بعد كتابه عن علاقة إريش فريد بالنازيين الجدد:

توماس فاجنر: كان إريش يلتمس العذر للنازيين

توماس فاجنر
توماس فاجنر

حوار‭: ‬كريستوفر‭ ‬شرودر - ترجمة‭: ‬ياسمين‭ ‬يحيى

يثير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬أي‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬الكُتّاب‭ ‬والنازيين،‭ ‬سواء‭ ‬النازيين‭ ‬القدامى‭ ‬أو‭ ‬الجدد،‭ ‬إذ‭ ‬أولى‭ ‬أبجديات‭ ‬الثقافة‭ ‬هذا‭ ‬الرفض‭ ‬التام‭ ‬للنازية‭ ‬والفاشية‭ ‬باعتبار‭ ‬هذه‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬مدمرة‭ ‬للآخر‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬التخريب،‭ ‬خاصةً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬مر‭ ‬العالم‭ ‬بالتجربة‭ ‬ورأى‭ ‬آثارها‭. ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬ملفتًا‭ ‬بنفس‭ ‬الدرجة‭ ‬أن‭ ‬تنشأ‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬النمساوي‭ ‬اليهودي‭ ‬الشهير‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬وأحد‭ ‬أعضاء‭ ‬النازيين‭ ‬الجدد‭ ‬ميشائيل‭ ‬كونين‭. ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬الكاتب‭ ‬والباحث‭ ‬توماس‭ ‬فاجنر‭ ‬لتقصي‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬والخروج‭ ‬علينا‭ ‬بكتاب‭ ‬كاشف‭ ‬وشديد‭ ‬الأهمية‭ ‬هو‭ ‬‮«‬صداقة‭ ‬ألمانية‮»‬‭.‬

هنا‭ ‬ترجمة‭ ‬لحوار‭ ‬مع‭ ‬فاجنر‭ ‬يكشف‭ ‬فيه‭ ‬كواليس‭ ‬الصداقة‭ ‬والكتاب‭.‬

•‭ ‬بدأت‭ ‬الصداقة‭ ‬الغريبة‭ ‬بين‭ ‬الكاتب‭ ‬النمساوي‭ ‬اليهودي‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬وميشائيل‭ ‬كونين‭ ‬عندما‭ ‬استبعد‭ ‬برنامج‭ ‬التوك‭ ‬شو‭ ‬NDR‭ ‬الأخير‭ ‬وهو‭ ‬العضو‭ ‬النازى‭ ‬من‭ ‬حلقة‭ ‬البرنامج‭ ‬مؤقتًا‭. ‬فكيف‭ ‬حدث‭ ‬ذلك؟

ـ‭ ‬يومها‭ ‬أُعلنت‭ ‬أسماء‭ ‬الضيوف،‭ ‬فاتجه‭ ‬الجمهور‭ ‬المناهض‭ ‬للنازية‭ ‬نحو‭ ‬المتاريس‭ ‬اعتراضًا‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬كونين‭. ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬الحلقة‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬النازيين‭ ‬الجدد‭ ‬الناشئة‭ ‬وقتها‭ ‬فى‭ ‬ألمانيا،‭ ‬ونتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬اتخذ‭ ‬المسؤولون‭ ‬عن‭ ‬البرنامج‭ ‬قرارًا‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬دقائق‭ ‬باستبعاد‭ ‬كونين‭ ‬من‭ ‬الحلقة‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬هواتف‭ ‬محمولة‭ ‬وقتها،‭ ‬ولم‭ ‬يكتشف‭ ‬كونين‭ ‬خبر‭ ‬استبعاده‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬وقوفه‭ ‬أمام‭ ‬باب‭ ‬الاستوديو‭ ‬واصطدامه‭ ‬بقرار‭ ‬منعه‭ ‬من‭ ‬الدخول‭. ‬كان‭ ‬كونين‭ ‬قد‭ ‬سدد‭ ‬نفقات‭ ‬سفره،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬إذاعة‭ ‬راديو‭ ‬بريمن‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬بث‭ ‬البرنامج‭ ‬ليجد‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يأكلون‭ ‬وسنحت‭ ‬له‭ ‬الفرصة‭ ‬بلقاء‭ ‬إريش،‭ ‬مما‭ ‬خفف‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭.‬

