سيطر على مخزون «اليورانيوم 233» الأمريكى المستخدم فى علاج السرطان

جيتس يحقق حلمه القديم فى الطاقة النووية

بيل جيتس
بيل جيتس

كتبت/ دينا توفيق

الطاقة النووية والتحول نحو الطاقة البديلة.. حلم قديم كان يراود الملياردير الأمريكي ومؤسس شركة مايكروسوفت "بيل جيتس"، مشروعه الذى كان يروج له، بعد أن تخلت عنه الولايات المتحدة منذ عقود بسبب مخاوف من استخدام الطاقة النووية فى أغراض غير سلمية.. لذا ذهب جيتس إلى الصين للبحث عن شركاء جدد واستقر على تحقيق حلمه فى بكين وليس "سياتل" الأمريكية.. ويراهن عملاق التكنولوجيا على الطاقة النووية من أجل إنقاذ الأرض من تغييرات المناخ والحد من الانبعاثات الكربونية ومن ثم البشرية. 

وبالفعل توصلت شركته "تيراباور"، التى أسسها عام 2006 من أجل تصميم مفاعلات نووية مبتكرة، إلى اتفاق مع شركة الصين الوطنية النووية المملوكة للدولة عام 2017 لبناء مفاعل نووى تجريبي، وأصبح الحلم حقيقة، ومهدت بنقل التكنولوجيا النووية إلى بكين والسماح للأخيرة بشراء مفاعلات وتقنيات أمريكية التصميم استنادًا إلى الاتفاقية التى وقعها الرئيس الأمريكى الأسبق "باراك أوباما" بالتعاون النووى بين الولايات المتحدة والصين لمدة 30 عامًا فى 21 أبريل 2015.

ولكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس فى ظل إدارة الرئيس الأمريكى السابق "دونالد ترامب"، بعد إلغائه الاتفاقية بين "تيراباور" والصين عام 2019، كجزء من العقوبات الاقتصادية والسير عكس سياسة أوباما، حيث أعلنت وزارة الطاقة الأمريكية فى أكتوبر 2018 أنها ستقيد تصدير التكنولوجيا النووية إلى الصين. وفى تقرير صدر العام الماضى بعنوان "استعادة التنافسية النووية لأمريكا"، تضع الوزارة سياسة إعادة وضع الولايات المتحدة كشريك مسئول فى مجال الطاقة النووية، وفقًا لهيئة البث الإذاعى والتلفزيونى الحكومية الأمريكية "صوت أمريكا".

وفى الجانب الآخر من العالم، وبالتحديد من مقاطعة "آنهوى" الصينية، مضت بكين فى تنفيذ أحد مشاريع الأبحاث المهملة التى تخلت عنها الولايات المتحدة، ألا وهو مفاعل نووى يعمل على عنصر "الثوريوم" المتوافر بكثرة، بهدف إنقاذ العالم من ظاهرة التغير المناخي. وخلال عام 2012، أبرمت إدارة أوباما صفقة سرية مع الصين لنقل التكنولوجيا، كما وقعت الأكاديمية الصينية للعلوم مذكرة تفاهم مع وزارة الطاقة الأمريكية "للتعاون" فى مفاعلات الثوريوم. ونظرًا لعدم وجود برنامج محلى للولايات المتحدة، أثارت المذكرة تساؤلات حول كيفية استفادة واشنطن من مثل هذا التعاون. وأخبر مساعد وزير الطاقة آنذاك "بيتر ليونز" الكونجرس أنه لا توجد ميزة لمتابعة مفاعلات الثوريوم فى الولايات المتحدة. ومع ذلك، كان ليونز لاعبًا رئيسيًا فى تأمين الشراكة مع الصين، وبات رئيسًا مشاركًا للجنة التنفيذية للشراكة. وفى حين أن المذكرة لم تكن سرية، إلا أن إدارة أوباما أبقت الوثيقة بعيدة عن الرأى العام. ويتوقع الخبراء أن الصين فى طريقها لإزاحة الولايات المتحدة عن مكانتها كرائد عالمى فى إنتاج وتوليد وبيع الطاقة النووية، مما يوفر وسيلة أخرى لمساعى بكين لتصبح القوة الاقتصادية الرائدة فى العالم. 

