محمد سليم شوشة
رواية “وشم الطائر” للروائية والشاعرة العراقية دنيا ميخائيل الصادرة عن دار الرافدين 2020 والتى بلغت القائمة القصيرة فى البوكر العربية لهذا العام هى فى تقديرنا واحدة من أكثر الروايات العربية ثراء وجمالا وتعد نموذجا سرديا فريدا وذات خصوصية استثنائية فيما يخص عالمها وبناءها السردى وما لها من النواتج الدلالية والقيمة الإنسانية.
لهذه الرواية عديد المنجزات الجمالية والدلالية التى تنبع منها أهميتها، أولها أنها ليست تقليدية أو معتادة فيما يخص ارتباطها بمقاربة الإرهاب أو رصد جرائم داعش وما تسببوا فيه من تدمير وقتل وتخريب، فهى لا تركز على جانب بعينه من الطابع الرسائلى الانتقادي، بل تبدو برغم رصدها كابوسية ما تخلفه داعش كما لو أنها غير معنية بهم من الأساس بقدر ما هى معنية برصد جماليات حياة عائلة “شموّ” الإيزيدية وأسطورية قصة حب هيلين وإلياس وغرائبية حياة الجبل ورمزية الطيور والنباتات هناك وأن توغل فى وصف الثقافة المحلية وتقربها من جميع جوانبها، وتبدو الرواية كذلك على درجة كبيرة من التحقق والثقل التى تجعلها كما لو كانت فيلما تسجيليا أو ذات طابع تسجيلى وتوثيقى أكيد، وهو ما يجعلها تتراوح بين الحقيقة والفن أو التخييل، وتبدو بثقل عالمها وتفاصيله واكتمالها وتناغمها أبعد ما تكون عن الافتعال أو التأليف فتكون أقرب إلى هذه النزعة التوثيقية أو التسجيلية التى يصبح المتلقى معها فى أعلى مراتب الإيمان بحقيقة هذه الحكاية وتفاصيل ذلك العالم ومن ثم يعيشه بكل جوانحه وينغمس فى كابوسيته وكأنه قد عاش الحكاية أو كان واحدا من شخصياتها.
وفى تقديرنا أن هذا أمر مهم ويمثل اختلافا كبيرا عن السائد من السرد المشغول بمقاربة التطرف من نواح فكرية أو سياسية، فهنا التركيز على كل ما هو إنساني، التركيز على القتل فى مقابل الحياة، على الحب فى مقابل الكراهية، على العقل والأمل فى مقابل الجنون واليأس، ولهذا فإن الرواية حافلة بالثنائيات المتناقضة والمتعارضة الضمنية وليست الصاخبة أو المعلن عنها، وهى ثنائيات يوحى بها عالم الرواية عبر ملامحه وتفاصيله وليست مباشرة فى لغة السرد أو مفرداته أو يصدح بها الصوت السردي.
وهكذا يمكن القول بأن ملامح العالم فى هذه الرواية على قدر كبير من الاتساق والتكامل والتناغم بما يجعلها فى أعلى مراتب التصديق وأبعد ما تكون عن التأليف أو التخيل المصطنع الذى قد تعتريه الثغرات أو غياب التبرير أو اللامنطقية برغم ترامى أطراف هذا العالم الروائى وكثرة حكاياته وتفاصيله وازدحامه بالإشارات والشخصيات والعلامات الدالة.
الرواية حافلة بجماليات عديدة ترتبط بجماليات الألم والمأساة والشجن وأدب الحرب على نحو مغاير لما هو سائد من نبرة استدرار العاطفة، بل يلتزم الخطاب الروائى بنبرة خاصة من الرسم والتصوير تجعل وراء اللغة السردية دلالات غير مباشرة يمكن أن يهمس بها الخطاب أو يلمّح لها دون إعلان، فهناك درجة من المحايدة أو الابتعاد عن الثرثرة والذاتية فى التعبير عن موقف عاطفى معين من الأحداث والحكايات المأساوية التى يتضمنها خطاب الرواية، بل هناك مساحات شاسعة للمتلقى ليعمل فيها وجدانه ومخيلته وإحساسه حتى يصل إلى درجة أشمل من الإحاطة والفهم.
