قصص القرآن.. « قبس من نار»

 الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يقول الحق فى سورة النمل: «إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّى آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ»، ونجد أن دعوة موسى عليه السلام أخذت حيِّزاً كبيراً من القرآن الكريم، ذلك لأن بنى إسرائيل أتعبوا أنبياءهم وعاندوهم حتى كَثُّر الكلام عنهم.وعجيب أنهم يفخرون بكثرة أنبيائهم، وهم لا يعلمون أنها تُحسب عليهم لا لهم، فالنبى لا يأتى إلا عند شقْوة أصحابه، وبنو إسرائيل كانوا من الضلال والعناد بحيث لاَ يكفيهم رسول واحد، بل يلزمهم (كونسلتو) من الأنبياء، فهم يعتبرونها مفخرة، وهى مَنْقصة ومذمّة.

أما تكرار قصة بنى إسرائيل وموسى عليه السلام كثيراً فى القرآن،  فلأن القرآن لا يروي(حدوتة) ولا يذكر أحداثاً للتأريخ لها،  إنما يأتى من القصة بما يناسب موطن العبرة والتثبيت لفؤاد رسول الله: «وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ» لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرَّض فى رحلة الدعوة لكثير من المصاعب والمشاقّ،  ويحتاج لتسلية وتثبيت،  فيأتى له ربُّه بلقطة معينة،  ولكن لا يُورد القصة كاملة،  وهذا ليس عَجْزاً وحاشا لله عن إيراد القصة كاملة مرة واحدة.

وقد أورد سبحانه قصة يوسف عليه السلام كاملة من الألف إلى الياء فى صورة قصة محبوكة على أتمِّ ما يكون الفن القصصي، ومع ذلك لم يأتِ لسيدنا يوسف عليه السلام ذِكْر فى غير هذه القصة إلا فى موضعين:أحدهما: فى سورة الأنعام: «وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ» والآخر فى سورة غافر: «وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً» إذن: ورود القصة فى لقطات مختلفة متفرقة ليس عَجْزاً عن إيرادها مُسْتوفاة كاملة فى سياق واحد، ولو فعل ذلك لكان التثبيت مرة واحدة.

وهنا يقول الحق سبحانه: «إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إنى آنَسْتُ نَاراً» «النمل: 7»،  وفى موضع آخر يقول: «قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إنى آنَسْتُ نَاراً» «القصص: 29» وفى هذه الآية إضافة جديدة ليست فى الأولى.أما قوله تعالى: «فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً» «القصص: 29» أي: آنس فى ذاته، أمّا فى الآيتين السابقتين فيخبر بأنه آنسَ ناراً، إذن: كل آية فى موقف، وليس فى الأمر تكرار، كما يتوهمّ البعض.


فموسى عليه السلام يسير بأهله فى هذا الطريق الوَعْر ويحلّ عليه الظلام،  ولا يكاد يرى الطريق فيقول لزوجته: «إنى آنَسْتُ نَاراً» يعني: سأذهب لأقتبسَ منها،  ليهتدوا بها،  أو ليستدفئوا بها.وطبيعى أنْ تعارضه زوجته: كيف تتركنى فى هذا المكان المُوحِش وحدي، فيقول لها «امكثوا إنى آنَسْتُ نَاراً» «القصص: 29» يعني: أبقىْ هنا مستريحة، وأنا الذى سأذهب، فلربما تعرَّضت لمخاطر فكُونى أنت بعيداً عنها، إذن: هى مواقف جديدة استدعاها الحال،  ليست تكراراً.. كذلك نجد اختلافاً طبيعياً فى قوله: «لعلى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ» «القصص: 29» وقوله «سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ» «النمل: 7».


فالأولى «لعلي» «القصص: 29» فيها رجاء؛ لأنه مُقبل على شيء يشكُّ فيه، وغير متأكد منه، وهو فى هذه الحالة صادق مع خواطر نفسه أمام شيء غائب عنه،  فلما تأكد قال «سَآتِيكُمْ» «النمل: 7» على وجه اليقين.