ليس سرًا أن جيتس يلعب ويراهن دائمًا على الفوز، ومن خلال الوصول إلى بكين لبناء مفاعلات نووية، وبيع تكنولوجيا مفاعلها الموجى المتنقل إلى الصين وعدد من القوى الأجنبية الأخرى مثل الهند وكوريا وروسيا. ونظرًا لكونها مستقبل الصناعة، وجدت شركته تيراباور طريقة للجمع بين تقنية الحوسبة الفائقة وتكنولوجيا الطاقة النووية لإنتاج طاقة رخيصة ومستدامة. أحد أسباب جيتس الظاهرية والمعلنة هو استبدال محطات الطاقة التى تعمل بالفحم والغاز الطبيعى ببدائل كطاقة خضراء صديقة للمناخ للحد من ظاهرة الاحتباس الحرارى والانبعاثات الكربونية. وقد أدى ذلك إلى تبنيه بناء محطات طاقة نووية لمكافحة تغير المناخ، ولكن فى حقيقة الأمر المفاعلات تعتمد على "البلوتونيوم" القابل للاستخدام فى الأسلحة النووية. وتبين من خلال عقود مضت منذ خمسينيات القرن الماضي، تخلى كل من الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا واليابان عن جهود المفاعلات المولدة بعد إنفاق ما يعادل 10 مليارات دولار أو أكثر، بعد توصلها أنها "مكلفة فى البناء، ومعقدة فى التشغيل، وعرضة للإغلاق لفترات طويلة نتيجة أعطال بسيطة، وربما يصعب إصلاحها أوتستغرق وقتًا طويلاً فى الإصلاح." 

ووفقًا للفيزيائى الأمريكى "فرانك فون هيبل"، والأستاذ بجامعة برينستون، فعلى الرغم من إنفاق ما يقرب من 100 مليار دولار على جهود تسويق هذه الطاقة، لا يعمل سوى نموذجين أوليين لمفاعل مولّد مبرد بالصوديوم - كلاهما فى روسيا، وتقوم الهند بإنشاء مفاعل واثنين آخرين فى الصين بمساعدة روسيا. لكن ليس من الواضح أن الهند والصين تتطلعان فقط لتوليد الكهرباء والطاقة؛ وقد يكون الدافع وراءهم أيضًا هو استخدام الكميات الوفيرة من البلوتونيوم التى تنتجها المفاعلات فى صنع الأسلحة والذى تريده جيوشها لتوسيع مخزوناتها من الأسلحة النووية.

وقد أدت تجربة الهند النووية عام 1974، عندما أجرت أولى اختباراتها بتفجير قنبلة نووية بالبلوتونيوم تم إنتاجه بمساعدة من الولايات المتحدة وبرنامجها "الذرة من أجل السلام" إلى مراجعة واشنطن للسياسة النووية فى عهد الرئيس "جيمى كارتر"، إذ خلصت إدارته عام 1977 إلى أن المفاعلات المولدة للبلوتونيوم لن تكون اقتصادية فى المستقبل ودعت إلى إنهاء برنامج التنمية الأمريكي. ولكن حلم المفاعلات المولدة للبلوتونيوم استمر فى مختبر "أيداهو" الوطنى التابع لوزارة الطاقة الأمريكية، وخلال إدارة ترامب، وافقت الإدارة على دعم إنشاء مفاعل يعمل بالبلوتونيوم ومبرد بالصوديوم فى أيداهو، والذى يُطلق عليه اسم برنامج "مفاعل الاختبار متعدد الاستخدامات" «VTR» وبعد ذلك، أبرمت شركة جيتس صفقة طيبة مع وزارة الطاقة، حيث دفعت الشركة 90 مليون دولار لمقاول وزارة الطاقة للحصول على نظائر مشعة ثمينة، مع احتكار وتدمير مخزون أمريكا بالكامل من اليورانيوم U-233، الذى يستخدم فى علاج السرطان. وهذه ليست المشاكل الوحيدة لاحتكاره إمدادات U-233، بل سيفيد التوسع العسكرى المستقبلى للصين كقوة بحرية عالمية بسبب التعاون المشترك بينهما. وتتطلب مفاعلات الثوريوم "بذرة" من اليورانيوم 233 لبدء التفاعل المتسلسل لتوليد الطاقة، والصين لديها القليل منه، إن وجد. وحينها قام جيتس بتجنيد أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين "كورى بوكر"، و"ديك دوربين"، و"شيلدون وايتهاوس" وانضم إليهم عضوان جمهوريان فى مجلس الشيوخ من ولاية أيداهو فى ائتلاف من الحزبين للمشاركة فى رعاية قانون قدرات ابتكارات الطاقة النووية لعام 2017، من أجل الضغط لاستمرار اتفاقية أوباما مع الصين وتوقف البرنامج فى البلاد. وبعدها، حاول جيتس من خلال شركة تيراباور، نقل تكنولوجيا الاستنساخ السريع إلى شركة الصين الوطنية النووية. وفى عام 2019، منعت إدارة ترامب شركة تيراباور من الاستمرار فى الاتفاقية مع بكين، لكنها لم توقف عقد وزارة الطاقة لاحتكار U-233، وفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.