وهى كذلك حافلة بجماليات المعرفة وبخاصة ما يرتبط بثقافة الإيزيديين وتفاصيل حياتهم ومعيشتهم فى المأكل والمشرب والملبس والبيت والضيافة والعمل والزراعة وكافة جوانب الحياة، وهى تفاصيل فى غاية الجمال تأتى منثورة فى إطار الأحداث وبشكل عفوى وطبيعى وكأنها غير مقصودة لذاتها، وهذه الجماليات المعرفية التى تبحث فى ثقافة خاصة تجعل الرواية مضاعفة القيمة لأنها تمثل سياحة وتنقيبا لدى فئات خاصة وتمثل بحثا إثنولوجيا وإنثربولوجيا مهما، ويضيف للقارئ شيئا، ربما لم يكن معلوما له على هذا النحو، فى الرواية كذلك وصف طبوغرافى وجيولوجى وتنقلات عبر أماكن خاصة ونادرة الحضور فى الرواية العربية، وهكذا فإن خصوصية العالم الروائى من حيث الثقافة والمكان أو البيئة هى من العوامل التى شكلت خصوصية الخطاب الروائى نفسه. فى الرواية ثراء نابع من هذه الخصوصية الثقافية المرتبطة بعادات فى التواصل والإشارات وطرائق التعبير والتفاهم فى الجبال مثل استخدام الصفير بين أفراد القرية أو الحيات غير السامة الأليفة أو غير العدوانية التى يلعب بها الأطفال والكبار، وكذلك ثقافة المنطقة أو هذه المحليات عن التعامل مع الطير والاحتفال بالطقوس والأعياد التى تبدو بيئية أو مختلفة عن المعهود من الأعياد الدينية المعروفة، فهنا أعياد موغلة فى القدم ترتبط بالأساطير والحياة القديمة والخرافات مثل اختناق القمر أو أكل الحوت له وكيف تكون احتفالات هذه القبائل به أو صلواتهم وأطعمتهم وتاريخهم، وفى تقديرنا أنها كلها أجواء خاصة مهمة وفريدة وجديدة بالنسبة للرواية العربية فى مجملها.
فى الرواية حركة واسعة وضخمة فى الزمان والمكان وحركة فى المصائر المعقدة ما بين الحب والحالمية والأمل وبين الموت والفقد والاختطاف والقتل والاغتصاب وغيرها الكثير من الأحداث التى تشكل فى المجمل لوحة حياتية مركبة وشديدة التعقيد لكنها تأتى فى إطار سرد روائى تمكن من أن يصنع معادلته الخاصة بأن يجعل هذه التحولات بين كافة التناقضات تحولا تدريجيا أو مبررا وطبيعيا، والحقيقة أن هذا انعكاس طبيعى للعنصر الجديد الذى دخل على حياة خاصة هادئة فحوّلها إلى جحيم، عنصر إضافى واحد صنع كل هذا التفكك وبدل الحياة من حال إلى نقيضها.
حياة مركبة ومعقدة ومترامية الحكايات والتفاصيل والشخصيات يتبدلون من الرعى والأمل فى الحب والكسب والعلم والإنجاب والفن والاستمتاع بكل ما فى الحياة إلى كابوس يصنع فجوة شعورية هائلة لدى المتلقى نفسه فما بالنا بالشخصيات التى تعيش هذا العالم. إن الأمر أشبه بأثر البركان الذى يحاصر بحممه قرية أو مجموعة من البشر فيشردهم بشكل مفاجئ ودون إنذار فى مسارات ودروب من الغابة والطرق الوعرة. فى مقابل التعقيد الشديد فى العالم الروائى الذى تتشكل منه رواية وشم الطائر نجد أن السرد الروائى أو الخطاب يأتى فى غاية التدفق والعفوية والسلاسل والتشويق والاختزال والتنوع بين السرعة والبطء.
إنها واحدة من أبرز الروايات الثرية التى تحتاج إلى دراسات عديدة تبحث فى سيمياء الطبيعية وتوظيف إشاراتها وعلاماتها ومحددات الثقافة الخاصة والبيئة وتوظيف رمزية الحلم والوشم وثقافة الارتباط والزواج وقصص الحب وغيرها الكثير من العناصر التى نسجتها الرواية فى تراكب مع بعضها يشكل فى النهاية خطابا خاصا وممتعا وعلى أعلى درجات التشويق والقابلية للتأويل ويصنع ثنائيات عديدة.
