وسؤال الهوية

قارئة القطار

قارئة القطار
قارئة القطار

كتبت: رضوى الأسود

الرواية تضيع معها الحدود الفاصلة بين الغرائبى والواقعيّ، حتى أن مشهد اللص المدقوقة أذنه فى الباب، وإن بدت غرائبية، إلا أنها حدثت بالفعل، وكانت ضمن مشاهدات «فلوبير» حين قدم إلى مصر. وهى تكتظ بمشاهدات من الحياة اليومية فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مُعَدِّدَة الحِرَف والأجانب الذين كانوا يفرون إلى مصر هربًا من الحروب والكساد
فى روايته الأخيرة «قارئة القطار» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية هذا العام، لا يتخلى إبراهيم فرغلى عن مكانه الأثير الذى يبدو أنه اختاره وتفرد به: الغرائبية، وإن كانت غالبًا ما تُقدَّم فى إطار من الواقعية.
تبدأ الرواية بشاب يستعد للسفر بالقطار لاستلام وظيفته الجديدة كمندوب تسويق لشركة أدوية، لكنه بعد أن يركب القطار يكتشف أنه فقد محفظته التى كانت تحوى بطاقة هويته، وهاتفه المحمول وتذكرة سفره، ثم يصطدم بالطامة الكبرى بفقدان ذاكرته! وفى القطار، وفى أجواء غرائبية شديدة الغموض يكتشف أن القطار خال إلا من امرأة تتمدد عارية ولا تكف عن القراءة على الرغم من أنها كفيفة! يعرف منها أن هذا القطار لن يتوقف أبدًا طالما ظلت تقرأ، وأن هذا هو قدرها الذى لا مهرب منه. يرتبك البطل ويسقط فى يده، فتقترح عليه أن يذهب لعربة الحفل، وهناك سيستعيد ذاكرته، لكن هذا لن يحدث، ثم يقابل توأمها «ذكرى» ويقع فى حبها، لكنها ستختفى بعد ذلك كما جاءت، ويهتاج البطل حين يجد أنه قد وقع فى شراك لا فكاك منه، وعند ذلك تقرر قارئة القطار أن تسرد عليه حياته التى لا يتذكرها.


القراءة كمصدر للإدراك والقوة واستمرارية الحياة


يطلق البطل على قارئة القطار اسم «زرقاء»، إشارة إلى زرقاء اليمامة وبصرها الحاد، فقارئة القطار رغم عماها إلا أنها كانت تُبصِر الكلمات، لكن يكمن الاختلاف فى أن زرقاء اليمامة كانت ترى القادم، أما الثانية فقد رأت الماضي.
«زرقاء» لم تكن فقط عمياء، لكنها كانت أيضًا كسيحة، وكأن الروائى يشير إلى حالة العجز التى يمر بها العرب فى الوقت الحالى، حتى أن اختياره لثورة عرابى وما خلًّفته من إخفاق وفشل وخذلان، تمثًّل فى إجهاض الثورة ونفى عرابى ورفاقه، لهى أكبر دليل على ذلك. لكن قد تكون القراءة، كأول أمر ألقاه الله على مسامع النبى محمد حين قال له «اقرأ»، والتى فُرِضَت على «زرقاء»، ومن ثمَّ على البطل، هى تمام الإدراك ومصدر القوة.
القراءة هى ذلك الفعل الجلل، محور الرواية وهم الروائى الذى لا يتخلى عن الإشارة إليه؛ فالبطلة قارئة، وهناك المكتبة المكتظة بالكتب والتى تحتل العربة الثامنة، وحتى عربة الحفل، التى يبدو من الأصوات المنبعثة منها، أنه حدث ماجن أو ما شابه، لكن حينما ينسل إليه البطل، سيفاجأ بأغلبية من القارئات! كما أن القراءة هى المعرفة، والمعرفة لها ثمن ووطأة، حتى أن «زرقاء» تسأل البطل: «هل يمكنك أن تتحمل المعرفة؟».
وعلى الرغم من أن كل ما فى الرواية يشى بالجبرية، إلا أن ثمَّ فعل حر أقدم عليه البطل، وهو تتمة حكايته، وكأنه فى لحظة سماعه لحكايته، حينما قٌرِئت عليه، بدأت بصيرته فى التكشف، لذا، فالقراءة فى مستوى آخر هى إنجلاء للبصيرة، بما أن فقدانه لبصره فى النهاية، لم يمنعه - كزرقاء - من القراءة، بل استُبدِلَت العينان ببصيرة ترى الحروف وكأنها الضوء الوحيد؛ فالعلم، التنوير، الثقافة، الوعى، مترادفات للنور الذى لن ينطفىء رغم حلكة العالم. 
وبما أن القطار هو الحياة التى تستمر بلا توقف، فالقراءة هى التى تُسيِّر القطار، لذا، الانتهاء من القراءة، معناه انقضاء العالم، انتهائه مع غلق آخر كتاب، مع آخر قراءة، مع آخر قارىء.


