يوميات الأخبار

ما يعين على الصبر

   د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

ولو كان مسافرا على متن طيارة أو سيارة مكيفة، لإطلاق السفر فى الآية دون تقييد بالسفر مشيا على الأقدام، أو على ظهر دابة كالخيل والإبل.

 العزاء

السبت :

تفكرت منذ عشرات السنين فى هذه القضية، قضية ما يعين على الصبر، لأنى رأيت أننا نزعم أن الصبر مطلوب مأمور به مجردا من أى شيء يعين عليه، هكذا اصبر، أى تحمل الأوجاع والآلام وحدك، ولن يعينك شيء، أمرك لله، أى أنت وربك، هكذا كتب عليك، وما عليك إلا أن تصبر، وتحتسب، والله يعينك من لدنه، ويجزيك خير الجزاء على صبرك، والسلام عليكم ورحمة الله، وقد أسفر تفكرى فى تلك القضية عن وجود أشياء تعين المرء على صبره، ومن أهم ما يعين عليه العزاء، والعزاء فى اللغة والدين معناه التقوية، يقوى الناس أخاهم المصاب، بمده بما هو فى حاجة إليه، عزى عمر بن الخطاب رضى الله عنه رجلا من الصحابة فقد نور عينيه، فاصطحب معه غلاما وهبه إياه ليسحبه، فيتبعه، ويرى بعينيه، وفقد البصر من الابتلاء الشديد بلا شك، وليس أمام من فقده إلا الصبر، ولكن هناك فرق بين صبره وهو لا يجد من يقوده إلى تحقيق غاياته، وبين صبره وهو واجد من يصحبه من المبصرين، يكشف له الطريق، وينبهه إلى مواطن أخطاره، ويعد له بأمانة ماله، ويصف له مما يريد شراءه، وغير ذلك، بل إن الصديق أبا بكر رضى الله عنه قد عزى قوما فى المدينة، وقال لهم: لا مصيبة مع العزاء، أى أننى أقدم لكم العون، وبتقديمه تهون آثار المصيبة، فهو رضى الله عنه لا يعنى زوال المصيبة بالكلية لوجود ما يقدمه المعزى للمصاب، aيتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: اصنعوا لآل جعفر طعاما، فإنهم شغلوا بميتهم، وفى الروض للسهيلى جاء أنه صلى الله عليه وسلم دخل بيت جعفر، واستدعى الحلاق، وأمره أن يحلق لأطفاله، قال العلماء: ليغير من حالهم، والمرء كما قال الفقهاء إذا اغتسل، وتطيب، فذهبت أدران بدنه خفت آلام نفسه، فمن هذا الباب ما فعله صلى الله عليه وسلم مع أبناء ابن عمه جعفر حين استشهد بمؤتة، وبكت أرملته أسماء بنت عميس؛ فقال لها صلى الله عليه وسلم: أتخافين عليهم وأنا وليهم! فهدأت وطابت نفسا، وكيف تخاف على يتامى وليهم خير خلق الله صلى الله عليه وسلم! ومع ذلك لا ينفى أنهم مصابون، ولا ينزع منهم صفة الصبر التى يثابون عليها، لأن العون مهما كان لا يعوض من فقد الأطفال، فالأب المفقود فيه تمام الشفقة، وفى العوض من الشفقة ما يعين على فقد تمامها، فسبحان الله الذى جعل الدنيا برمتها دار ابتلاء، وشرع مع الابتلاء العزاء؛ ليعين الصابرين عليه، هذا من قبل أن يتحول العزاء إلى عملية درامية تمثيلية، يرتدى فيها المعزى السواد، ويتجه إلى مسجد من المساجد يقام فيه عزاء المغفور له بإذن الله تعالى، ويقبل أهل الميت، ويقبع على كرسى، ويستمع إلى بعض آيات الذكر الحكيم، ثم ينصرف، وهو معتقد أنه بذلك قد قدم الواجب، وشكر الله سعيه، وقد كنت وما زلت أتعجب من حال المصاب، كيف يقف ليستقبل معزيه وكل الناس جالسون، من أين استمد هذه القوة على الوقوف بالساعات، وهو مصاب! بينما السادة المعزون جالسون فى منتهى الراحة، فأيهما يجب أن يجلس، المعزى أم صاحب المصيبة؟ وهذا لا يدل إلا على معنى واحد أننا جميعا ممثلون، ونمثل مشهدا لم يجد له مخرجا عبقريا، يأمر أهل المصاب بالجلوس؛ لأنهم غير قادرين على الوقوف، فقد فت مصابهم عضدهم، ولم يعد فيهم حيل كى يقفوا، ويستقبلوا السادة المعزين، ويمرون بين صفوفهم ليشكروهم على ما قاموا به من مهمة المجيء إلى هذا السرادق الذى تكلف ما يسد حاجة أرملته ويتاماه مدة غير هينة من الزمن، والمخرج العبقرى سيفهم السادة المصابين بأن يتظاهروا بالضعف حتى يظن القادمون لعزائهم أن الفقيد أثر فيهم رحيله، فلم يعودوا قادرين على الوقوف قدرتهم عليه لاستقبال القادمين إليهم للتهنئة فى الأفراح والمسرات، وأن السيد المعزى يحنو على المصاب، الذى ربما ظهرت منه بادرة للوقوف، ويقول له: والله ما انت قايم يا راجل كان الله فى عونك، وأنا جئت لأقول لك ما قاله أبو بكر الصديق: لا مصيبة مع العزاء، فخذ هذا المبلغ، وأعطه أرملته، أو طفله الذى أمسى بفقده يتيما، أو سأمر عليك غدا بالأوراق المطلوبة من أجل المعاش، ونحو ذلك من الأمور التى تقويه، والتقوية مما يعين على الصبر الجميل الذى ليس فيه ضجر، ولا يأس، ولا خور، ولا مظنة أن الحياة قد توقفت بهذا الفقد، ولا شك أن حديث النبى صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر إن لم يظهر معناه فى المصائب ففيم يظهر! ولا شك أن شعور المصاب بأنه عضو فى جماعة، إذا اشتكى اشتكت لشكايته الجماعة، وإذا اعتل اعتلت لعلته حقيقة لا ادعاء، وواقعا لا تمثيلا  يهون عليه ما يصاب به، ويعينه على أن يصبر، وقد ذهب ما لا يحصى من الفقهاء إلى جواز إفطار الصائم فى رمضان إذا كان مسافرا، لقول الله تعالى: «فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر» ولو كان مسافرا على متن طيارة أو سيارة مكيفة، لإطلاق السفر فى الآية دون تقييد بالسفر مشيا على الأقدام، أو على ظهر دابة كالخيل والإبل، ولا شك أن الطيارة والسيارة من الأمور المعينة على السفر بلا إرهاق، والمسافر بلا إرهاق يفطر فى رمضان، فاسمه مسافر، وهكذا الحال فيما يعين على الصبر، فكما يقال فى راكب الطيارة: مسافر، يقال لمن يعزى فى مصيبة: مصاب وصابر، هذا من جمال الدين، ما شرع فيه شيء إلا وقد شرع معه ما يعين عليه، غير معتبر أن هذه الإعانة ملغية صفته، أو مخسرة إياه شيئا من أجره وثوابه العظيم، لكن كثيرا من الذين لا يدركون تلك الأسرار يظنون أن الأجر إنما يستوفى كاملا غير منقوص إذا كان على عمل يؤدى بطلوع الروح، وأن شيئا لا يعين عليه، وإلا فقد العامل عظيم أجره، وهذا من الأمور التى يجب أن نتوب إلى الله تعالى منها، رغبة حقيقية فى فهم الدين وفقهه.

