«قصة الهدهد» في القرآن

الشعراوي
الشعراوي

يقول الحق فى سورة النمل:«وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ» مادة: فقد الفاء والقاف والدال، وكل ما يُشتقّ منها تأتى بمعنى ضاع منه الشئ، ومنه قوله تعالى فى قصة إخوة يوسف: «قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ» فإنْ جاءت بصيغة (تفقَّد) بالتضعيف دلَّتْ على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه فى مظانّه.


فمعنى «وَتَفَقَّدَ الطير» أن الرئيس أو المهيمن على شيء لابد له من متابعته، وسليمان عليه السلام ساعةَ جلس فى مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من مملكته، كأنه القائد يستعرض جنوده، وفى هذا إشارة إلى أنه عليه السلام مع أن هذا ملكه ومُسخَّر له ومُنقَاد لأمره، إلا أنه لم يتركه هَمَلاً دون متابعة. لكن، لماذا تفقَّد الطير بالذات؟ قالوا: لأنه أراد أنْ يقوم برحلة فى الصحراء، والهدهد هو الخبير بهذه المسألة؛ لأنه يعلم مجاهلها، ويرى حتى الماء فى باطن الأرض، يقولون: كما يرى أحدكم الزيت فى وعائه.
لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن الله تعالى جعل له منقاراً طويلاً؛ لأنه لا يأكل مما على سطح الأرض، إنما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الأرض.ألاَ تراه حين كلَّم سليمان فى دقائق العقيدة والإيمان بالله يقول عن أهل سبأ: «أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذى يُخْرِجُ الخبء فِى السماوات والأرض» فاختار هذه المسألة بالذات؛ لأنه الخبير بها ورزقه منها.ولما لم يجد الهدهد فى الحاضرين قال «فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين» فساعةَ يستفهم الإنسان عن شيء يعلم حقيقته، فإنه لا يقصد الاستفهام، إنما هو يستبعد أنْ يتخلَّف الهدهد عن مجلسه.لذلك قال «مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد» يعني: ربما هو موجود، لكنِّى لا أراه لعلّة عندى أنا، فلما دَقّق النظر وتأكد من خُلوِّ مكانه بين الطيور، قال «أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين» إذن: لابد من معاقبته:«لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ»، ومعاقبة المخالف أمر ضروري؛ لأن أيِّ مخالفة لا تُقابل بالجزاء المناسب لابد أن تثمر مخالفات أخرى متعددة أعظم منها، فحين نرى موظفاً مُقصِّرًا فى عمله لا يحاسبه أحد، فسوف نكون مثله، وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللامبالاة، وتحدث الطَّامة حينما يُثاب المقصر ويُرَقى مَنْ لا يستحق.
لذلك توعَّد سليمان الهدهد: «لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ».وقد تكلَّم العلماء فى كيفية تعذيب الهدهد، فقالوا: بنتف ريشه الجميل الذى يزهو به بين الطيور، حتى يصير لحماً ثم يُسلط عليه النمل فيلدغه، أو يجعْله مع غير بنى جنسه، فلا يجد لها إلفاً ولا مشابهاً له فى حركته ونظامه، أو: أنْ يُكلِّفه بخدمة أقرانه من الهداهد التى لم تخالف، أو: أجمعه مع أضداده، وبعض الطيور إذا اجتمعتْ تنافرتْ وتشاجرتْ، ونتف بعضها ريش بعض؛ لأنهم أضداد؛ لذلك قالوا: أضيق من السجن عِشْرة الأضداد.
ثم رقَّى الأمر من العذاب الشديد إلى الذبح، وينتهى تهديد سليمان للهدهد بقوله «أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ» أي: حجة واضحة تبرر غيابه، فنفهم من الآية أن المرؤوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه، ودون أن يأخذ الإذن من رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة لا تستدعى التأخير.