•‭ ‬وكيف‭ ‬نشأت‭ ‬بينهما‭ ‬صداقة‭ ‬فكرية؟

ـ‭ ‬كان‭ ‬إريش‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬انجلترا،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يتردد‭ ‬على‭ ‬ألمانيا‭ ‬في‭ ‬جولات‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬فيها‭ ‬بتوقيع‭ ‬كتبه‭.‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬أحرز‭ ‬إريش‭ ‬نجاحًا‭ ‬عظيمًا،‭ ‬ثم‭ ‬أدين‭ ‬كونين‭ ‬بعدها‭ ‬وزُج‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬بدأت‭ ‬صداقتهما‭ ‬الفكرية‭ ‬وبدآ‭ ‬يتبادلان‭ ‬الخطابات‭.‬

•‭ ‬يعد‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬أيقونة‭ ‬لحركة‭ ‬السلام،‭ ‬فالاقتباسات‭ ‬التي‭ ‬تؤخذ‭ ‬من‭ ‬أشعاره‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تتردد‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تضاءلت‭ ‬شعبيته‭ ‬قليلًا،‭ ‬أما‭ ‬كونين‭ ‬فأصبح‭ ‬نجمًا‭ ‬لامعًا‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬النازيين‭ ‬الجدد‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬كيف‭ ‬حقق‭ ‬هذه‭ ‬النجومية؟

ـ‭ ‬أصبح‭ ‬كونين‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬عام‭ ‬1980‭ ‬أحد‭ ‬نجوم‭ ‬الإعلام،‭ ‬فخلف‭ ‬الأبواب‭ ‬المغلقة‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬المواطنين‭ ‬لا‭ ‬يتورعون‭ ‬عن‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬الجوانب‭ ‬الإيجابية‭ ‬المزعومة‭ ‬لهذا‭ ‬النظام،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬شائعة‭ ‬جدًا‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬بشكل‭ ‬حتى‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬اليوم،‭ ‬وفجأة‭ ‬يطل‭ ‬عليهم‭ ‬شاب‭ ‬يتحلى‭ ‬بشخصية‭ ‬جذابة‭ ‬كاريزمية،‭ ‬يرتدي‭ ‬حلة‭ ‬نازية‭ ‬مهندمة‭ ‬وقميصًا‭ ‬فاشيستيًا‭ ‬أسود‭ ‬ويقول‭ ‬لهم‭: ‬أنا‭ ‬أقاتل‭ ‬وأصارع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬عودة‭ ‬الحزب‭ ‬النازي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬كان‭ ‬يتكلم‭ ‬ببلاغة‭ ‬وجاذبية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معتادة‭ ‬بين‭ ‬المتطرفين‭ ‬اليمينيين‭ ‬آنذاك،‭ ‬وعند‭ ‬الانجراف‭ ‬إلى‭ ‬حوارات‭ ‬الصحافة‭ ‬كان‭ ‬باستطاعة‭ ‬كونين‭ ‬طرح‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬الوحشية‭ ‬تجاه‭ ‬العالم‭ ‬بأسلوب‭ ‬أكثر‭ ‬واقعية‭ ‬وأقل‭ ‬توترًا،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬قائدًا‭ ‬لبعض‭ ‬الفرق‭ ‬الصغيرة‭ ‬المشتتة‭ ‬والمتفرقة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ليعرفه‭ ‬أحد‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تلعب‭ ‬الصحافة‭ ‬دورًا‭ ‬فى‭ ‬إبرازه‭. ‬كان‭ ‬كونين‭ ‬يعرف‭ ‬اللعبة‭ ‬جيدًا‭.‬

•تقترب‭ ‬في‭ ‬كتابك‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجهات‭ ‬عند‭ ‬تناول‭ ‬أسئلتك‭ ‬الرئيسية،‭ ‬فما‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬الرجلين‭ ‬ببعضهما؟‭ ‬ما‭ ‬الأرضية‭ ‬التي‭ ‬يشترك‭ ‬فيها‭ ‬الاثنان؟‭ ‬وهل‭ ‬كلاهما‭ ‬نموذج‭ ‬مثالي؟‭ ‬هل‭ ‬حاولا‭ ‬مناهضة‭ ‬النظام‭ ‬البرجوازي؟‭ ‬أم‭ ‬انصرفا‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭  ‬المرض‭: ‬إريش‭ ‬ومرض‭ ‬السرطان‭ ‬وكونين‭ ‬وفيروس‭ ‬نقص‭ ‬المناعة‭ ‬؟