المعالجة

الأحد: 
ومن الأمور التى تعين على الصبر معالجة المصاب ما أصابه، والحياة بكل ما فيها تحتاج إلى معالجة، وهى اسم جامع مانع لكل شيء، أى ليست وقفا على العلل والأمراض، فقيامك من نومك، ودخولك الحمام من معالجة أمرك، حتى تستعيد عافيتك، ونشاطك، وأكلك حين تجوع من المعالجة، وهكذا ما دمت حيا، لابد أن تعالج أمورك، وتصلح من شأنك، وأعنى بالمعالجة المعينة على الصبر نحو أن تعيد بيتك الذى قد يكون قد تهدم، أو كاد يتهدم، وأن تزور طبيبا ماهرا إذا ألمّ بك داء، ولله در الشافعى رحمه الله حين قال: إذا كان المسلم مريضا، وجاء رمضان، وكان صيامه يؤخر شفاءه فليفطر، أى أن المريض إذا كان شفاؤه يرجى فى أسبوع وهو مفطر، ويرجى فى أسبوعين وهو صائم فإنه يفطر حتى لا يدوم أنينه أسبوعا زائدا، وأن تعوض خسارتك بأن تجتهد باحثا عن سببها، عاملا على عدم التعرض له من جديد حتى لا تخسر مرة أخرى، وفى طريق المعالجة أنت صابر، لا تنفى عنك الصفة أى صفة الصبر، ولا تنقص تلك المعالجة من عظيم أجرك، لا كما يظن بعض الناس أنك إذا ابتليت صبرت دون عمل على محو آثار المصيبة، بل تظل ساكنا الخرب، باكيا على طلل بيتك الذى كان، مستمرا فى أنينك، لا تزور طبيبا، ولا يزورك، ولا تأخذ بسبب تستنشق به نسيم العافية بعد السقم، والحياة بعد ما يشبه العدم، فهذا عقم فكرى لا يستقيم وما عليه الدين، بل إن المعالجة تكون قبل الإصابة، حتى لا تحدث الإصابة، ألست ترى خرق السفينة التى ركبها كليم الله موسى عليه السلام، ومن علمه الله من لدنه علما، هى معالجة حتى تصبح معيبة فلا يأخذها غصبا طاغية كان يغتصب كل سفينة صالحة سليمة من كل عيب، وألا ترى قول الله تعالى: «واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا» أى بمجرد أن تشموا رائحة النشوز افعلوا كذا وكذا وكذا حتى لا يتم النشوز فعلا، وتكون المصيبة الجلل التى لا يجدى معها علاج، ولا ينفع فيها صلح، وقد رأينا فى رحلة الكريمين العالمين جدارا يريد أن ينقض فأقاماه قبل أن ينقض، وما أكثر الأدلة التى تدل على إدراك الأمرالسيئ قبل أن يتحقق السوء منه، ومن يتأمل ذلك يعلم أن الدين يدعو إلى بذل قليل من الجهد قبل أن يضطر المبتلى إلى بذل الكثير منه، ومن ثم ينصح الأساتذة من الأطباء بضرورة أن يزور المرء الطبيب فى أول شكايته، وشعوره بالمرض، ولا ينتظر حتى يمكن تلاشى الكثير من العلل، وقد يحتاج إلى جراحة كان بوسعه ألا يجريها لو أدرك حاله فى أول العلة، والشكاية.

الاستبشار  بوعد الله

الاثنين: 
ومن أهم ما يعين على الصبر أن يستبشر المبتلى بفرج الله القريب، يقول تعالى: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب» ولى كلمة من قديم قلتها فى هذه الآية أن الأمر إذا اشتد فاعلم أن الفرج بالباب، لكن من حماقتنا أنه إذا اشتد زدنا ضجرا، وكدنا نفقد روح الصبر فيولى نصر الله، ويرجع ولو تدبرنا هذه الآية لاستبشرنا بالفرج عند بلوغ الشدة منتهاها، وفرق كبير بين أن تصبر فاقدا هذا الاستبشار، وأن تصبر وهو يملأ صدرك، وتزداد يقينا بأن بينك وبين انكشاف الغمة والكرب خطوة واحدة إن لم يكن أقل ولا يرى ذلك إلا من كشف الله بصيرته، وقد جاء هذا المعنى بوضوح تام فى الآية 104 من سورة النساء، وهى قول الله تعالى: «ولا تهنوا فى ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما» فالألم واحد وهو مشترك بين المؤمنين والكافرين بدليل قوله تعالى: إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، والسؤال الذى يفرض نفسه وهو ضرورى: فما الفرق إذا بين المؤمنين والكافرين؟ والجواب يتمثل فى قول الله ربنا: «وترجون من الله ما لا يرجون» أى أن المؤمن يتألم والكافر يتألم كذلك، ويعانى ما يعانى لكن فى صدر المؤمن يقين بأن الله سيرجعه بإحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة، وهو فى كلتا الحالتين فائز بخلاف الكافر الذى يعتقد أنه لا حياة بعد الموت ولا جنة تنتظر الشهداء الذين قتلوا فى سبيل الله دفاعا عن دينهم، وأعراضهم وأوطانهم، والفرق بين الحالتين كالفرق بين الحر الذى ينكشف بعد حين عن جو رقيق، وبين الحر الذى يسلم إلى جهنم والعياذ بالله، وقد قالت العرب فى ذلك من قديم: «فلان كالمستجير من الرمضاء بالنار» والرمضاء الريح الحارة وهذا المعنى قاله أجدادنا من قديم أيضا: «فلان بيطلع من حفرة يقع فى ضحضيرة» ولا يمكن أن يكون المؤمن كذلك، بل إنه يطلع من حفرة إلى صراط الله المستقيم حيث لا حفرة ولا عثرة.