أصحابها يحولون جريد النخل الى أفخر أنواع الأثاث

«السرايرية».. تقاوم خطر الاندثار

تصنيع الكراسى من جريد النخل بالسرايرية
تصنيع الكراسى من جريد النخل بالسرايرية

كتب: عبد الصبور بدر 

بدأت القصة فى أزمنة قديمة بمحافظة قنا وبالتحديد فى قرية حجازة قبلى بمركز قوص، حين فكر أحد الشباب فى عبور النهر حاملا معه "صنعة"، ليستقر على الضفة الأخرى من الشاطئ  حيث مدينة نقادة التى تمتلئ بالحرفيين، وهناك بدأ فى تصنيع الأقفاص والسرر من الجريد، ما جذب إليه العديد من الزبائن بسبب جودة المنتج ورخص سعره.

أنجب الرجل العديد من الأبناء الذين ورثوا المهنة، وعاشوا حوله، فى شارع واحد، معروف حتى الآن باسم "السرايرية"، لايفرغ من الصنايعية الذين يعملون منذ شروق الشمس وحتى المغيب، خاصة بعد أن تطورت المهنة وأصبحت منتجاتها مطلوبة فى القرى السياحية والفنادق.

يفاخر أحمد بدوى منصور بأنه ورث المهنة عن أبيه الذى يصفه بـ "الأسطورة" وشيخ المهنة، ويخبرنا بأن والده اهتم بالتطوير ، فلم يكتف بصناعة "الأقفاص" و"السرر"، وقام بتنفيذ ماكيت " لأحد المهندسين " لأثاث وسور مستشفى الهلال بقنا من الجريد فى تسعينات القرن الماضى، كما كان أول من صنع غرفة نوم كاملة (دولاب وسرير وكوميدينو وتسريحة من الجريد

ويحكى بدوى الصغير (31 عاما) عن مهنته قائلا: يحتاج الصنايعى إلى جريد مختلف الأشكال (طويل، وقصير، ورفيع، وممتلئ) حتى يتمكن من إنتاج الأقفاص والكراسى والسرر وغير ذلك.

 ويضيف: نعمل وفق طلبات الزبون، فالسائح مثلا يقبل على الأنتريه والشازلونج إضافة إلى الستائر، فى الوقت الذى يحتاج فيه الزبون المحلى الأقفاص و"العدايات" لتعبئة الخضر والفاكهة، أو السرر التى يجلس عليها أمام البيت، أما المقاهى فتفضل الكراسى الجريد لأنها ذات جودة عالية وأرخص سعرا من البلاستيك أو الخشب.

ويضيف: فى "البندر" يضعونه فوق الأسطح لأنه مريح للظهر خاصة إذا كان الفرش "حصيرا من الحلفا".، لكنه يشكو من معاناة أصحاب المهنة منذ اجتياح وباء كورونا ما جعلهم يتوقفون عن العمل فى أوقات كثيرة، او يعملون بنصف طاقتهم، ويحذر من اندثار المهنة، لأنهم منسيون (وفق تعبيره)

ويتابع: إذا أردت الاشتراك فى المعارض فإننى احتاج إلى سيارة تكلفنى أكثر من 5000 جنيه، وهو مبلغ فوق طاقتى، ويناشد المسئولين بأن يضعوا على رأس جمعية الحرفيين أحد العارفين بالمهنة، ويقول إن من يديرها فى (نقادة) مدرس لا علاقة له بالمهنة، وكذلك الجمعيات الأهلية لا تراعينا فى دعواتها، وكل ما تفعله للشو الإعلامى فقط.

ويشرح أنهم يستطيعون صناعة العديد من المنتجات بالجريد مثل: القفص والسرير والسدة والكرسى والشازلونج والكنبة والترابيزة والطفاية، والنجفة، والإبليك، والستارة، وغير ذلك.. حسب رغبة الزبون.

أما أحمد عابدين  فقد تعلم من جده الكبير الترحال، ليهاجر من نقادة إلى الأقصر، ويستقر فى مدينة القرنة ويؤسس ورشته التى يقبل عليها السياح من كل مكان، ويحكى لنا سر مهنة "السرايرية" قائلا: إنه الحب، كلما احب الحرفى مهنته منحته ما يريد.

ويضيف: لا أعمل فى المهنة بهدف الحصول على ربح مادى، ولكن من أجل تعلم نوع من الفن، وربما أظل يوما كاملا وانا ادقق النظر فى "رسمة" يطلب تنفيذها أحد الزبائن حتى أعرف من أين سأبدأ وكيف انتهى. 

يحكى عابدين أنه بدأ مع والده منذ العاشرة من عمره، حتى أصبح "معلما"، يستهويه الضربات على الماسورة التى تصنع الخرم، وكأنها نغمة موسيقية، ما يحرض زبائنه السياح على الجلوس  حوله، ومراقبة  ما يفعله. 

عمل عابدين فى الغردقة وأسوان قبل أن يؤسس ورشته الخاصة فى "القرنة" ويعمل تحت يده 5 صنايعية، ويقول إنه قام بتنفيذ أثاث فندق بأكمله يسمى "المرسم" دواليب، وسرر، وستائر ومقاعد وترابيزات إلخ.

منذ حوالى 4 سنوات حضر 20 طالبا من سويسرا ليتعلموا تلك الحرفة على يد عابدين الذى استقبلهم بترحاب، وأنجز المهمة فى عشرة أيام على أكمل وجه رغم عدم التواصل اللغوى بينهم!. 

ويعترف أن المهنة فى طريقها إلى الانقراض، إلا أن محاولات التطوير التى يقومون بها تؤخر اندثارها، ولكن الخطر الذى يهدد المهنة من وجهة نظره هو هروب الصنايعية منها بسبب الركود وقلة الدخل.

يبتعد عابدين عن العمل حين يمر بضائقة نفسية، يقول: إن المهنة لا تعطيك شيئا حين تكون غاضبا فهى تحتاج إلى تركيز كبير، والخطأ فيها بـ"فورة" فهى لا تستحمل سنتى زيادة أو نقصان.

جاب أحمد عابدين محافظات الدولة بحثا عن الجديد فى مهنته، ويقول إن كل محافظة تشتهر بعمل منتجات بعينها فالفيوم على سبيل المثال لا يعمل الحرفيون فيها إلا العداية (قفص الطماطم) ، أما فى نقادة مثلا فإن من يعملون فى مهنة الكراسى معدودون على الأصابع خاصة ان صناعة الكرسى فى حاجة إلى ابتكار دائم. 

وحول أمراض المهنة يخبرنا  إبراهيم محمد الذى يعمل فيها منذ عشرات السنين أنها تورث أصحابها العديد من الأمراض خاصة آلام الظهر والعنق، ما يجعلهم فى حاجة إلى علاج شبه دائم، كما أن عدم وجود دعم، او معاش لهم، يجبر الكثير من الحرفيين المهرة إلى الهجرة منها إلى أى وظيفة أخرى، ما يهدد بانقراضها فى المستقبل.

ويطالب بنظرة عطف من المسئولين لهم ليس باعتبارهم حرفيين فقط، ولكن على أساس أنهم فنانون يقومون بحفظ تراث تلك المهنة المتواجدة منذ القدم، والتى توشك على الفناء.