فى الرواية كذلك من حيث بنائها السردى ألعاب كثيرة تخص الزمن، حيث تبدأ الرواية من المنتصف وهى الذروة الكابوسية التى تعيشها هيلين وتتحرك بعد ذلك فى اتجاهين متناقضين للزمن، الأول نحو المستقبل شديد الضبابية والكابوسية والألم والتراوح أيضا بينه وبين الأمل فى النجاة ولم شمل الأسرة مرة أخرى وجلاء هذا الكابوس، والاتجاه الثانى نحو الحياة الماضية ببراءتها وجمالها وعفويتها واستقرارها وما يلفها من الحب سواء الأسرى أو الرومانتيكي، تبدأ من ثقل وطأة الحاضر تحت الأسر الداعشى وكابوسيته وعبثيته وغرائبية كل ما يهيمن عليه من مفردات، لتنطلق فى اتجاه الذكريات بما كان فيها من خداع جمالها أحيانا بحسب شعور الشخصية، وكأن الماضى بجماله كان يستثمر سذاجة الإنسان ويقوده إلى هذا المصير الكابوسي، وتتحرك فى اتجاه ثان كما ذكرت وهو نحو المستقبل أو الحركة فى الزمن الطبيعى من الحاضر البائس فى الأَسْر الداعشى إلى رحلة التحرر والخلاص، وهى رحلة مشوقة ومحفوفة بالمغامرة والمخاطر وأفق التوقع فيها يبدو مسدودا ويستثمرها الخطاب على نحو مثالى بأن يجعل مصير الشخصيات معلقا حتى النهاية، ويجعل هذه المساحة فى الفضاء السردى من الأسر إلى الحرية مشحونة بالعديد من المفاجآت والصدمات، بين من يتحرر ويستعيد حياته القديمة ويبدو كمن يبعث ويعود إلى الحياة بعد موت بتعبير الرواية، أو من يفقدون حياتهم وذويهم فى حالات عديدة يسردها خطاب الرواية يتأرجح القارئ فيها بين شعورين متناقضين من الأمل واليأس، بين الفرح بانتصار الإنسان وبين قتامة الحزن بانتصار الشر.
وهكذا تبدو الرواية فى أقصى درجات التشويق من بدايتها حتى آخر كلمة فيها، بل يبدو المتلقى مشدودا إلى عالمها حتى بعد اكتمال الخطاب فى ذهنه لأنه يصبح معلقا بمصائر شخصياتها ويتخيلهم ويكمل حياتهم وفق معطيات ذهنيته أو تصوره الخاص لهم.
توظف الرواية الثقافة الدينية على نحو مثالى باختلافها وتنوعها وغرابتها أحيانا أو لا منطقيتها، وتصنع نسيجا أقرب للأسطورى أو الغرائبى أو يبدو منتميا بدرجة ما إلى عصور قديمة أو بدائية، ومن هنا تكتسب الرواية سحريتها وجمالياتها، وتبدو أقرب إلى أجواء عوالم ألف ليلة وليلة أو الملاحم الأسطورية القديمة. رحلة الإنسان الذى يدخل الغابة ولا يخرج منها سالما حتى وإن بقى حيا. فيها مصائر عجائبية مثل الابنة التى لا اسم لها وتظل هكذا حتى تأتى تسميتها بشكل غريب بحلم لشخصية أخرى، أو الأبناء الذين يتحولون من الحال إلى نقيضها، من الطفولة إلى عوالم الدواعش والحرب، ومن الزوجين اللذين يفترقان بشكل غريب وتبقى المرأة نموذجا للبقاء والصمود، حالات خاصة جدا من الأمومة والصداقة والإخلاص والفدائية تجسدها الرواية وتصورها وهى كلها من جماليات الرواية لأنها تجتذب المتلقى وتستحوذ على اهتمامه ومشاعره وتجعله منحازا بكليته لها.
فى الرواية توظيف مثالى للمكونات الدينية والأساطير والأحلام فى البناء السردي، كما أن لغة الرواية على قدر كبير من الخصوصية فى تراوحها بين التداولى والشعرى وبين السرعة والبطء وبين الاختزال والتكثيف والإسهاب والتفصيل والمشهدية التى تشكل استراتيجية سينمائية بامتياز، فهذه الرواية يمكن تحويلها إلى عمل درامى وسينمائى بشكل يسير، وتبدو فى غاية التشويق ومحتفظة بأغلب جمالياتها، وتبدو متجاوزة للتأريخ لأزمة الدواعش وسنواتهم السوداء لأن تكون مؤرخة لألم إنسانى أكثر امتدادا، والحقيقة أن بها الكثير من الجماليات التى تحتاج إلى دراسات وبحوث مطولة وجديرة بالقراءة والاهتمام النقدى الكبير، وتنفتح على تأويلات عديدة وتبدو فى غاية الثراء من حيث علاماتها وإشاراتها وتوظيف الشخصيات فيها على نحو استعادى أو دائرى يجعلها أقرب لمنظومة مركبة من العلاقات وذات تشابك بين عناصرها لكنها تأتى فى إطار من العفوية والتدفق السردي، وهذه المعادلة بذاتها جديرة بالبحث والدرس والتأمل.