ورقة وقلم

القوة الثقافية العظمى.. وصناعة الإبداع

ياسر رزق
ياسر رزق

لدينا تراث حضارى فريد ومخزون ثقافى هائل، ولدينا حاضر زاخر
بالمبدعين، لكنه كامن كخبيئة تحتاج لمن ينقب عنها ويعرض كنوزها

مجد تاريخ.. وعظمة حاضر.
تلك هى الصورة التى بات العالم شرقه وغربه يرانا عليها، بعد ليلة احتفال موكب انتقال مومياوات ملوك وملكات مصر القديمة من المتحف المصرى إلى متحف الحضارة.

عند حد الكمال لامس الاحتفال سماء الإبداع.

فقد تضافر موكب المومياوات بمهابته، ومشهد المسار بابهاره، وخلود الحضارة المصرية بغموضها، مع روعة الفن المصرى الحديث من إخراج وتصوير وفنون تعبيرية وموسيقى وغناء وأداء أوركسترالى، فى لوحة مدمجة تمتزج فيها العلوم بالفنون، لا تجدها إلا فى مصر.

أدهشت الاحتفالية المصريين من أنفسهم، وأطلقت فيهم مشاعر فخر وطنى ربما لم تتفجر على مدار عقود طويلة، بقدر ما أبهرت مئات الملايين من المشاهدين فى قارات العالم، الذين لم يروا لها مثيلاً، وحفلت وسائل التواصل الاجتماعى بتعليقات من شتى بقاع الأرض، تعبر عن نظرة جديدة لمصر، لا تختزل صورتها فى تاريخ عريق فحسب لهذه الأمة، وإنما تضبط بؤرتها على حاضر مقتدر يثير الإعجاب والاحترام.

< < <

أحيانا نزيد فى تقدير أنفسنا فى مجالات لسنا سادتها.

وأحيانا نجلد ذواتنا على أوضاع لم نصنعها أو أشياء لم نقترفها.

لكننا كثيراً ما نقلل من شأن قدراتنا، فيما لا يبرع فيه سوانا ولا يبدعون.

قد لا نكون قوة كبرى اقتصاديا، لكننا ننهض.

قد لا نكون قوة عظمى عسكريا، لكننا نتطور.

قد لا نكون قوة عالمية فى الصناعة أو الزراعة أو البحث العلمى، لكننا نعمل بجد ونسعى بدأب على الطريق الصحيح.

غير أننا قوة عظمى عالمية فى الثقافة من فنون وآداب، لكننا مع كل أسف لا ندرك..!

لدينا تراث حضارى فريد، ومخزون ثقافى هائل، ولدينا حاضر زاخر بالمبدعين فى الفنون والآداب، لكنه كامن كخبيئة تحتاج لمن ينقب عنها ويكتشفها، وينفض عنها غبار الإهمال والنسيان، ويعرض روائعها وكنوزها فى أبهى صورة تخاطب وجدان الإنسانية.

< < <

فى الإبداع، تطرد العملة الجيدة العملة الرديئة وتلقى بها فى سلال مهمل الذاكرة.

رأينا، كيف تداول المصريون أسماء مبدعين صاروا نجوماً فى سويعات معدودة، بعد احتفالية موكب المومياوات، من أمثال المايسترو نادر عباسى والملحن هشام نزيه والمخرج عمرو عزيز والسوبرانو أميرة سليم ومعها نسمة محجوب وريهام عبدالحكيم ومصممة الأزياء مى جلال وزميلها خالد عزام وعازفة التيمبانى رضوى البحيرى، وكذلك مهندس العرض المتكامل المنتج محمد السعدى.

حتى أنشودة إيزيس، التى غنتها السوبرانو أميرة سليم باللغة المصرية القديمة، مازالت موسيقاها تتردد فى مسامع المصريين والأجانب، وتهيمن عليها كأنها معزوفة نقلت بسحرها السرمدى من جدران المعابد إلى أنامل عازفى الأوركسترا.

< < <

فى المائة عام الأخيرة، عاشت مصر 4 ثورات كبرى، هى ثورة ١٩١٩، وثورة ١٩٥٢وثورة ٢٠١١، وثورة ٢٠١٣.

