭ ‬فما‭ ‬بالنا‭ ‬بالشخصيات‭ ‬التى‭ ‬تعيش‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬أشبه‭ ‬بأثر‭ ‬البركان‭ ‬الذى‭ ‬يحاصر‭ ‬بحممه‭ ‬قرية‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬فيشردهم‭ ‬بشكل‭ ‬مفاجئ‭ ‬ودون‭ ‬إنذار‭ ‬فى‭ ‬مسارات‭ ‬ودروب‭ ‬من‭ ‬الغابة‭ ‬والطرق‭ ‬الوعرة‭. ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬التعقيد‭ ‬الشديد‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬الروائى‭ ‬الذى‭ ‬تتشكل‭ ‬منه‭ ‬رواية‭ ‬وشم‭ ‬الطائر‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬السرد‭ ‬الروائى‭ ‬أو‭ ‬الخطاب‭ ‬يأتى‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬التدفق‭ ‬والعفوية‭ ‬والسلاسل‭ ‬والتشويق‭ ‬والاختزال‭ ‬والتنوع‭ ‬بين‭ ‬السرعة‭ ‬والبطء‭.‬

إنها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الروايات‭ ‬الثرية‭ ‬التى‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دراسات‭ ‬عديدة‭ ‬تبحث‭ ‬فى‭ ‬سيمياء‭ ‬الطبيعية‭ ‬وتوظيف‭ ‬إشاراتها‭ ‬وعلاماتها‭ ‬ومحددات‭ ‬الثقافة‭ ‬الخاصة‭ ‬والبيئة‭ ‬وتوظيف‭ ‬رمزية‭ ‬الحلم‭ ‬والوشم‭ ‬وثقافة‭ ‬الارتباط‭ ‬والزواج‭ ‬وقصص‭ ‬الحب‭ ‬وغيرها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬التى‭ ‬نسجتها‭ ‬الرواية‭ ‬فى‭ ‬تراكب‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬يشكل‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬خطابا‭ ‬خاصا‭ ‬وممتعا‭ ‬وعلى‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬التشويق‭ ‬والقابلية‭ ‬للتأويل‭ ‬ويصنع‭ ‬ثنائيات‭ ‬عديدة‭.‬‮ ‬

