ورقة وقلم

«الرافال» وأخواتها.. لماذا نتسلح ؟!

ياسر رزق
ياسر رزق

لا نتملك السلاح للاقتناء أو التخزين، ولا نضع قرارنا السياسى رهنا لإرادة مورد واحد، إنما نختار ما يناسبنا لردع التهديدات وحماية مصالحنا أينما وجدت

أينما توجد مصالحك، لابد أن تمتد ذراعك.

هذه هى الحكمة من تسليح الجيوش.

الغرض من التسلح ليس بالضرورة هو الحرب، بل إنه فى الأساس - لدى القوى الرشيدة - هو منع الحرب..!

إذن هو الردع.

فإذا استطعت أن تمتلك قوة تقنع بها خصمك بأن ثمن السلام أرخص بكثير من تكلفة الحرب، فلن يقدم على تهديد أرضك أو مصالحك، وسوف يرتدع عن التفكير فى المساس بها أو الاقتراب منها.

وحتى لو كان عدوك معتدياً على ترابك الوطني، فسوف ينسحب من أراضيك عبر التفاوض، إذا أدرك أنك تستطيع أن تحررها بالقتال، صوناً لدماء ستراق وأرواح ستزهق، وتجنباً لهزيمة لا محالة سيكابدها.

لكن..

إذا لم يكن خصمك من ذوى البصيرة وحسن التقدير، وحاول تهديد أراضيك أو مصالحك الحيوية، فحينئذ عليه أن يتحمل النتيجة أمام شعبه وأمام المجتمع الدولي، وعليه أن يدفع الثمن غالياً جراء حماقته، لاسيما إذا كانت موازين القوى بينه وبينك مختلة اختلالا بيّناً.

< < <
منذ ثمانى سنوات، قال لى جنرال مصرى مخضرم من أبرز خبراء التسليح فى العالم، إن ما أنجزه الفريق أول عبدالفتاح السيسى القائد العام للقوات المسلحة من تطوير للجيش المصرى فى غضون عام واحد، لم يكن أحد منا يحلم بتحقيقه قبل مرور عشر سنوات.

واليوم، أستطيع أن أدعى من واقع اقترابى من قواتنا المسلحة كمحرر عسكرى لهذه الجريدة منذ أكثر من ٣٠ عاماً مضت، أن الجيش المصرى فى عهد الرئيس السيسي، حقق قفزة عملاقة إرتقت به إلى مرتبة تفوق ما تصنفه مراكز الدراسات الاستراتيجية، التى لا تضع ضمن محددات تصنيفها قدر الكفاءة القتالية التى بلغتها تشكيلات قواتنا المسلحة، ولاحسن استخدام الأسلحة والمعدات ومدى قدرتنا على تطويرها، ولا مهارة الجنرالات المصريين وعلى رأسهم قائدنا الأعلي، فى إدارة أعمال القتال على أكثر من مسرح عمليات فى نفس الوقت، وباقتدار.

< < <
النقلة الهائلة التى حققتها قواتنا المسلحة خلال السنوات الثمانى الماضية، لا تقتصر على منظومات التسليح وحدها، بل تمتد بنفس القدر على مستوى تنظيم الجيش المصري، وإنشاء القواعد البر بحر جوية من أقصى الشمال الغربى إلى أقصى الجنوب الشرقى، وعلى مستوى التدريب والاستعداد القتالى، وإجراء المناورات المشتركة مع كل المدارس العسكرية المتقدمة فى عالمنا بغرض اكتساب الخبرة وتطوير المهارات وكذلك على مستوى الحصول على المعلومات عبر البشر المدربين والمنظومات الإلكترونية والفضائية شديدة التعقيد، والمعلومة المدققة هى مفتاح القرار السياسى العسكرى السليم، وهى مدخل طريق النصر فى المعارك.

ربما يتصور البعض أن التطور الهائل فى تسليح القوات المسلحة، اختص به سلاح الجو المصرى ومعه قواتنا البحرية فحسب.