كل الثورات فى العالم تعبر عن نفسها بتغيير سياسى/ اجتماعى، لكنها تعيش فى الوجدان بتأثيرها على الفنون والآداب، وتحيا فى تاريخ الأمم بالإبداع الثقافى الذى يصوغ العقل الجمعى.
ثورة ١٩١٩..

كان نتاجها إشراقات طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم ود.محمد حسين هيكل ومحمد التابعى ونجيب محفوظ فى الفكر والثقافة، وإبداعات سيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومحمد القصبجى ورياض السنباطى وأحمد رامى ومحمود سعيد ومحمود مختار وأبوبكر خيرت فى شتى مجالات الفنون.

ثورة ١٩٥٢.. عبر عنها فى الوجدان المصرى مفكرون وأدباء أمثال محمد حسنين هيكل وإحسان عبدالقدوس وفتحى غانم وجمال الغيطانى وعبدالرحمن الأبنودى وفنانون كعبدالحليم حافظ وكمال الطويل ومحمد الموجى وبليغ حمدى وصلاح جاهين وجمال السجينى وأحمد نوار وغيرهم.

انطفأت ثورة ٢٥ يناير، بفعل رياح جهل الإسلام السياسى التى سادت الحياة المصرية.

ثم بزغ الأمل فى مطلع هذا العقد، بظهور بواكير نتاج ثورة ٣٠ يونيو فى جيل جديد من المبدعين، يحتاج إلى مناخ محفز، وتشجيع صادق، وايجاد مشروع ثقافى متكامل، يستثمر فى البشر، لإنماء براعم الأدب والفن، وتهيئة الأجواء اللازمة لحصاد ثمار إبداع قلما تتوافر للإنسانية إلا فى هذه التربة المصرية، ومن هذا الشعب المبدع بفطرته.

نحن شعب لا يخاصم تراثه الثقافى على امتداد حلقاته الحديثة. نشيدنا الوطنى نتاج ثورة ١٩١٩، أغانينا الحماسية التى تفخر بالنضال المصرى ونرددها فى كل حين عمرها من عمر ثورتى ١٩ و٥٢ وسنوات الستينيات، ومازلنا نستمع إليها ونسعد بها بأصوات هانى شاكر ومدحت صالح ومحمد منير.

نحن بلد هو مملكة التلاوة وموطن نشر الدعوة إلى الله بالحسنى والتسامح بين البشر.

نحن الذين نصون العروبة، بالأغنية والمقطوعة والرواية والقصة والقصيدة، ونجمع آذان العرب على اللهجة المصرية، ونصوغ الوجدان العربى بالفن والأدب.

الثقافة المصرية هى المعبر عن مكانة مصر الحقيقية على مر تاريخ البشرية، هى منبع الشعور بالعزة والكبرياء والشموخ، وهى فى تقديرى أهم عناصر القوة الشاملة للدولة المصرية، فوق أى قدرات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية.

نحن بدون مغالاة أو مبالغة، بل بكل تواضع، قوة عظمى ثقافية، تحتل مكانة سامية بين الأمم أصحاب الحضارات والإبداعات الثقافية.

وبمقدورنا أن نستغل قوة الدفع الوطنية المتمثلة فى الإنجازات الجارية على صعيد البنية الثقافية وأهمها مدينة الثقافة والفنون بالعاصمة الجديدة التى تعد الأكبر فى الشرق الأوسط، وأن نستثمر شرارة الحماس المتولدة من روعة احتفال موكب المومياوات، فى بناء مشروع ثقافى متكامل فى إطار إعلان تأسيس الجمهورية الثانية.

< < <

خلال ثلاثين شهراً مقبلة، أمامنا مناسبات آتية نستطيع أن نعزز فيها عالمياً وعربياً صورة مصر الجديدة التى صاغ ملامحها نظام ثورة ٣٠ يونيو، وعاين العالم جانبا منها فى احتفالية موكب المومياوات.

