كنوز الأميرة - البعض طالب بصلبه وشنقه.. لكن أعضاء هيئات التدريس رفضوا مصادرة رأيه

الشيخ بخيت يشعل الأزهر بفتوى إفطار رمضان

الشيخ عبدالحميد بخيت
الشيخ عبدالحميد بخيت

قراءة: أحمد الجمَّال

أميرة المجلات "آخرساعة" لها حكايات مع شهر الصيام وتحفل أعدادها منذ عقود طويلة بموضوعات شائقة، ربما طاولها غبار الزمن، لكنها لا تزال تحمل رائحة العبق، وحين يقع تحت يدك عدد عتيق منها فهو بمثابة كنز يلقى هالة ضوء على مرحلة مهمة من تاريخ الصحافة، بل وتاريخ مصر عموماً فى ذلك الوقت. وفى السطور التالية نستعرض «كنوز الأميرة» وما فيها من صفحات الماضى الجميل  خلال رمضان من أعوام وأعوام قبل أكثر من نصف قرن من الزمان.

متى تنتهى أزمة المشايخ.. وما مصير الشيخ بخيت؟.. كلمة صغيرة كتبها أحد أساتذة الأزهر بخصوص إباحة الفطر فى رمضان، ثارت من أجلها أكبر زوبعة بين المشايخ فى تاريخ الأزهر.. ونتج عنها الخطاب الذى يقول: "حضرة السيد المحترم صاحب الفضيلة الشيخ عبدالحميد بخيت، قد تقرر انعقاد اللجنة المؤلفة للتحقيق العلمى معكم فى تمام الساعة 12 ظهر اليوم بمكتب فضيلة السكرتير العام  للجامع الأزهر بالإدارة العامة، فعليكم الحضور فى الزمان والمكان المشار إليهما".

وبدأت الزوبعة.. رفض الشيخ بخيت الحضور.. وانعقدت المؤتمرات بين مشايخ الأزهر.. طالب بعضهم برجم الشيخ الثائر، وطالب آخرون بحرقه حيا، ورفع البعض الثالث دعوى يطالب فيها بالتفريق بين الشيخ المرتد وزوجه لبطلان زواجهما.. وأبلغ الفريق الرابع الأمر إلى النيابة حتى تقبض على الأستاذ الكافر!

ووسط الزوبعة ارتفع صوت الشيخ الذى طالبوا بصلبه وشنقه ليقول: أنا أعترض على تشكيل لجنة لمحاسبة الناس على أفكارهم، ولا يمكن أن يقر عقل وجود طبقة تحاسب الناس على ما يرون ويعتقدون، إذ إن هذا ضرب من الكهنوتية التى ناهضها الإسلام وقضى عليها.

وفى صباح أحد الأيام فوجئ شيخ الأزهر عبدالرحمن تاج باجتماع أعضاء هيئات التدريس بكليات الأزهر وقراراتهم التى قالوا فيها بالحرف الواحد: "ليس من مصلحة العلم والدين أن نصادر الآراء والحريات وأن يهدد الباحثون والكاتبون بالمحاكمات والاضطهادات، ويطالب المؤتمرون من مشيخة الأزهر أن نكف عن هذا الأسلوب فى وسائل العلم والدين".

وكانت التوقيعات على البيان مفاجأة أخرى لشيخ الأزهر، لأنهم جميعاً من أصدقائه وزملائه.

ولم ينم شيخ الأزهر، وعقد اجتماعات بالليل والنهار، وظلت تليفوناته لا تهدأ، وأصدر قرارات بعقد لجان جديدة للثائرين الجُدد الذين وقعوا على البيان، وقامت حركة ثالثة لتأييد المشايخ فى موقفهم ضد المحاكمات من جماعة أطلقوا على أنفسهم اسم "جماعة العلماء الأحرار"، وهى تضم مندوبين وأعضاء من جميع الكليات والمعاهد، وهدفها النهوض بالأزهر وإبداء ما فى الإسلام من سماحة وتجديد يوافقان واقعية الحياة.

إن شيخ الأزهر فى نظرهم يريد أن يقضى على التجديد حسب نشأته المتزمتة، فهو يناهض كل إصلاح لدرجة أنه أبلغ إدارة المباحث العامة عن الجماعة التى تعمل على إصلاح الأزهر.. وقد طلب من إدارة المباحث  أن تأمرهم بالكف عن مزاولة نشاطهم..

وأشد عيب توجهه الجماعة إلى الأستاذ الأكبر، هو مدير مكتبه، أو هو المسيطر الفعلى  على الأزهر، وقد قلبه إلى مكان للدسائس والأحقاد، لا مكان دين وإرشاد.