واقع الأمر أن نفس القدر من التحديث والتطوير وامتلاك أحدث منظومات التسلح، شهدته تشكيلات القتال البرية التى تم تزويدها بأحدث المدرعات ومركبات القتال والمدافع ذاتية الحركة ومنظومات الحرب الإلكترونية المتطورة، وغير ذلك.

بل قد أقول إن قوات الدفاع الجوى المصرية حظيت بالقدر نفسه من التقدم والتطوير، ولعلها تحتل واحدة من المراكز الخمسة الأولى فى العالم، من حيث تكامل منظوماتها وكثافة غاباتها النيرانية ذات المديات المختلفة وكفاءتها فى الدفاع عن أهداف الدولة الحيوية ضد الغارات الجوية والقصفات الصاروخية، وعن التشكيلات البرية أثناء أعمال القتال.

< < <
أقول بوضوح إن ما جرى إنجازه على أرض مصر من مدن جديدة ومطارات وموانئ ومشروعات صناعية وزراعية ضخمة ومن محطات كهرباء عملاقة حرارية ونووية ومن شبكات طرق مديدة ومشروعات كبرى للبنية الأساسية والنقل وغير ذلك الكثير فى مختلف المجالات، مما يغير الحياة على أرض مصر ويرسم خريطة عمران جديدة لها.

كل ذلك الذى نراه رأى العين، يقل بكثير عما تحقق من نهضة كبرى للقوات المسلحة، نسمع عن بعضها، ولا نرى بعضها، ولا نعرف بعضها، ولن نعرف!

الغاية من ذلك التطور الهائل المستمر فى كل المجالات العسكرية، هو الدفاع والردع.

الدفاع عن إقليم الدولة، الأرض والأجواء والسواحل والمياه، وعن مصالحها الحيوية وعن مقدرات الشعب أينما وجدت.

والردع فى مواجهة أى تهديدات أو مخاطر حالية أو محتملة أو مستقبلية، لأمن مصر وشقيقاتها.
.. وأيضا القتال- إذا لزم الأمر- بشراسة وكفاءة وإقدام، لتحقيق النصر الحاسم.

< < <
منذ أيام.. نقلت إلينا الأنباء بشرى من القوات المسلحة بتوقيعها اتفاقاً مع شركة «داسو»، الفرنسية لشراء ٣٠ مقاتلة متعددة المهام من طراز «رافال» فائق التطور من الجيل الرابع المعزز لطائرات القتال.

وهى مقاتلة أسرع من الصوت، ذات تسليح متنوع ومدى طويل يصل إلى ٣٧٠٠ كيلو متر.
كانت مصر هى أول دولة- بعد فرنسا- يحصل سلاحها الجوى على هذه المقاتلة متعددة المهام، عندما وقعت صفقة عام ٢٠١٥ لشراء ٢٤ طائرة «رافال»، ومن بعدها وقعت كل من الهند وقطر صفقات مع فرنسا لامتلاك هذه المقاتلة.

هذه الصفقة التى ترفع عدد مقاتلات «الرافال» لدى قواتنا الجوية إلى ٥٤ مقاتلة، تعزز من قدرة ذراع مصر الطولى للوصول إلى حيث تريد لحماية المصالح الحيوية للبلاد والدفاع عن أمنها القومى.

ثمة من ربط بغير دراية بين هذه الصفقة، والتهديد الذى تتعرض له مصالح مصر القومية فى منابع النيل الأزرق، بينما ليس هناك ربط بين تلك الصفقة وذلك التهديد.

فأولى طائرات الصفقة الثانية من مقاتلات «الرافال» بعيدة المدي، سوف تصل عام 2024، لتكتمل عام 2026، وفقا لما أعلنته وزيرة الجيوش الفرنسية.

ثم إن ردع ذلك التهديد ومواجهته والتصدى له، متحقق قبل هذه الصفقة ودون انتظار وصولها بعد 3 أعوام كما ذهب البعض..!

تلك الصفقة تمت فى إطار رؤية متكاملة، كانت مختمرة فى ذهن الجنرال السيسى منذ سنوات، وبدأ تنفيذها قبل قرابة تسعة أعوام حينما تولى منصب القائد العام للقوات المسلحة، وجرى الإسراع فى التنفيذ عندما أصبح رئيسا للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلحة.

