تجـَّار الدم فى الإدارة الأمريكية

مليارات الدولارات للتأثير على سياسة الدفاع

بوينج العملاقة تعتمد على العقود الحكومية المربحة
بوينج العملاقة تعتمد على العقود الحكومية المربحة

دينا توفيق

تبرعات لدعم السياسيين فى حملاتهم الانتخابية.. الإنفاق على لوبيات الضغط من أجل التأثير على صناع القرار.. وهكذا تتوغل ملايين الدولارات لشركات الأسلحة لتمرير سياسات واتفاقيات دفاعية تخدم مصالحهم أولًا.. تمويلات فى صورة تبرعات ومنح، حتى أصبحت قوة تهيمن على سياسة الدفاع من قبل مقاولى الأسلحة داخل الولايات المتحدة. ورغم الرقابة المشددة، فإن هناك العديد من أعضاء الكونجرس ورموز الإدارة الأمريكية هم من يستفيدون من الحرب وتأجيج الأوضاع وتسهيل إبرام صفقات السلاح المستمرة سواء فى الداخل أو الخارج.

تنفق شركات الدفاع ومقاولوها الملايين كل عام لتمرير اتفاقيات وعقود أسلحة، فخلال العقدين الماضيين، قدمت شبكتهم الواسعة من جماعات الضغط والمانحين 285 مليون دولار كمساهمات لدعم الحملات الانتخابية و2٫5 مليار دولار من أجل تعيين أكثر من 200 عضو بارزين ومؤثرين، يعملون على تنظيم وتقرير تمويل صناعة الأسلحة وسياسة الدفاع من الإنفاق على المعدات العسكرية. وتبيع شركات الدفاع مجموعة متنوعة من المنتجات والخدمات فى جميع أنحاء العالم، حسب ما ذكرته منظمة "أوبن سيكريتس" التابعة لمركز السياسة المستجيبة (CRP)، حـــيث أنفقـــت الشــركات الخمــس الكـــبرى على جمــاعات الضغط خــلال العام الماضى فقط 60 مليون دولار، وهم "لوكهيد مارتن"، و"بوينج"، و"نورثروب جرومان"، و"رايثيون"، و"جنرال دايناميكس".
ووفقاً لمجلة "أمريكان بروسبكت"، يمتلك 51 عضواً فى الكونجرس وأزواجهم ما بين 2٫3 و5٫8 مليون دولار من الأسهم فى الشركات التى تعد من بين أكبر 30 من مقاولى الدفاع فى العالم. وتخضع الأعمال التجارية والصفقات فى صناعة الدفاع لرقابة مشددة، وفى أحيان كثيرة يتم تحديدها بالكامل من خلال القرارات الرسمية المتخذة فى الكونجرس والبنتاجون بطريقة لا يتعين على الصناعات الأخرى مواجهتها. ووصلت المبيعات الأجنبية إلى ما قيمته 12 مليار دولار من الأسلحة سنوياً بين عامى 2016 و2018، وفقاً لـ"مركز السياسة المستجيبة".
ورغم أنه من المعروف جيداً إنفاق الولايات المتحدة مبالغ طائلة للحفاظ على قوة جيشها، فقد لا يدرك الكثيرون أن جزءاً كبيراً من بيع الأسلحة لدول أخرى، التى يتم تمريرها باستخدام أموال دافعى الضرائب، بمباركة من الكونجرس ووزارة الخارجية الأمريكية. بينما كان الرئيس الأمريكى جو بايدن يروِّج لقواعد أخلاقية صارمة تحاول إحباط تأثير جماعات الضغط على الإدارة، فإن العديد من فريق إدارته، بمن فيهم وزير الدفاع لويد أوستن، ووزير الخارجية أنتونى بلينكين، يعملون جنباً إلى جنب مع كبار أعضاء جماعات الضغط فى واشنطن فى شركات دفاعية أو مؤسسات يمولها مجتمع السلاح الأمريكي؛ حيث عملوا كشركاء مع "باين آيلاند كابيتال"، وهى شركة استثمارية متخصصة فى أنظمة الدفاع. كما يقدمون المشورة مع العديد من المشرعين المؤثرين الذين تحولوا لجماعات ضغط، بما فى ذلك زعيم الأغلبية السابق فى مجلس الشيوخ السيناتور توم داشل، وزعيم الأغلبية السابق فى مجلس النواب السيناتور ديك جيبهارت، وكل منهما يدير شركات الضغط الخاصة به التى تجذب العملاء الأجانب والمحليين. وخلال عام 2019، ضغطت شركة "داشل" على الحكومة الفيدرالية نيابة عن تركيا، التى سعت وقتذاك للحصول على الموافقة على شراء صفقة كبيرة لأسلحة من المتعاقدين الأمريكيين. من بين كبار العملاء فى شركة الضغط التى يمتلكها السيناتور "جيبهارت"، تلك الشركات التى تعتمد على العقود الحكومية المربحة، مثل "بوينج".