فى‭ ‬الرواية‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬بنائها‭ ‬السردى‭ ‬ألعاب‭ ‬كثيرة‭ ‬تخص‭ ‬الزمن،‭ ‬حيث‭ ‬تبدأ‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬المنتصف‭ ‬وهى‭ ‬الذروة‭ ‬الكابوسية‭ ‬التى‭ ‬تعيشها‭ ‬هيلين‭ ‬وتتحرك‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬اتجاهين‭ ‬متناقضين‭ ‬للزمن،‭ ‬الأول‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬شديد‭ ‬الضبابية‭ ‬والكابوسية‭ ‬والألم‭ ‬والتراوح‭ ‬أيضا‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الأمل‭ ‬فى‭ ‬النجاة‭ ‬ولم‭ ‬شمل‭ ‬الأسرة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وجلاء‭ ‬هذا‭ ‬الكابوس،‭ ‬والاتجاه‭ ‬الثانى‭ ‬نحو‭ ‬الحياة‭ ‬الماضية‭ ‬ببراءتها‭ ‬وجمالها‭ ‬وعفويتها‭ ‬واستقرارها‭ ‬وما‭ ‬يلفها‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬سواء‭ ‬الأسرى‭ ‬أو‭ ‬الرومانتيكي،‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬وطأة‭ ‬الحاضر‭ ‬تحت‭ ‬الأسر‭ ‬الداعشى‭ ‬وكابوسيته‭ ‬وعبثيته‭ ‬وغرائبية‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يهيمن‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬مفردات،‭ ‬لتنطلق‭ ‬فى‭ ‬اتجاه‭ ‬الذكريات‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خداع‭ ‬جمالها‭ ‬أحيانا‭ ‬بحسب‭ ‬شعور‭ ‬الشخصية،‭ ‬وكأن‭ ‬الماضى‭ ‬بجماله‭ ‬كان‭ ‬يستثمر‭ ‬سذاجة‭ ‬الإنسان‭ ‬ويقوده‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭ ‬الكابوسي،‭ ‬وتتحرك‭ ‬فى‭ ‬اتجاه‭ ‬ثان‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬وهو‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬أو‭ ‬الحركة‭ ‬فى‭ ‬الزمن‭ ‬الطبيعى‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬البائس‭ ‬فى‭ ‬الأَسْر‭ ‬الداعشى‭ ‬إلى‭ ‬رحلة‭ ‬التحرر‭ ‬والخلاص،‭ ‬وهى‭ ‬رحلة‭ ‬مشوقة‭ ‬ومحفوفة‭ ‬بالمغامرة‭ ‬والمخاطر‭ ‬وأفق‭ ‬التوقع‭ ‬فيها‭ ‬يبدو‭ ‬مسدودا‭ ‬ويستثمرها‭ ‬الخطاب‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مثالى‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬مصير‭ ‬الشخصيات‭ ‬معلقا‭ ‬حتى‭ ‬النهاية،‭ ‬ويجعل‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬فى‭ ‬الفضاء‭ ‬السردى‭ ‬من‭ ‬الأسر‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬مشحونة‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬المفاجآت‭ ‬والصدمات،‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يتحرر‭ ‬ويستعيد‭ ‬حياته‭ ‬القديمة‭ ‬ويبدو‭ ‬كمن‭ ‬يبعث‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬بتعبير‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يفقدون‭ ‬حياتهم‭ ‬وذويهم‭ ‬فى‭ ‬حالات‭ ‬عديدة‭ ‬يسردها‭ ‬خطاب‭ ‬الرواية‭ ‬يتأرجح‭ ‬القارئ‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬شعورين‭ ‬متناقضين‭ ‬من‭ ‬الأمل‭ ‬واليأس،‭ ‬بين‭ ‬الفرح‭ ‬بانتصار‭ ‬الإنسان‭ ‬وبين‭ ‬قتامة‭ ‬الحزن‭ ‬بانتصار‭ ‬الشر‭.‬‮ ‬

وهكذا‭ ‬تبدو‭ ‬الرواية‭ ‬فى‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬التشويق‭ ‬من‭ ‬بدايتها‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬كلمة‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬يبدو‭ ‬المتلقى‭ ‬مشدودا‭ ‬إلى‭ ‬عالمها‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬اكتمال‭ ‬الخطاب‭ ‬فى‭ ‬ذهنه‭ ‬لأنه‭ ‬يصبح‭ ‬معلقا‭ ‬بمصائر‭ ‬شخصياتها‭ ‬ويتخيلهم‭ ‬ويكمل‭ ‬حياتهم‭ ‬وفق‭ ‬معطيات‭ ‬ذهنيته‭ ‬أو‭ ‬تصوره‭ ‬الخاص‭ ‬لهم‭. ‬