قوام هذه الرؤية، هو مجابهة اتساع نطاق التهديدات على كل الاتجاهات الاستراتيجية، مما يستلزم رفع قدرة القوات المسلحة فى كل أفرعها وتشكيلاتها، وتحديث أسلحتها، وإحلال منظومات تسليح متطورة بدل تلك الأقل تطوراً أو المتقادمة التى لا تستطيع درء التهديدات أو التعامل معها على كل الاتجاهات، شمالا فى المياه الاقتصادية المصرية الخالصة بالبحر المتوسط حيث توجد اكتشافات الغاز الجديدة، وحيث تبشر التوقعات بحقول أخري، مع تأمين الملاحة فى قناة السويس والبحر الأحمر وحتى مضيق باب المندب، ثم جنوباً حيث مصالح مصر الحيوية فى مياه النيل، وغرباً على طول الحدود المصرية الليبية لدرء تهديد تسلل العناصر والميليشيات الإرهابية، وشرقاً لتطهير سيناء من خطر الإرهاب، وتأمين حدود البلاد وصونها، وحماية السلام.

على أساس تلك الرؤية، جرى وضع برنامج شامل، لانتقاء أنسب ما يحقق أهداف الدولة المصرية من أحدث طائرات القتال باختلاف أنواعها، ومن غواصات وحاملات هليكوبتر وفرقاطات وقارويطات ولنشات صواريخ، ودبابات قتال ومركبات مدرعة، ومنظومات دفاع جوى فائقة التطور.

< < <
كان عماد القرار السياسى فى الانتقاء والتعاقد، هو تنويع مصادر السلاح. فالاقتصار على مورد واحد، يعنى رهن القرار السياسى العسكرى المصرى لإرادة المصدر الوحيد، الذى يستطيع تحجيم قدرة الجيش على ردع مخاطر محتملة، عن طريق تصدير السلاح منزوع بعض القدرات، أو عن طريق وقف تصدير قطع غيار، أو منع توريد صفقات تم التعاقد معها، للضغط على متخذ القرار السياسى.

فى القوات الجوية..

على سبيل المثال صار لدينا منظومة متكاملة من المقاتلات متعددة المهام والقاذفات المقاتلة وطائرات السيادة الجوية والإنذار المبكر والاستطلاع الجوى والنقل الجوى الاستراتيجى وطائرات الملء بالوقود فى الجو وطائرات الهليكوبتر الهجومية وهليكوبتر النقل والإبرار وإدارة النيران، والطائرات بدون طيار.

هذه المنظومة تضم طائرات قتال أمريكية، وروسية، وفرنسية، وصينية، وأوكرانية، وإسبانية، وكندية، وإنجليزية، وتشيكية، وبرازيلية، وألمانية، وإيطالية.

أى أن قواتنا الجوية تنوع مصادر تسليحها من الطائرات بمختلف أنواعها ومهامها من 12 دولة.

وربما لا تكون صفقة «الرافال» الجديدة هى آخر ما نتوقعه من صفقات قريبة لقواتنا الجوية.

ولعلنا نسمع قريباً عن اتفاقات مهمة فى إطار تزويد أسطول سلاح الجو المصرى بطرازات جديدة من أحدث المقاتلات متعددة المهام وطائرات السيادة الجوية، وكذلك فى سياق تحديث قواتنا البحرية وتطوير قدراتها الضاربة وهيمنتها على سطح البحار وفى أعماقها.

نحن إذن لا نتملك السلاح للتخزين، ولا لمجرد الاقتناء. إنما نختار ما يناسبنا، بالمواصفات التى نحتاجها، وبالقدرات التى تجابه التهديدات والمخاطر وتحمى الإقليم المصرى وتدافع عن المصالح الحيوية خارج الإقليم، ونستثمر مكانة مصر كقوة محورية كبرى فى المنطقة تدعو للسلام والاستقرار، وعلاقات رئيسها بزعماء القوى الكبرى، فى الحصول على السلاح الحديث الذى نريده دون شروط ولا إملاءات ولا ضغوط، وبأفضل شروط فى مواعيد التسليم وبأقل أسعار ممكنة، مع إمكانية التصنيع المشترك لبعضها محليا فى مصر.