التاريخ والبحث عن الهوية


فى النصف الأول من الرواية يظل البطل فى رحلة بحث حثيثة عن ذاته، هويته، تاريخه الضائع المنسى، تظل روحه حائرة، يعيش فى عالم مشوش، مليء بالتوهمات، لكن حين يُلقى عليه تاريخه يتقبله قبولًا حسنًا، يتشبث به وكأنه حقيقة لا تحتمل الشك، حقيقة تُسكِّنه وتُهدئ من روعه. هنا تتضح فكرة الانتماء، فالارتباط بجذر، بلد، أصل، ثقافة، تبعث على الطمأنينة والدفء. فها هو أخيرًا يكتشف أن له عائلة ووطنا ومكانا، بعد أن كان يعيش داخل تغريبة، لا منتمىً لأى شىء. وهنا تحديدًا الانتماء للجنوب (الصعيد)، حيث نشأت أعظم حضارات العالم. كما نستطيع أن نستخلص من حالة البطل الذى كان يعانى من حاضر مشوش وماضٍ مفقود، أن ضبابية الحاضر هى نتيجة نسيان الماضى، وكأن معرفة التاريخ، تمكننا من قراءة الحاضر، وتُبَصِّرُنا بالمستقبل.
البطل فى الرواية المكونة من جزأين كبيرين وفصلين صغيرين، حين يصل لحقيقته وتاريخه، لا يتخلى عنهما، لذا حينما يتوقف القطار بعد أن توقفت القراءة باختفاء القارئة، وحينما تأتيه ابنته لدعوته للنزول من القطار (رغبته الأثيرة)، يرفض الانصياع لها، خوفًا من فقدان ذاكرته خارج القطار، لذا، يتركها لتذهب وحيدة، ويظل هو بداخله، مستلمًا دفة القراءة، لينطلق القطار ثانية.
اختيار الروائى لتلك الصفحة من تاريخ مصر يبدو وكأنه اعادة إعتبار للثورة العرابية التى مثًّلَت - رغم فشلها فى النهاية - قمة المقاومة والوطنية من شاب مصرى وقف بكل جرأة وتصميم أمام الإنجليز والخديو توفيق وتصدى لهما. تحاول الرواية التأكيد على التمسك بالهوية، وعلى أن التاريخ هو الملاذ، قراءته والتمعن فيه، وتنقيحه، وفهمه فهمًا صحيحًا دون لبس، ووضع أحداثه فى نصابها الصحيح دون زيادة أو نقصان. وهنا قد يبدو التاريخ أنه ليس فقط أحداث الحروب والثورات والمشاهدات اليومية فى بر مصر، ولكنه قد يكون أيضًا تاريخ العرب والمسلمين، أو تاريخ الفقه الدينى وآراء رجاله.