وتعد الطاقة النووية أمرًا حيويًا للتنمية الاقتصادية للعديد من البلدان، لأنها مصدر للطاقة النظيفة الخالية من الانبعاثات الكربونية. وتوقعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى تقريرها السنوى العام الماضى أن القدرة الكهربائية النووية فى العالم ستتضاعف بحلول عام 2050. ووفقًا للبيانات الصادرة عن الرابطة النووية العالمية فى "تقرير الأداء النووى العالمى 2020"، أنه على الرغم من امتلاك الولايات المتحدة 95 مفاعلًا، إلا أن هناك محطتين جديدتين فقط قيد الإنشاء. وفى المقابل، تمتلك الصين 48 وحدة تشغيلية فقط، لكن 11 وحدة أخرى قيد الإنشاء. ذكر تقرير آخر صادر عن جمعية الطاقة النووية الصينية العام الماضى أن الصين قد تصدرت العالم من حيث بناء مفاعلات جديدة بين عامى 2018 و 2019. واقترحت الصين لأول مرة استراتيجية وطنية لتصدير الطاقة النووية عالميًا عام 2013، وربطها باستراتيجية "الخروج" التى تعد جزءًا مهمًا من مبادرة "الحزام والطريق"، والتى تهدف إلى ربط الصين بالعالم. ووفقًا للتقرير، تخطط 28 دولة لتطوير الطاقة النووية على طول طريق المبادرة. كما تمثل الاستراتيجية أيضًا أولوية قصوى لمبادرة "صنع فى الصين 2025" لتعزيز صناعات التكنولوجيا الفائقة. 

وخلال الأسبوع الماضي، وفقًا لوكالة "بلومبيرج" الأمريكية، تم توقيع اتفاقية بين تيراباور وشركة "بوينت بيوفارما" الطبية الكندية على توريد الأكتينيوم 225، الذى من المتوقع أن يحدث ثورة فى علاج السرطان. وقال المدير التنفيذى لشركة تيراباور "كريس ليفيسك"، أن الشركة ملتزمة بتطوير العلوم النووية لحل أكبر التحديات العالمية فى مجالات الطاقة والمناخ وصحة الإنسان؛ ونظرًا لأن الأكتينيوم 225 يمكن أن يكون هاما فى علاج السرطانات، سيتم تسريع تطويره، وتقديم هذه المادة للمرضى الذين يحتاجون إلى علاج المنقذ للحياة.

ويرى المحلل والسياسى الأمريكى "روس فينجولد" أن صانعى السياسة الأمريكيين فى الماضى ربما لم يدركوا أهمية تصدير التكنولوجيا النووية إلى الصين وروسيا بسبب انخفاض تكاليف النفط والفحم، وتزايد انعدام الثقة فى الطاقة النووية بعد كارثة فوكوشيما فى اليابان، مع العمل على مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح. ونظرًا لأن هذه قضية عالمية الآن، خاصة مع سعى الصين للحصول على فرص فى إفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، فمن العدل أن نقول إن الولايات المتحدة لم تولِ هذا الملف الاهتمام الكافى فى السنوات الماضية. وفى الوقت ذاته، تستمر فى تدمير مخزونها من U-233، مما يؤدى إلى احتكار علاجات السرطان المشتقة منه من خلال تسليم النظائر النادرة إلى جيتس. ستثبت سيطرة النظام الصينى برئاسة "شى جين بينج" على تكنولوجيا الثوريوم تهديدًا وجوديًا للتنافسية الاقتصادية الأمريكية والأمن القومي. 

ومثلما سمح الساسة الأمريكيون والإدارات الأمريكية المتعاقبة بأن تصبح البلاد معتمدة على الصين، فى كافة الصناعات كالأدوية والإلكترونيات والمعادن الاستراتيجية، فإنهم يساعدون بكين الآن على جعل واشنطن تعتمد على التكنولوجيا النووية المتقدمة، رغم أن الكونجرس يمكن أن يلغى كافة الاتفاقيات مع النظام الصينى والرئيس "شى جين بينج".

وفى دراسة للمجلس الأمريكى لتكوين رأس المال، تتساءل لماذا يعتقد جيتس أن الطاقة النووية هى المستقبل؟ ولماذا تجذب شركته انتباه مستثمرى الطاقة الخضراء؟ وعلى الرغم من ترويجه للطاقة النووية على أنها أكثر اخضرارًا من الطاقة الشمسية كطاقة نظيفة، إلا أنها أكثر إثارة للانقسام من مصادر الطاقة المتجددة التقليدية، ويرجع ذلك إلى سببين الأول هو الخوف من وقوع حادث، والثانى ماذا ستفعل مع نفاياتها! كما قدرت شركة "لازارد" الفرنسية للاستشارات المالية تكلفة إنشاء المحطات النووية أكبر بكثير من تكلفة بناء محطات طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية.