حصاد 100 يوم فى البيت الأبيض

بايدن على خطى روزفلت

بايدن يزور إحدى وحدات التلقيح ضد الفيروس فى فيرجينيا
بايدن يزور إحدى وحدات التلقيح ضد الفيروس فى فيرجينيا

دينا توفيق

خسائر مدمرة فى الأرواح وإصابات بالملايين.. إغلاق وحجر صحى.. انكمش الاقتصاد الأمريكى فى 2020 بأعمق وتيرة له منذ الحرب العالمية الثانية؛ ما دفع ملايين الأمريكيين إلى فقدان وظائفهم ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة التى وصلت إلى 6.3% فى يناير 2021؛ احتجاجات واضطرابات شهدتها البلاد عقب مقتل المواطن الأمريكى "جورج فلويد" ذى الأصول الأفريقية على أيدى الشرطة، هكذا كان تأثير كورونا على الولايات المتحدة والعنصرية التى قسمت المجتمع هناك، وحين دخل الرئيس جو بايدن، البيت الأبيض، مما اضطر الرئيس المُنتخب لوضع خطة موسعة تشمل مواجهة الفيروس ووقف انتشاره وإعادة إنعاش الاقتصاد وإصلاح سياسة المناخ.

ومع اقتراب مرور أول 100 يوم على تولى بايدن منصبه، بدأ الكثيرون داخليًا وخارجيًا فى تقييم أدائه، وفقًا لمجلة "فورين بوليسى" الأمريكية. ورغم عدم وجود أهمية دستورية أو قانونية لأول 100 يوم من ولاية الرئيس. فى أول مائة وأربع وأربعين عامًا من عمر الولايات المتحدة، لم يقم أحد بإنجاز كبير خلال المائة يوم الأولى. ووصفها أحد كبار مساعدى الرئيس الأسبق "باراك أوباما" ديفيد أليكسرود، بأنها "عطلة هولمارك"، أى أنه يوم سيحظى بالكثير من الاهتمام ولكن ليس له أهمية حقيقية. لكن لا يمكننا أيضًا استبعاد معيار المائة يوم تمامًا، لا سيما الآن، مع مجيء بايدن عقب الرئيس السابق "دونالد ترامب" فى وقت أزمات متعددة؛ من جائحة عالمية، وتفاقم الكوارث الطبيعية بسبب تغير المناخ، واقتصاد لا يزال ينزف ملايين الوظائف، والمطالبة بتحقيق العدالة العرقية، والسياسة الخارجية التى لا تزال غير مكتملة وبلا هدف حيث إن القيادة العالمية للولايات المتحدة باتت موضع شك، إذن من أين أتت فكرة 100 يوم ولماذا مازال يتم الحديث عنها؟

البداية كانت مع رئاسة "فرانكلين ديلانو روزفلت" الرئيس الثانى والثلاثين، الذى تم انتخابه فى خضم كساد كبير، وظل بعيدًا عن المعركة خلال الفترة الانتقالية الطويلة بين يوم الانتخابات عام 1932 ويوم التنصيب فى 4 مارس 1933. ووفقًا للمؤرخين، دفعه إحساسه بالمسرح السياسى إلى تجنب محاولات الرئيس "هربرت هوفر" إشراكه فى التعامل مع أزمات البلاد الساحقة. وهكذا نجح فى تنظيم انفصال كامل عن الماضى وبداية جديدة مع الشعب الأمريكي. وعندما أدى روزفلت اليمين كرئيس كان 25% من الأمريكيين عاطلين عن العمل وكان عدد كبير منهم يعيشون فى مدن الصفيح. لم يكن خطاب روزفلت ما جعله الرئيس الذى لا يزال يتذكره العالم خلال المائة يوم الأولى. لقد كان صاحب الإجراءات الجريئة والجديدة، التشريعية والتنظيمية على حد سواء. وبحلول نهاية أول 100 يوم من توليه المنصب، كان قد مرر 15 مشروع قانون عبر الكونجرس، وقام بتجديد الأنظمة المالية والزراعية ووسع برنامج الإغاثة من البطالة ووضع الأساس للانتعاش الاقتصادى.

