زمن الأجداد| «البعكوكة» مجلة بدون محررين.. وصل توزيعها 160 ألف نسخة

مجلبة البعكوكة
مجلبة البعكوكة


 

 

تاريخ الصحافة الساخرة في مصر يتوقف كثيراً أمام حالة شكلت العديد من التناقضات.. مجلة بلا محررين يحررها صاحبها وزوجته فقط.. يصل توزيعها بعد فترة إلى 160 ألف نسخة.. ترفض الإعلانات وتكتب ذلك بوضوح حتى لا يفكر معلن في الاقتراب منها.. مجلة البعكوكة التى صدرت باسم مجلة الراديو عام 1934 (صاحبها ومديرها محمود عزت المفتى.. رئيس تحريرها حبيب مجلي طعرم.. الإدارة 6 شارع الداخلية بجوار ضريح سعد باشا وبيت الأمة.. تليفون 40422 مصر.. الاشتراكات 100 قرش عن السنة) وهو نفس العام الذى افتتحت فيه الحكومة المصرية الإذاعة بشكل رسمى31 مايو 1934 وكانت مجلة من القطع المتوسط تصدر لتباع بخمسة مليمات فقط.. وقد اختار صاحبها محمود عزت المفتى الاسم لأن الراديو كان حدثاً مهماً للمصريين وقد حصل المفتى على الترخيص بمساعدة وضمان من تاجر أقمشة ثرى بالغورية (محمد الحمصانى).

 

 

ساعده فى جلب الإعلانات من أصدقائه تجار الجملة والتجزئة وهو ما دفعه إلى مواصلة إصدار المجلة التى احتوت فى اعدادها الأولى على بعض النكات والطرائف والمسابقات بالإضافة إلى برامج الراديو خلال الأسبوع وهى المنافسة التى كانت دائماً مع مجلة الراديو المصرى المجلة الرسمية للإذاعة والتى منعت على المجلات برامج الراديو واعتبرتها من الأسرار الخاصة ولكن صاحب البعكوكة كان يحصل عليها من التوزيع مساء حتى تنشر فى مجلته.

 

 تطور تحرير المجلة فى مساهمات بعض القراء دون الالتزام بالأجر لهم فأصبحت خليطاً من الأدب والسياسة والفن والنقد الاجتماعى واستمرت بلا طابع ولا شكل ولا شخصية فقط تجمع المساهمات وتعتمد على برامج الراديو لجذب العدد الأكبر من القراء بالإضافة إلى بعض الإعلانات التي كانت تساعد بجانب التوزيع فى نفاذ 200 عدد فقط جملة ما تطبعه أسبوعياً وتحقق لصاحبها بعض الربح لمواصلة الإصدار واستمرت الراديو على ذلك حتى عام 1937.

 

 وفى هذا العام كتب فيها شاب أزهرى لم يتجاوز عمره 19 عاماً يدعي (طه محمد حراز) صفحة بعنوان (على كيفك) كانت وش السعد على صاحب الراديو، حيث جذبت عدد أكبر من القراء فأصبحت الصفحة أربع صفحات مستقلة عن الراديو بلون واحد مختلف وصل توزيع المجلة إلى ألف نسخة أسبوعياً واستمر طه حراز فى تحرير المجلة الصغيرة داخل الراديو حتى وصلت إلى 8 صفحات أسبوعياً وأختار لها اسم البعكوكة (جريدة عصبية تصدر حسب التساهيل.. إدارة الجريدة شارع أنست يا نور العين.. نمرة لا طلعت ولا نزلت.. تليفون مافيش.. صاحبها مالوش دعوة بيها.. محررها متبرئ منها.. العدد فى الليمون.. يوم الهنا الموافق يرفع صباعه.. السنة اللى إحنا فيها.. الاشتراكات عن السنة: أنت وذمتك.. عن نصف: اللى فى القسمة.. ولا تقل قيمة الاشتراكات عن شلن بأى حال لحسن عيب).. ليحقق الاسم الجديد نجاحاً كبيراً ويصبح حديث القراء.. مما دفع صاحب المجلة إلى تغير المجلة لتصبح الراديو والبعكوكة ولكن موزعي وباعة الصحف وحتى القراء كانوا يسألون عن البعكوكة فلم يكن مفر من تراجع اسم الراديو أمام البعكوكة وليصبح اسم المجلة البعكوكة ويرتفع التوزيع إلى 40 ألف نسخة أسبوعياً ثم 160 ألف نسخة بعشرة مليمات ثم 15 مليماً ثم 20 مليماً للعدد الممتاز الشهرى وانتقلت من المطابع الأهلية الصغيرة لتطبع فى جريدة (لا باترى) بحى الأزبكية وكانت تطبع فقط ولكن صف الحروف يتم فى مطبعة (لينوتيب) وعندما تجاوزت 100 ألف نسخة انتقلت إلى مطابع جريدة المصرى التى تمتلك إمكانيات الطباعة وصف الحروف.