ـ‭ ‬الأمر‭ ‬معقد‭ ‬حقًا‭. ‬كان‭ ‬الضوء‭ ‬مسلطًا‭ ‬على‭ ‬كونين‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬الإعلام،‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬افتقر‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬فرصة‭ ‬للاتصال‭ ‬بالمعارضين‭ ‬السياسيين؛‭ ‬حيث‭ ‬رأهم‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬رد‭ ‬اعتباره،‭ ‬كان‭ ‬نجمًا‭ ‬ومنعزلًا‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬لكنه‭ ‬برغم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الإيمان‭ ‬بأفكاره‭ ‬ويأخذها‭ ‬على‭ ‬محمل‭ ‬الجد،‭ ‬فكونين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معاديا‭ ‬للسامية‭ ‬بصورة‭ ‬عنصرية،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬عرض‭ ‬التحدث‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬يهودي‭ ‬أمرًا‭ ‬مفيدًا‭ ‬جدًا،‭ ‬فاستعداده‭ ‬للاقتراب‭ ‬أمر‭ ‬مفهوم،‭ ‬وكذلك‭ ‬عدم‭ ‬تحفظه‭. ‬

•‭ ‬وبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬إريش‭ ‬فريد؟‭ ‬

ـ‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬منطقية‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التقارب‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لإريش‭ ‬وضعه‭ ‬الخاص‭ ‬للغاية‭ ‬بشأن‭ ‬كونه‭ ‬كاتبًا‭ ‬وشاعرًا‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وله‭ ‬دوره‭ ‬الذي‭ ‬يعج‭ ‬بالنضال‭ ‬ضد‭ ‬الفاشية،‭ ‬ففي‭ ‬خطاب‭ ‬ألقاه‭ ‬إريش‭ ‬عام‭ ‬1978‭ ‬قام‭ ‬بتقييم‭ ‬وموازنة‭ ‬حركة‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬الفاشية،‭ ‬وحث‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬التخلي‭ ‬عما‭ ‬وصفه‭ ‬بالطريق‭ ‬المسدود،‭ ‬فخطابه‭ ‬كان‭ ‬مليئًا‭ ‬بعبارات‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬أفضل‭ ‬أخلاقيًا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬يفكر‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬عنه‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬يناهض‭ ‬ضد‭ ‬الفاشية،‭ ‬ووصف‭ ‬‮«‬مَن‭ ‬يفكرون‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تشمل‭ ‬الأطياف‭ ‬الديمقراطية‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬الأعداء‭ ‬الحقيقيين‭ ‬أيضًا،‭ ‬فقد‭ ‬عارض‭ ‬بشدة‭ ‬الشعار‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬آنذاك«دمر‭ ‬الفاشيين‭ ‬أينما‭ ‬تقابلهم‮»‬‭ . ‬كان‭ ‬رأى‭ ‬إريش‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬تحتم‭ ‬عليك‭ ‬مساعدة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأشخاص‭ ‬والتحدث‭ ‬إليهم‭. ‬

•‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التفكير‭ ‬سيقابل‭ ‬بهجوم‭ ‬وغضب‭ ‬شديدين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬الموقف؟

ـ‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬كان‭ ‬أساس‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬عملية‭ ‬تفكيرعميقة‭ ‬وطويلة‭ ‬الأمد‭ ‬منذ‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬وهي‭ ‬عملية‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الألم‭ ‬والعذاب‭. ‬كتب‭ ‬فريد‭ ‬روايته‭ ‬الوحيدة‭ ‬‮«‬فتاة‭ ‬وجندي‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1946‭ ‬ولم‭ ‬ينشرها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬وتثير‭ ‬الرواية‭ ‬قضية‭ ‬مهمة‭ ‬عما‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬العدل‭ ‬الحكم‭ ‬بموت‭ ‬شابة‭ ‬ظلت‭ ‬تعمل‭ ‬طوال‭ ‬حياتها‭ ‬حارسة‭ ‬في‭ ‬معسكر‭ ‬اعتقال‭ ‬ولم‭ ‬تعرف‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬سوى‭ ‬الحكم‭ ‬النازي؟‭ ‬ففي‭ ‬مذكرات‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1986روى‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬وطيدة‭ ‬بأصدقائه‭ ‬الذين‭ ‬انضموا‭ ‬إلى‭ ‬منظمة‭ ‬الشباب‭ ‬النازية‭ ‬في‭ ‬فيينا‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬المنصرم،‭ ‬وقد‭ ‬اهتدى‭ ‬لاحقًا‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬أقل‭ ‬ذكاء‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬انحطاطاً‭ ‬وفساداً،‭ ‬وعند‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬يطرح‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬السؤال‭ ‬ذاته‭: ‬لو‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬يهودي‭ ‬الأصل،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬اليوم‭ ‬نازيًا؟‭ ‬هذا‭ ‬تحديدًا‭ ‬هو‭ ‬الخيط‭ ‬الذي‭ ‬يبين‭ ‬لنا‭ ‬السبب‭ ‬وراء‭ ‬رغبة‭ ‬إريش‭ ‬في‭ ‬التعرف‭ ‬إلى‭ ‬ميشائيل‭ ‬كونين‭ ‬وثبر‭ ‬أغوار‭ ‬فكره،‭ ‬وذلك‭ ‬طبعاً‭ ‬بخلاف‭ ‬فضوله‭ ‬الشديد‭. ‬لقد‭ ‬أراد‭ ‬حقًا‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬جنس‭ ‬هؤلاء‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬عام‭ ‬1980‭ ‬مدعين‭ ‬استحالة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬شىء‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬معسكر‭ ‬أوشفيتس‮»‬‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭! ‬

•‭ ‬لقد‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬كتابك‭ ‬أن‭ ‬إريش‭ ‬كان‭ ‬مقتنعا‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬إنسان‭ ‬يبقى‭ ‬كما‭ ‬خُلق‭ ‬وأن‭ ‬سمة‭ ‬الخلق‭ ‬جميعا‭ ‬التغيير‭.‬

ـ‭ ‬لطالما‭ ‬اعتقد‭ ‬إريش‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬إذ‭ ‬لابد‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬ينسلخ‭ ‬عن‭ ‬شخصيته‭ ‬تمامًا،‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬العادات‭ ‬أو‭ ‬الروتين‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬بسبب‭ ‬إصابات‭ ‬نفسية‭ ‬تنشأ‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬الطفولة،‭ ‬أو‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى،‭ ‬اعتقد‭ ‬فريد‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬مجرم‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬قد‭ ‬يتوب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬فريد‭ ‬نفسه‭ ‬ملحداً‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬التفكير‭ ‬نتيجة‭ ‬لانهماكه‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬ودراسة‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬وكتب‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬إريش‭ ‬بالجنون‭ ‬والتعجب‭ ‬من‭ ‬موقفه‭ ‬بسبب‭ ‬صداقته‭ ‬مع‭ ‬كونين‭ ‬حكم‭ ‬ظالم‭ ‬لا‭ ‬جدوى‭ ‬له،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬إريش‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التصالح‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬عند‭ ‬اتخاذ‭ ‬ذلك‭ ‬القرار‭. ‬

•‭ ‬توفي‭ ‬إريش‭ ‬عام‭ ‬1988‭ ‬واستسلم‭ ‬كونين‭ ‬لمرض‭ ‬الإيدز‭ ‬عام‭ ‬1991،‭ ‬وفي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬السير‭ ‬لفريد‭ ‬إريش‭ ‬يتم‭ ‬حجب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بتلك‭ ‬الرسائل،‭ ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬البيئة‭ ‬المحيطة‭ ‬بالصديقين‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة؟‭ ‬

ـ‭ ‬راجت‭ ‬بين‭ ‬النازيين‭ ‬الجدد‭ ‬صورا‭ ‬كاريكاتورية‭ ‬تشوه‭ ‬السجين‭ ‬الجريء،‭ ‬مستغلين‭ ‬مثليته‭ ‬الجنسية‭ ‬وفوق‭ ‬ذلك‭ ‬علاقته‭ ‬بعالم‭ ‬اليهود،‭ ‬وقد‭ ‬انقسم‭ ‬المشهد،‭ ‬فكلنا‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬وقتها‭ ‬تلقى‭ ‬إريش‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬غاضبة‭ ‬ولكنها‭ ‬بالتأكيد‭ ‬قلت‭ ‬اليوم،‭ ‬فقد‭ ‬شاهد‭ ‬الملايين‭ ‬البرنامج‭ ‬الحواري‭ ‬الذي‭ ‬احتج‭ ‬فيه‭ ‬إريش‭ ‬علنًا‭ ‬على‭ ‬إقصاء‭ ‬كونين‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬حلقاته،‭ ‬لكن‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬اشتعلت‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬وقتها‭ ‬نُسيت‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد،‭ ‬والفضيحة‭ ‬التي‭ ‬تأججت‭ ‬كالنار‭ ‬في‭ ‬الهشيم،‭ ‬باتت‭ ‬اليوم‭  ‬رمادًا‭.‬