هناك الاحتفال بافتتاح المتحف المصرى الكبير. أعلم أن ثمة تجهيزات على أرفع مستوى تكفل لهذه المناسبة ألقاً لا يقل روعة عن احتفالية موكب المومياوات المبهرة، وسط حضور عالمى غير مسبوق من قادة العالم.

فى وقت لاحق سيتم افتتاح العاصمة الجديدة فى احتفال ضخم، يجرى الإعداد له على أعلى مستوى، وسيجرى أثناءه إعلان الجمهورية الثانية.

فى يوم 15 مارس من العام المقبل، نحتفل بمرور مائة عام على إعلان إنهاء الحماية البريطانية واستقلال مصر بموجب تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢.

 فى يوم ٢٣ يوليو من نفس العام، نحيى العيد السبعين لثورة يوليو المجيدة.

فى يوم ٣٠ يونيو من العام بعد القادم، نحتفل بالعيد العاشر لثورة يونيو الشعبية الكبرى.

فى يوم 6 أكتوبر من نفس العام ٢٠٢٣، يحل العيد الخمسون أو اليوبيل الذهبى، لواحد من أمجد أيام مصر وأكثرها خلوداً، وهو يوم النصر الذى أعاد الكرامة واسترجع الكبرياء واستعاد الأرض.

تلك مناسبات تجمع فى ثناياها مجد تاريخ هذه الأمة وعظمة حاضرها، على نحو قلما يجود به الزمان.

< < <

أتحدث عن مشروع ثقافى مصرى هو ركن أصيل فى المشروع الوطنى لبناء الدولة الثالثة الحديثة، وجزء أساسى من برنامج الرئيس السيسى فى فترته الرئاسية الحالية، وأحسبه عنصراً بارزاً من ركائز الجمهورية الثانية.

وأظن الثقافة المصرية هى الصناعة التى نحوز فيها الميزة النسبية الأعلى بين كل الصناعات، غير أنها ليست مستغلة كما يجب.

ولعل الاقتصاد الإبداعى، إذا أُحسن استثمار طاقاته، سيكون واحداً من أهم روافد الاقتصاد الوطني، ومجالاً من أوسع مجالات توليد فرص العمل للمصريين.

على سبيل المثال.. فان الصناعات الإبداعية الأمريكية من سينما وموسيقى وغناء ومسرح وأدب ومؤلفات وصحافة يبلغ اجمالى انتاجها نحو ٩٢٠ مليار دولار فى العام الواحد، أى ما يزيد على ١٤ تريليون جنيه مصرى، تمثل ٤٫٣٪ من حجم الناتج المحلى الأمريكى، بينما تحقق الصادرات الأمريكية من صناعات الفن والأدب ٧٨٫١ مليار دولار، بينما الصادرات المصرية فى كل المجالات تقل عن ثلث هذا الرقم.

فى بريطانيا تساهم الصناعات الإبداعية بمبلغ ١١٢ مليار جنيه استرلينى، وتبلغ قيمة صادراتها ٣٥٫٦ مليار جنيه استرلينى فى العام.

أما صادرات استراليا، التى يقل عدد سكانها عن ٢٥ مليون نسمة، من انتاجها من الفنون والآداب، فيبلغ ٢٥ مليار دولار سنوياً.

نحن فى مصر لدينا آفاق هائلة لمضاعفة انتاجنا من صناعة الثقافة بمعدلات عالية، ولدينا المقدرة على زيادة صادراتنا من الإنتاج الأدبى والفكرى والفنى بمتواليات هندسية فى أعوام قليلة، فمدخلات هذه الصناعة متوافرة فى منجم الإبداع المصرى الذى لا ينضب، والأسواق على المستوى العربى -على الأقل- مفتوحة ومرحبة، ولا يوجد منافس لهذه الصادرات المصرية من أى قطر عربى، سواء لمذاقها الذى يلائم الهوى العربى، أو لجودتها التى لا يضاهيها أى منتج ثقافى باللغة العربية.

< < <

لست أدعى أننى سوف أطرح حالاً برنامجاً متكاملاً للثقافة المصرية، أو حتى ملامح مشروع ثقافى مصرى، وإنما أعرض مجرد أفكار وتصورات، من واقع اهتمامى الشخصى كمتذوق للفنون والآداب، وإدراكى بأن الثقافة هى رأس حربة القوة الشاملة المصرية، وأغلى كنوز هذا البلد.