ماضٍ وحاضر


على الرغم من أن البطل ينتمى لتاريخ حديث، إلا أن تاريخه الذى تقصه عليه زرقاء ينتمى للثورة العرابية، لتصدق مقولة «ذكرى» حين قالت له أعرفك من حياة سابقة، ربما للتدليل على أن معاناة البشر واحدة، وأن الحكاية تتشابه، فى حالة استنساخ لنفسها لكن بأشخاص مختلفة. 
سنجد أن حيرة البطل فى زمن الثورة العرابية ما بين الإقدام على ارتكاب جريمة شرف فى حق فتاة لم تكن سوى ضحية، وبين تركها لحال سبيلها، ما بين الارتباط بها لأنه واقع فى غرامها، وبين التخلى عنها عقابًا لها على أنها لم تقاوم، وما بين سؤال الحلال والحرام حول ممارسة نشاط معين مثل صناعة السجائر، وفكرة الالتجاء إلى الفتوى فى كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة، هى كلها وصراعات ومشاهدات وأسئلة ما زالت تسكن الواقع الحالى فى الألفية الثالثة، وكأن التاريخ لم يمر!
تتكرر عبارة «نموت هناك لكى نحيا هنا». لقد مات البطل فى حياته السابقة التى حوَّمَت حول الثورة العرابية، لكنه ظهر فى زمن أحدث، ليستكمل مسيرة القطار، وقد تنقضى حياة ابنته التى رحلت عنه، لتعود بعدها وتستكمل مهمة أبيها فى القراءة، كى لا يتوقف القطار الذى قدره أن يستكمل رحلة لا يستطع أحد توقيفها.


المرأة فى الرواية


المرأة تلعب دورًا مهمًا وتشغل مساحات شاسعة، فالشخصيات تكاد تكون جميعها من النساء؛ فالبطلة والتى سميت الرواية باسمها، امرأة، وهناك الجدة، وكل راكبات القطار من النساء، وأخيرًا تنغلق الرواية على الابنة. إنها المعلم والملقن والمربى (الجدة و«زرقاء»)، وهى المستقلة، المعتزة بذاتها، وبكيانها (فاطمة)، وهى الحبيبة الحنونة (ذكرى)، وهى فى النهاية الابنة التى تنبثق من العدم، وينبثق معها الأمل فى الاستمرارية، وخلود الذكرى والسيرة.


البطل بين المتاهة والتغريبة


ما بين حديّ المتاهة والتغريبة، يقبع القلق الوجودى للبطل؛ فالقطار بعرباته التى بدت وكأنها لا نهائية، يشبه متاهة، وتيه البطل الحديث فى القطار يشبه تيه البطل القديم فى المدينة، حين هرب من القرية إلى الحاضرة.
كما أن عودته لبلده، وإن كانت تُعَد نهاية لغربته، لكنها لم تكن سوى تغريبة أخرى، إذ أنه لم يعثر على بيته ولم يجد أى فرد أو أى شيء مما كان يعرفه، دلالة على التغريبة التى تأسست بها المدينة الريفية الجديدة.
الرواية تضيع معها الحدود الفاصلة بين الغرائبى والواقعيّ، حتى أن مشهد اللص المدقوقة أذنه فى الباب، وإن بدت غرائبية، إلا أنها حدثت بالفعل، وكانت ضمن مشاهدات «فلوبير» حين قدم إلى مصر. وهى تكتظ بمشاهدات من الحياة اليومية فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مُعَدِّدَة الحِرَف والأجانب الذين كانوا يفرون إلى مصر هربًا من الحروب والكساد.
تلك اللوحة شديدة الثراء والتعقيد والزخم، والتى يتراوح السرد بداخلها ما بين ضمير المتكلم، وضمير المخاطب، وضمير الغائب، وروائى نصف عليم، والتى تضج بأسئلة عن التاريخ والهوية والقدر والدين، تدور الرواية البديعة لإبراهيم فرغلى، والمفتوحة على العديد من التأويلات.
قارئة القطار، قارئة بصيرة، مستبصرة، لا بالطالع، ولكن بالماضى، معرفتك بالتاريخ من خلالها، هى ضمانتك لاستجلاء القادم،كما يقول بيار داك: «ليس المستقبل إلا الماضى فى حالة تحضير وتهيئة». سوف تصيبك بمعرفتها الماضية، فتصبح عارفًا بالمستقبل، وحينها قد تمتلك إجابات لاسئلتك المستعصية.