مرحبا بالمحاكمة

لقد قال الشيخ عبدالحافظ عبدربه، المدرس بالجامعة الأزهرية، وأحد أعضاء الجماعة: إن مشيخة الأزهر لم تعد تحترم نفسها، أثارت الزوابع والأعاصير فى وجه أحد كبار العلماء، لا لذنب جناه إلا أنه يقول: أيها الناس احترموا عقولكم ولا تحبسوها.. مع أن الذى ذكره فضيلة الشيخ بخيت ليس بجديد ولا مُفتَرى على الإسلام، وإنما هو من صميمه وواقعه.. ولكن ضيق الأفق واكتناز العقلية الرسمية فى رأس الأزهر والهوى المغرض وشهرة الانتقام، كل هذا دفع إلى ذلك التصرف الفاضح، وكان فى إمكان مشيخة الأزهر والأجدر بها، عقب نشر الحديث، لو كانت تريد مصلحة الدين والمصلحة العامة، أن  تجمع أساطين أعوانها وكبار علمائها الرسميين وترد على الحديث بشكل علمى بحت، وينشر ويذاع على العالم الإسلامى يخاطبه بدلاً من المهاترات التى أنزلت من شأن العلماء فى نظر المسلمين.

ثم لماذا تلك الزوبعة التى أثارها شيخ الأزهر؟ هل مبادئ الإسلام حجر على حرية، لبحث الاجتهاد فى رأى الاستنباط من كتاب الله وسُنة رسوله؟

إذن كيف الشأن مع كبار المجتهدين فى الفقة الإسلامي؟ على أن حرية البحث يجب أن تكون مكفولة للجميع، والإسلام فى جميع تشريعاته يؤيد البحث الحر، والاجتهاد الصادق، ولذا فجماعة العلماء الأحرار، التى أتشرف بعضويتها، تعلنها حرباً شعواء ضد مصادرة العقول التى لم يأذن بها الله.. ولو كان التعرض لهذه المصادرة شيخ الأزهر نفسه، ولو قدمنا إلى المحاكمة، ومرحباً بالألم فى سبيل العقيدة والمبدأ فهو وسام شرف أعتز به.

تسرع

ويقول فضيلة الأستاذ الشيخ محمود النواوي، مفتش اللغة العربية بالأزهر الشريف: أرى أن مشيخة الأزهر تسرعت فيما اتخذته من إجراء حيال هذه المسألة، فإذا فرضنا أن الشيخ بخيت أخطأ خطأ، أو لم يوفق فيما أبداه من رأي، فالرأى ألا يواجه بالتضئيل، وألا ينشر من رءوس الأشهاد أنه رجل مفسد، وأنه سيحاكم وما إلى ذلك.. وسلطان مشيخة الأزهر واسع يسيطر على شئون المسلمين عامة.. فمن الخير أن يكون فيها شيء هى التسامح والتفاهم مع أصحاب الرأي، ثم أن الأستاذ وقف بعد ذلك موقفاً يعتبر معه أنه رجع عما كان مفهوماً من عباراته التى نشرت فى المقال الأول، وكان هذا كافياً فى نظر الإسلام لإنهاء الموضوع، فإن كان لا بد من استصلاح آخر، فليكن ذلك بطريقة استدعاء الرئاسة له والتنبيه عليه ألا يعود إلى مسألة من شأنها أن تبلبل أفكار العامة أو تسيء فهمهم للأحكام الشرعية.                                               

يضاف إلى ذلك أن فضيلة المفتى العام، وهو الرجل المسئول رسمياً واجتماعياً عن كل ما يتعلق بأحكام الإسلام، قد نشر بياناً ناقش فيه الأستاذ بخيت مناقشة علمية هادئة وهذا أشبه ما يكون بواجب العلماء ومسلكهم، وكل هذا كان كافياً لإنهاء المسألة واعتبارها فى خبر كان.. أما هذه النشرات وتلك التضليلات فربما حملها البعض على أنها من تتبع عورات المسلمين والعمل على فضيحتهم، وهو وصف يأباه الإسلام ولا يدخل فى ساحته الفسيحة، قد كان من نتائجه الملموسة أن فرق كلمة علماء الأزهر وجعل منهم معسكرين متصارعين، ونحن أحوج ما نكون إلى جمع الصفوف وتوحيد الكلمة لرفع شئون العلم، ونخدم الوطن ونتعاون مع الحكم الصالح تعاوناً سليماً منتجاً.. ونسأل الله أن يقضى على هذه الفتنة وأن يرد الأمور فى الأزهر إلى نصابها.

جريمة

ورأى فضيلة الشيخ على رفاعي، المفتش العام لقسم الوعظ، أن حالة الأزهر اليوم فى نهاية الجمود، وأن  قد شمل جميع مرافق الأزهر، وعلى رأسه شيخه وبطانته.. واضطهاد العلماء الأحرار ومصادرة حرياتهم فى إبداء الرأى يعتبر جريمة فى نظر الإسلام، فالأزهر فى حاجة إلى  تجديد وتطهير من العناصر المدمرة التى تتحكم الآن فى مصيره، وإلى ملء مناصبه بالكفايات، وما أكثرها بين جدرانه.

ثم أنه من الواجب العمل على إسناد المناصب الإدارية والعلمية إلى من يستطيع القيام بها، فقد كثرت الشكوى من الرؤساء الحاليين فى الأزهر، وأصبح الفساد يشار إليه فى كل مرافقه.

(آخرساعة 8 يوليو 1955)