واستمر النجاح وتطور شكل البعكوكة ووصلت إلى القمة وتراجعت المجلات الفكاهية أمامها فتوقفت الصرخة والمطرقة.. وفى منتصف الخمسينات بدأت الضرائب تثقل صاحبها حتى فكر فى توقف البعكوكة ولكنه تراجع وتولى عبدالله أحمد عبدالله رئاسة تحريرها حتى توقفت فى 1953 بعد إلغاء رخص المجلات الخاصة، وعاش صاحبها فى منفى اختيارى أرض البيطاش بالعجمى أواخر أيام حياته بعد إصابته بالشلل قبل وفاتة بعام.

 

صاحب البعكوكة

 

لا يمكن الحديث عن مجلة البعكوكة دون الحديث عن شخصية صاحبها ليس لأننا أمام صاحب مجلة صنعت حالة خاصة فى تاريخ الصحافة المصرية والساخرة ولكن لأنه شخصية جديرة بالدراسة والحكى وقد ندر الحديث عنه كثيراً سوى بعض كتابات الراحل عبدالله أحمد عبدالله وهى مصدرنا فى الحديث عن صاحب البعكوكة.

 

محمود عزت المفتى أو المفتى بك التى طالما حلم بهذا اللقب وكان على استعداد أن يدفع الكثير للحصول عليه ولكنه لم يكن اسمه الحقيقى الذى اختفى وراءه أم اسمه فهو محمود أمين خطاب شاب مصرى والده أزهرى أنشأ جمعية خطاب للعلوم الإسلامية ودرس العلم بها..

 

 كان محمود يحضر دروس والده ولكنه أنخرط أكثر فى السياسة حتى جلبت عليه العديد المشاكل فهرب إلى السودان ولم يكمل تعليمه الأزهرى وعمل هناك فى بعض الحرف البسيطة وهى الفترة التى لم يكن يحكى عنها كثيراً حتى لأقرب الناس إليه.. وبعد أن هذه الأمور السياسية بعض الشىء جاء إلى مصر براً وغير اسمه إلى محمود عزت المفتى وبقروش قليلة فتح دكان صغير لبيع الأسطوانات (أسطونات الملاليم) بالموسكى وكان يبيع الأسطونات بنفس تمنها ولكن بالتقسيط على عدد من الأسابيع ومكسب المفتى من المبلغ البسيط الذى يستطيع إقناع شركات الأسطونات بتخفيض المكسب أو من الأبر المجانية التى كانت تعطى له هدية نظير شرائه كمية من الأسطونات علاوة على هدايا من كبار المطربين له لبيع أسطوانتهم بسرعة.. وفى نفس الوقت عمل مندوبًا لدى بعض شركات التأمين وشركات الأوراق والسندات المالية وكلها محاولات للعيش وإدخار المال لعمل شىء ما ربما لم يكن يعرفه المفتى نفسه.

 

 استمر دكان أسطوانات الملاليم حتى ظهر الراديو 1934 عندها أدرك المفتى أن سوق الأسطوانات لن يدوم طويلاً.. فكر فى إنشاء شركة توزيع خاصة يكون هو صاحبها ومديرها الموظف الوحيد فيها بحيث ترسل له قيمة الاشتراك فى مجلتك المفضلة ويقوم هو بتوصيلها لك أسبوعياً بالبريد أو باليد عن طريق الدراجة التى استأجرها لشركته وأحياناً كانت قيمة الاشتراك أقل من الاشتراك الذى يمكن أن تدفعه لمجلتلك لقدرة المفتى على إقناع أصحاب المجلات بتخفيض الاشتراك له حتى يحقق بعض الملاليم البسيطة.

 

 وأحياناً ما كان يستخدم الاشتراكات فى بعض الأعمال التجارية التى تدر عليه بعض المكاسب البسيطة يصرف بعضها ويدخر الجزء الأكبر لمشروعه التجارى حتى تحقق له مبلغاً استطاع أن يحصل على رخصة إصدار مجلة (الراديو) بضمان (الحمصانى) من كبار التجار بالغورية.. وقام بتوزيع المجلة بنفسه ويطوف القاهرة بدراجته من أجل إقناع القارئ بشراء المجلة الوليدة ويذهب ليحصل الإعلان الوحيد بالمجلة لأحد المطاعم مقابل وجبة غداء بعشرة قروش و60 قرشاً باقى قيمة الإعلان يدفع 50 قرشاَ لفك رهن كمية المطبوع من المجلة و10 قروش يدفع 5 قروش لحساب اللوكاندة والقروش المتبقية تكفى إيجار الدراجة وحساب القهوة ووجبة عشاء صغيرة.