ومنذ ذلك الحين، تم تقييم الرؤساء لأدائهم فى المائة يوم الأولى؛ ويكفى القول إن قلة منهم ترقى إلى مستوى روزفلت. ومن المحتمل أن يكون الرئيس "رونالد ريجان" هو الأقرب بين جميع الرؤساء، بمزيج من المهارة والحظ؛ حيث بدأت إدارته بالإفراج عن الرهائن الذين احتجزهم المتطرفون الإسلاميون فى إيران. ولكن العديد من الأشياء التى كُتبت عن الأيام المائة الأولى تُنسى بنهاية الفترة الرئاسية الأولى، وربما لن تكون مؤشرا على النجاح الفعلى للرئيس، مثلما حدث مع الرئيس "بيل كلينتون" الذى شهد أول 100 يوم صخرية، لكنه واصل فوزه بإعادة انتخابه عام 1996؛ ما جعله أول ديمقراطى يتم انتخابه لفترتين كاملتين منذ روزفلت. 

ومع ذلك، فى بعض الأحيان، يمكن التنبؤ من خلال 100 يوم الأولى بالمشاكل الجوهرية بالنسبة للرئاسة. ومثال على ذلك، أنذرت مشاكل الرئيس "جيمى كارتر" المبكرة مع الكونجرس بالصعوبات التى كان يواجهها مع الجناح الليبرالى للحزب الديمقراطي. كانت هذه المشاكل شديدة لدرجة أن كارتر واجه تحديًا فى الترشيح من السناتور "تيد كينيدي" والذى ساهم بالتأكيد فى حقيقة أنه أصبح رئيسًا لفترة ولاية واحدة.

ويشير عدد من المؤرخين البارزين وعلماء السياسة إلى أن الأيام المائة الأولى لبايدن ذات أهمية كبيرة، ربما بقدر ما فعل روزفلت فى محاربة الكساد. وبعد تسعة عقود من ولاية روزفلت، دخل بايدن، كديمقراطى آخر، المكتب البيضاوى فى وقت أزمة غير عادية. لقد أدت الجائحة إلى مقتل إلى ما يقرب من 600 ألف أمريكى وانخفض النمو الاقتصادى بنسبة 2.4%. وكان الأمريكيون يترنحون من هجوم 6 يناير الدموى على مبنى الكابيتول. ووفقًا لوكالة "بلومبرج" الأمريكية، فإن تعاطف بايدن وتاريخ خسارته الشخصية يدعمان استجابته لوباء كوفيد-19، وقد غيّروا النبرة فى واشنطن، بعد أن كان البيت الأبيض فى عهد ترامب فوضوياً. وبحلول يومه المائة فى منصبه فى 29 أبريل، سيكون بايدن قد تجاوز الأهداف التى حددها لتطعيمات ضد الفيروس ويقترب من مقابلة أخرى بشأن إعادة فتح المدارس. ومع إدانة الشرطى "ديريك شوفين" بقتل الأمريكى فلويد، قد تكون خطوة عملاقة إلى الأمام فى المسيرة نحو العدالة فى البلاد. لقد تجنب خطوط الصدع بين التقدميين والوسطيين وأبقى حزبه موحدًا. ومرت الأشهر القليلة الأولى بسلاسة أكبر مما كان يأمله الديمقراطيون، وأصبح بايدن كبيرًا فى أول 100 يوم له، ولكن الصعب لم يأت بعد؛ تبدو الأيام المائة القادمة وما بعدها أكثر اضطرابًا. يواجه بايدن أزمة حقوق الإنسان على الحدود الجنوبية، حيث أدت موجة المهاجرين إلى توتر نظام الهجرة فى البلاد، وأثارت انتقادات من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء. كما توجد مخاوف من ظهور سلالات جديدة للفيروس والتى تساعد على سرعة انتشار الوباء، ما يهدد التقدم فى التلقيح. هذا بالإضافة إلى خطة الوظائف الأمريكية، فاتورة البنية التحتية لبايدن البالغة 2.3 تريليون دولار. وستؤدى هذه الخطة إلى طرح نقاش تم تخطيه مع مشروع قانون إنقاذ الاقتصاد 1.9 تريليون دولار الذى أقره الكونجرس مارس الماضى؛ كيف وما إذا كان سيتم دفع ثمنها من خلال الزيادات الضريبية. حيث يقترح بايدن رفع معدل الضريبة على الشركات إلى 28٪ عقب السيطرة على الوباء، بعد أن خفضها ترامب من 35% إلى 21%، وفقًا لوكالة فرانس 24. 

وأوضح المؤرخ الرئاسى فى جامعة فيرجينيا "سيدنى ميلكيس"، أن خطة بايدن لإنقاذ الاقتصاد، جاءت فى وقت تشهد الولايات المتحدة انقسامًا ثقافيًا وإقليميًا بشأن الهوية الأمريكية، لم تشهده منذ الرئيس إبراهام لينكولن والحرب الأهلية. حيث يواجه بايدن موقفًا أكثر غدرًا من روزفلت: "لم يكن هناك تمرد فى الكابيتول خلال فترة روزفلت، وتساءل عدد قليل من الناس عما إذا كان بايدن الرئيس الشرعي".

وفى مقابل هذه المخاطر الكبيرة، كان هناك إجماع بين ما يقرب من عشرة من الخبراء الرئاسيين الذين جاءت تصريحاتهم فى مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، بأن الأيام المائة الأولى لبايدن كانت ناجحة، حتى عندما فشل فى سد الفجوة الحزبية التى خلفتها سنوات ترامب المثيرة للانقسام. ابتداءً من يومه الأول فى منصبه، وقع بايدن ما لا يقل عن 50 أمرًا تنفيذيًا، نصفها تقريبًا رفضها ترامب، بما فى ذلك انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وسياسات الهجرة، وبناء الجدار الحدودي. 

فيما يرسم مساعدو بايدن والمقربون منه صورة واضحة لاستراتيجيته، بحسب ما ذكره مراسلو وكالة بلومبرج، "جوش وينجروف" و"نانسى كوك"، حيث اتبع بايدن أجندة طموحة وأعاد تعريف "الوحدة" من الحزبين على أنها دعم للناخبين عبر الطيف السياسي، بدلاً من تأييده، على سبيل المثال، زعيم الأقلية الجمهورى فى مجلس النواب "كيفن مكارثي". كما كانت حزمة خطة الإنقاذ الأمريكية التى تم دفعها من خلال الكونجرس مثالًا أساسيًا على ذلك. وقالت وزيرة الخزانة "جانيت يلين" لبلومبرج إن إقرار خطة الإنقاذ إنجاز ضخم. وأضافت "كان تأثير الوباء، سواء على الجانب الاقتصادى أو الصحي، سيئ للأقليات وعمال الخدمات ذوى الأجور المنخفضة، لكن من المتوقع أن يكون هناك فرص عمل سريعًا والتعافى فى الأشهر المقبلة، وتأمل أن تعود الولايات المتحدة إلى التوظيف الكامل عام 2022."

وبينما عمل خبراء الصحة على ترويض كوفيد-19 من خلال حملات التطعيم؛ حيث طلب الرئيس 300 مليون جرعة إضافية من اللقاحات. واستندت الإدارة إلى قوى الحرب وحاصرت السوق على إنتاج الولايات المتحدة ومنعت جميع صادرات اللقاحات وتركتها للصين وأوروبا والهند وروسيا لمشاركة جرعاتها على مستوى العالم، ومن المفارقات استمرار نهج ترامب أمريكا أولاً. وحققت جهود التلقيح الأمريكية هدف بايدن بالوصول إلى مليون جرعة فى اليوم. ويقول مساعدو بايدن إن رئاسته المبكرة سيتم الحكم عليها إلى حد كبير على أساس حملة التلقيح. يقول منسق الاستجابة لفيروس كورونا فى البيت الأبيض، "جيف زينتس"، إن الرئيس يؤمن بـ "التعامل مع هذا الفيروس مثل الحرب، المفتاح هو التغلب على المشكلة والاستعداد لكل طارئ." لا تزال التحديات جسيمة؛ يعتزم الجمهوريون الاستمرار فى إلحاق الضرر بالرئيس الأمريكى وإدارته بشأن الهجرة، وسيواجه المزيد من عقبات السياسة الخارجية فى مواجهة الصين وروسيا وإيران وسحب القوات من أفغانستان.

الأيام المائة الأولى من حكم الرئيس ليست بأى حال من الأحوال الحكم النهائى على إدارته، لكن إرث روزفلت فرض الاهتمام بهذه الفترة. ومع ذلك، فإن نظام الحكم فى الولايات المتحدة نفسه أصبح الآن موضع تساؤل بطريقة لم نشهدها منذ الكساد العظيم. والانطباعات الأولى- تلك المائة يوم- مهمة مرة أخرى. ولكى يفوز بايدن بالدعم الشعبي، فإن المفتاح هو معرفة ما هو التحدى، وأن يوضح للأمريكيين أن إدارته تصعد من الاستجابات للأزمات، وليس المعايير الأيديولوجية الجديدة أو التهديدات الوجودية للنظام ذاته.