ولنا أن نتابع ردود الأفعال فى الهند واليونان، بعدما أعلن عن ثمن صفقة الرافال الجديدة، والتى أظهرت أن مصر حصلت عليها بأسعار تقل عما تعاقدوا هم عليه، وبالقطع تقل عما تعاقدت عليه قطر من مقاتلات من هذا الطراز.

< < <

إننى من جيل عاش فى سن صغيرة فى ضيق معيشة وشظف عيش، من أجل بناء جيش قادر على تحرير الأرض، فما بالنا إذا كان تطوير الجيش وتطوير سلاحه لصون التراب وحماية المقدرات، لا يتطلب من هذا الجيل شداً للأحزمة على البطون..!

ثم إن الدولار الواحد الذى ينفق على التسلح هو استثمار فى الوقاية والحفاظ على منشآت وأهداف حيوية ومشروعات ومصالح استراتيجية، تعادل قيمتها ملايين المرات تلك النفقات.
غير أن هناك أشياء تصونها القدرة العسكرية، لا تقاس بأموال ولا تقدر بأثمان، كالدماء والأرواح والتراب الوطنى والكرامة.

ولقد أسعدنى أن أطالع خلال الأيام الماضية ردود فعل الكتلة الوطنية المصرية فى الشوارع والمنتديات وعبر وسائل التواصل الاجتماعى على الصفقة الجديدة من مقاتلات الرافال، وأن أرصد وعى الغالبية العظمى من الجماهير بأهمية تطوير قدرات الجيش المصرى، وفخرهم بمدى التقدم الذى بلغته قوات خير أجناد الأرض.

لكنى أيضا لمست أصداء أخرى لتلك الصفقة لدى طائفتين.

الأولى قوامها أولئك الذين يفتون فى كل شىء أو أى شىء، ويدلون بدلوهم بجهل عظيم ويقولون كان الأفضل أن نشترى كذا بدلا من كذا، وهم لا يدرون خصائص هذا ولا ذاك، وهؤلاء يذكروننى بمن كنا نسميهم فى أيام الحرب بجنرالات المقاهى الذين كانوا يضعون خطط المعارك على خشبة الدومينو وهم يتناولون السحلب والقرفة..!

أما الطائفة الثانية، فهم إخوان الخيانة والغدر، الذين لو رأوا الله جهرة ما آمنوا.
ولقد وشت تعليقاتهم على الصفقة الجديدة بحقد وغل وكراهية، ربما أشد مما أصاب أعداءنا التاريخيين وخصومنا الجدد..!

< < <
إن السلاح - أى سلاح - هو وسيلة لإنتاج النيران، من طلقة الرصاص، إلى الدانة، إلى الرأس الحربية، إلى القنابل باختلاف أنواعها وأوزانها التى تصل إلى أطنان عديدة.

والسلاح أيضا هو نظم إطلاق ونقل هذه النيران إلى أهدافها، من المسدس، إلى الرشاش، إلى الدبابة، إلى المدفعية، إلى منصات الإطلاق والصواريخ، إلى القاذفات والمقاتلات، باختلاف مدياتها وقدرات تحميلها.

لا يكفى أن تمتلك النار الكثيفة الثقيلة، دون أن تمتلك وسيلة فعالة لنقلها إلى حيث تريد.

ولا يكفى أن تمتلك منظومات الإطلاق والنقل التى تصل إلى الأهداف المعادية، دون أن تمتلك النيران الكثيفة الثقيلة ذات القدرة الفعالة على تدميرها.

أى أن ذراعك لا يكفى أن يطول، وإنما لابد أيضا، أن تكون قبضتك دامية.

والجيش المصرى طائل وقادر وعاقل، ذو ذراع مديدة وقبضة حديدية، وذو رأس يتدبر ويحدد أين ومتى وكيف.