توظف‭ ‬الرواية‭ ‬الثقافة‭ ‬الدينية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مثالى‭ ‬باختلافها‭ ‬وتنوعها‭ ‬وغرابتها‭ ‬أحيانا‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬منطقيتها،‭ ‬وتصنع‭ ‬نسيجا‭ ‬أقرب‭ ‬للأسطورى‭ ‬أو‭ ‬الغرائبى‭ ‬أو‭ ‬يبدو‭ ‬منتميا‭ ‬بدرجة‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬عصور‭ ‬قديمة‭ ‬أو‭ ‬بدائية،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تكتسب‭ ‬الرواية‭ ‬سحريتها‭ ‬وجمالياتها،‭ ‬وتبدو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أجواء‭ ‬عوالم‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬أو‭ ‬الملاحم‭ ‬الأسطورية‭ ‬القديمة‭. ‬رحلة‭ ‬الإنسان‭ ‬الذى‭ ‬يدخل‭ ‬الغابة‭ ‬ولا‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬سالما‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬بقى‭ ‬حيا‭. ‬فيها‭ ‬مصائر‭ ‬عجائبية‭ ‬مثل‭ ‬الابنة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬اسم‭ ‬لها‭ ‬وتظل‭ ‬هكذا‭ ‬حتى‭ ‬تأتى‭ ‬تسميتها‭ ‬بشكل‭ ‬غريب‭ ‬بحلم‭ ‬لشخصية‭ ‬أخرى،‭ ‬أو‭ ‬الأبناء‭ ‬الذين‭ ‬يتحولون‭ ‬من‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬نقيضها،‭ ‬من‭ ‬الطفولة‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬الدواعش‭ ‬والحرب،‭ ‬ومن‭ ‬الزوجين‭ ‬اللذين‭ ‬يفترقان‭ ‬بشكل‭ ‬غريب‭ ‬وتبقى‭ ‬المرأة‭ ‬نموذجا‭ ‬للبقاء‭ ‬والصمود،‭ ‬حالات‭ ‬خاصة‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬الأمومة‭ ‬والصداقة‭ ‬والإخلاص‭ ‬والفدائية‭ ‬تجسدها‭ ‬الرواية‭ ‬وتصورها‭ ‬وهى‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬جماليات‭ ‬الرواية‭ ‬لأنها‭ ‬تجتذب‭ ‬المتلقى‭ ‬وتستحوذ‭ ‬على‭ ‬اهتمامه‭ ‬ومشاعره‭ ‬وتجعله‭ ‬منحازا‭ ‬بكليته‭ ‬لها‭.‬

فى‭ ‬الرواية‭ ‬توظيف‭ ‬مثالى‭ ‬للمكونات‭ ‬الدينية‭ ‬والأساطير‭ ‬والأحلام‭ ‬فى‭ ‬البناء‭ ‬السردي،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الخصوصية‭ ‬فى‭ ‬تراوحها‭ ‬بين‭ ‬التداولى‭ ‬والشعرى‭ ‬وبين‭ ‬السرعة‭ ‬والبطء‭ ‬وبين‭ ‬الاختزال‭ ‬والتكثيف‭ ‬والإسهاب‭ ‬والتفصيل‭ ‬والمشهدية‭ ‬التى‭ ‬تشكل‭ ‬استراتيجية‭ ‬سينمائية‭ ‬بامتياز،‭ ‬فهذه‭ ‬الرواية‭ ‬يمكن‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬درامى‭ ‬وسينمائى‭ ‬بشكل‭ ‬يسير،‭ ‬وتبدو‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬التشويق‭ ‬ومحتفظة‭ ‬بأغلب‭ ‬جمالياتها،‭ ‬وتبدو‭ ‬متجاوزة‭ ‬للتأريخ‭ ‬لأزمة‭ ‬الدواعش‭ ‬وسنواتهم‭ ‬السوداء‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬مؤرخة‭ ‬لألم‭ ‬إنسانى‭ ‬أكثر‭ ‬امتدادا،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬بها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجماليات‭ ‬التى‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دراسات‭ ‬وبحوث‭ ‬مطولة‭ ‬وجديرة‭ ‬بالقراءة‭ ‬والاهتمام‭ ‬النقدى‭ ‬الكبير،‭ ‬وتنفتح‭ ‬على‭ ‬تأويلات‭ ‬عديدة‭ ‬وتبدو‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬الثراء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬علاماتها‭ ‬وإشاراتها‭ ‬وتوظيف‭ ‬الشخصيات‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬استعادى‭ ‬أو‭ ‬دائرى‭ ‬يجعلها‭ ‬أقرب‭ ‬لمنظومة‭ ‬مركبة‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬وذات‭ ‬تشابك‭ ‬بين‭ ‬عناصرها‭ ‬لكنها‭ ‬تأتى‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬العفوية‭ ‬والتدفق‭ ‬السردي،‭ ‬وهذه‭ ‬المعادلة‭ ‬بذاتها‭ ‬جديرة‭ ‬بالبحث‭ ‬والدرس‭ ‬والتأمل‭.‬