 

ولكن بعد الثراء الذى حدث له اشترى قصر «على جمال الدين باشا» وزير الحربية السابق وكان يقيم فيه أربع سهرات شهرياً يوم صدور البعكوكة وكان يذهب بنفسه صباح يوم الحفلة لشراء الخضار والفاكهة بالجملة لكى يحصل على أرخص الأسعار وكان حريص على دعوة الشعراء والفنانين وكبار رجال الدولة بجانب المهمشين والبسطاء وشباب الأدباء وكان يتيح للجميع عشاء دسماً فاخراً أربع مرات شهرياً.. ولكنه بعد هذه السهرة كان يفرض على نفسه نظام عذائى شديد التقشف ربما يكون عقاب لنفسه على بزخه فكان طعامه طوال الأسبوع الزبادى والجبنة القريش فقط.

 

خدعة رئيس التحرير

 

صدرت مجلة الراديو البعكوكة برئاسة تحرير حبيب مجلى طعرم.. ولما كان الأستاذ حبيب اسماً معروف فى الأوساط الأدبية والصحفية أو حتى شاعر أو كاتب مجهول يملك موهبة حقيقية فتلك من حيل صاحب البعكوكة رئيس التحرير الفعلى لقد اختار مدير توزيع شركة التوزيع الأشهر فى ذلك الوقت ليصبح رئيس تحرير وهمى لا يملك من أمر المجلة شىء ولا يختار المواد التحريرية ولا يعين أو يفصل محرر ربما لا يعرف عن المجلة سوى استلام الإعداد للتوزيع وقد اختار المفتى طعرم لكى يقوم بالاهتمام بالمجلة التى يرأس تحريرها، ويصبح رئيس تحرير أكبر المجلات انتشاراً مما دفعه لبذل الجهد الأكبر فى توزيع المجلة ليتضاعف أرقام التوزيع فى فترة قصيرة وكان الأستاذ مجلى يحصل على راتب شهرى 15 جنيهاً شهرياً وانتهت علاقته بالمجلة بعد تولى عبدالله أحمد عبدالله رئاسة التحرير براتب شهرى 150 جنيهاً فى أوائل الخمسينات.

 

معركة بيرم التونسى والمفتى

 

نشر الشاعر بيرم التونسى إزجالاً بالبعكوكة على فترات دائمة وتنوع إنتاجة الأدبى على صفحات المجلة عندا بداية الإصدار وربما لم يحصل بيرم على الأجر المناسب ولكنه استمر فى الكتابة المنتظمة بالمجلة.. ولكن بعد الانتشار الكبير وأرقام التوزيع الهائلة ورفض إدارة المجلة نشر إعلانات بها.. ربما كلها أسباب دفعت بيرم التونسى لرفع قضية على المفتى مطالباً بمبلغ 70 ألف جنيه مقابل أزجاله وأشعارة القديمة بالمجلة لأنها كما زعم فى عريضة الدعوة سبب فى انتشار ورواج المجلة وأحال قاضى محكمة مصر القضية إلى مكتب الخبراء للبحث والمراجعة.

 

 ولما كان المبلغ كبير والدعوة غريبة مما دعا المفتى إلى تخصيص إعداد للرد على بيرم التونسى وقال هل يستطيع بيرم أن يعرفنا كم كسب من إنتاجه الأدبى خلال خمسين سنة لقد كان لبيرم مجلة (الشباب) فشلت وانتهت سريعاً هل يستطيع أن يقول لنا لماذا لم تحقق أشعاره ولا أزجاله النجاح لها.

 

واستطرد المفتى أن بيرم عندما سافر إلى الخارج عمل بمهن متواضعة لكى يكتسب قوت يومه ولم يفلح له الشعر ولا الزجل فى نجاحه.. وأخرج المفتى الأرقام الحقيقية لكتاب بيرم السيد ومراته فى باريس، وقال إن الكتاب كان تمنه 15 مليم لم يشتريه أحد مما دفع بيرم لتخفيض ثمنه دون جدوى.. فكيف يدعى أن أزجاله هى سبب نجاح البعكوكة ولم يكتف المفتى بل يخصص إعداد من المجلة لمعارك ما بين معارض ومؤيد كان للهجوم النصيب الأكبر بعد أن رأى البعض أن المبلغ مبالغ فيه وبعدها انتهت القضية ولم يحصل بيرم على أى تعويض، بينما كسب المفتى مزيد من الرواج لمجلته بعد تلك المعركة واستمر نجاح البعكوكة مدوياً محققاً للمفتى ما كان يحلم ربما فوق مستوى أحلامه.