 ويثير عمل أوستن وبلينكين فى الشركة أسئلة حول نوع الخدمات التى قدماها وإلى أى مدى تكمن أهميتها وخطورتها، وكيف يمكن لعملهما فى إدارة بايدن أن يفيد مستثمريها الأثرياء. وتأسست "باين آيلاند كابيتال" عام 2018 من قبل المديرين التنفيذيين السابقين لشركات الدفاع الكبرى، ولم تخف الشركة استراتيجيتها المتمثلة فى تعيين مستشارين يتمتعون بصلة واسعة بالإدارة الأمريكية. وفى ملف قدمته الشركة فى سبتمبر الماضى إلى لجنة الأوراق المالية والبورصات، أعلنت "وصولها غير المعتاد إلى المعلومات الهامة"، وفقاً لموقع "مركز السياسة المستجيبة". وتعتمد صناعة الدفاع على الحكومة الفيدرالية فى الكثير من تمويلها، لذا يجب أن تحصل شركات الدفاع المحلية على موافقة الحكومة لبيع الأسلحة إلى دول أجنبية. وعلى هذا النحو، يُصنَّف كبار مقاولى الدفاع من بين أكبر المنفقين على جماعات الضغط.
وعمل وزير الدفاع الأمريكى أوستن كقائد للقيادة المركزية الأمريكية لمدة ثلاث سنوات قبل تقاعده عام 2016. ومن هناك، انضم إلى مجالس إدارة العديد من الشركات القوية، بما فى ذلك شركة المقاولات الدفاعية "يونايتد تكنولوجيز"، التى استحوذت عليها شركة "رايثيون" العملاقة، وحينها أبقت أوستن فى مجلس إدارتها، وحقق أرباحاً من دمج الشركتين وصلت إلى 250 ألف دولار. فيما أطلق "بلينكين" شركة استشارية تسمى West Exec Advisors عام 2016 عقب الانتخابات جنباً إلى جنب مع مسئولين آخرين من إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما، بما فى ذلك وكيل وزارة الدفاع للسياسة ميشيل فلورنوي، التى قدمت المشورة إلى "باين آيلاند كابيتال". نصحت شركة بلينكين السرية عملاء الشركات حول كيفية التعامل مع إدارة بايدن والحكومة بوجه عام؛ لاسيما كيف يمكنهم التنقل فى البنتاجون، ولكن لم يتم الإبلاغ عن أى نشاط من أنشطتها ولا يُعرف سوى القليل عن قائمة عملائها، نظراً لأن موظفيها ليسوا من جماعات الضغط، وليسوا مطالبين بالكشف عمن يعملون لصالحه أو نشاطه. وبهذه الطريقة، احتفظت الشركة بسرية قائمة عملائها الكاملة.
ووفقًا لصحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، يتضمن الموقع الإلكترونى لشركة وزير الخارجية الأمريكى، خريطة تصور الشركة وكأنها الطريق الآمن على أراضى البيت الأبيض بين الجناح الغربى ومبنى المكتب التنفيذى فى أيزنهاور، الذى يضم غالبية مكاتب موظفى البيت الأبيض، كطريقة لإظهار ما يمكن أن تفعله الشركة الاستشارية لعملائها. وأوضحت مديرة مركز معلومات الدفاع فى مشروع الرقابة الحكومية، ماندى سميثبيرجر، أن شركة بلينكين مليئة بمسئولين كبار سابقين فى الأمن القومى والسياسة الخارجية فى الحزب الديمقراطى الذين جمعوا الأموال لحملة بايدن، أو انضموا إلى فريقه الانتقالي، أو عملوا كمستشارين غير رسميين، كما أنها ليست الشركة الوحيدة التى كانت لها علاقات مع حملة بايدن أو المرحلة الانتقالية.
ومع مجيء الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، أبدى الرئيس التنفيذى لشركة "رايثيون"، جريج هايز، تفاؤله بشأن آفاق الشركة فى ظل إدارة بايدن، حيث أخبر المستثمرين فى يناير أن "السلام لن يحل على الشرق الأوسط فى وقت قريب، وسنستمر فى رؤية نمو قوى لأرباح الشركة"، فيما توضح مجلة "فوربس" الأمريكية، أن جزءاً كبيراً من ميزانية البنتاجون البالغة 741 مليار دولار يتم إنفاقها على الأسلحة التى يستخدمها الجيش الأمريكي؛ وعندما تنعقد جلسات الكونجرس ليقرر مستويات التمويل للبنتاجون الذى ينفق نحو ثلاثة أضعاف ما ينفقه أى جيش آخر فى العالم، فإن مصنعى الأسلحة والدعم العسكرى لديهم شبكة واسعة من جماعات الضغط وموظفى الحكومة السابقين يدفعون بمصالحهم التجارية من أجل الحصول على موافقة أعضاء الكونجرس.
وتتخــصص شـــركة "أمــــريكان ديفــيـنس إنترناشـــــونال" فــــى ممـــارســـــــة الضـــغـــط والاستشــارات فى شــئـون الدفـــاع، وحققـت 3٫9 مليون دولار عـام 2020، وتمثل عملاء لديهم نشاط مع البنتاجون. ومن بين عملائها شركات تصنيع دفاعية معروفة مثل "رايثيون"، و"جنرال دايناميكس". ولكن على مدار السنوات العشر الماضية، كان أكبر عملائها "جنرال أتوميكس" التى تعد من أكبر الشركات للصناعات العسكرية فى العالم من حيث الدخل والرائدة فى تصنيع أنظمة الطائرات بدون طيار والمستفيد الرئيسى من قرار إدارة الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، بتخفيف القيود المفروضة على بيع الطائرات "الدرون" فى الخارج. وتصنع شركة "جنرال أتوميكس"MQ-9 Reaper  التى استخدمت فى الغارة الجوية فى يناير2020 لاستهدف موكب لميليشيا مدعومة من إيران فى مطار بغداد أدت إلى مقتل قائد فيلق القدس الإيراني، "قاسم سليماني".
ويتطلب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب من الكيانات الأجنبية مثل الحكومات والأحزاب السياسية الإبلاغ عن جهود التأثير فى الولايات المتحدة إلى وزارة العدل. لكن المنظمات التى تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها ومعظم الشركات أبلغت عن مجموعة محدودة من الأنشطة بموجب قانون الإفصاح عن ممارسة الضغط. أنفقت صناعة الدفاع 216 مليون دولار بشكل مباشر للضغط على الحكومة الفيدرالية منذ بداية عام 2019، فيما يعد عام ذاته، هو آخر عام تتوفر فيه بيانات الأسلحة، حيث تشكل الشركات الأمريكية أكبر خمسة بائعى أسلحة على مستوى العالم وتصدر إلى ما يقرب من 100 دولة، وفقًا لمعهد "ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام". وفى غضون ذلك، أنفقت تلك الشركات الخمس 54٫6 مليون دولار للضغط على الكونجرس والسلطة التنفيذية عام 2019. واعتمادًا على نوع المعاملة، تتم الموافقة على مبيعات الأسلحة فى الخارج من قبل لجان الشئون الخارجية ومكتب الشئون السياسية والعسكرية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية. وترى مجلة "أمريكان بروسبكت" أن ميزانية الدفاع محددة عند مستوى لا يريده كل من مقاولى السلاح ولا عمالقة الصناعة ولا البنتاجون؛ وإنما يريدون إما رفع الحد الأقصى أو التخلص منه.