وأختصر تلك الأفكار فى النقاط التالية:

أولا: عودة تدريس الموسيقى والرسم فى جميع المدارس واعتبار حصصها حضوراً وغياباً للتلاميذ والطلاب مع الوضع فى الاعتبار إقامة قاعات للموسيقى وغرف للرسم عند إنشاء المدارس الجديدة، وتخصيص ساعات للاطلاع فى المكتبات المدرسية وتزويدها بأهم المؤلفات.

ثانياً: رسم خطة للتكامل بين أدوار مراكز الشباب المنتشرة بالقرى وقصور الثقافة الموجودة بعواصم المحافظات، ضمن برنامج لبناء الإنسان المصرى فكرياً وثقافياً ورياضياً.

ثالثاً: إنشاء بيت للثقافة بكل قرية، ضمن مشروع الريف المصرى، يتضمن مكتبة ومسرحاً متعدد الأغراض وغرفة لتعليم الموسيقى وأخرى للرسم، وأحسب هذه الإضافة لن تتكلف نسبة تزيد على 2٪ من المخصص لهذا المشروع العملاق المنتظر الانتهاء منه خلال 3 أعوام بتكلفة قد تصل إلى 600 مليار جنيه.

رابعاً: إنشاء فروع لأكاديمية الفنون ربما يبلغ عددها 4 أفرع فى الدلتا والصعيد والقناة والإسكندرية، مع تحديث الأكاديمية والتوسع فى أقسامها.

خامساً: إقامة أوبرا مجهزة فى كل إقليم جغرافى، بجانب أوبرا القاهرة وأوبرا العاصمة الجديدة وأوبرا دمنهور وأوبرا الإسكندرية، ولقد لمسنا عدم صحة الزعم القائل بأن الذوق الشعبى المصرى لا يلائمه فن الأوبرا.

سادساً: إنشاء مؤسسة عامة للدراما والسينما، تختص بانتاج المسلسلات والأفلام الكبرى التاريخية التى تخلد بطولات الشعب المصرى فى كل مراحل نضاله وتبرز عطاء وإبداع رموزه فى شتى المجالات.

سابعاً: إعطاء الإشراف على القنوات الثقافية لوزارة الثقافة، بما يمكنها من عرض إنتاجها المسرحى والغنائى وعروضها فى مجال الفنون الشعبية والأوبرا، بدلاً من أن تظل حبيسة الأدراج المغلقة ويحرم من مشاهدتها الملايين عبر الفضائيات.

ثامناً: إنشاء مدينة كبرى للسينما على غرار ستديوهات يونيفرسال فى كاليفورنيا، تسمى «إيچيوود» مثلاً، يتكامل دورها فى الانتاج السينمائى مع دور مدينة الإنتاج الإعلامى فى مجال التصوير والبث والإنتاج التليفزيونى والدرامى، ومع دور مدينة الثقافة والفنون بالعاصمة الإدارية التى تضم أوبرا ومتاحف ومراسم ومكتبة مركزية ضخمة وغير ذلك وربما أقترح دراسة موقع ما فى نطاق محافظة الفيوم القريبة من القاهرة، لإقامة مدينة السينما التى سوف يحقق وجودها نهضة هائلة لهذه المحافظة الفقيرة.

تاسعاً: تقديم قروض ميسرة للإنتاج الخاص الغنائى والدرامى والسينمائى والمسرحى وغير ذلك من أشكال الفنون على غرار قروض الإسكان التى وجه الرئيس بأن تكون فائدتها فى حدود 3٪ سنوياً.

عاشراً: إنشاء متاحف صغرى للفن الحديث أو قاعات لعرض نتائج الفن التشكيلى للفنانين وطلبة كليات الفنون الجميلة والتربية الفنية، فى المحافظات وتخصيص جزء يسير من موازنات الجهات الحكومية لاقتناء هذه الأعمال من لوحات وتماثيل لعرضها فى الميادين وداخل دواوين المحافظات، ولقد عاينت فى مهرجان إبداع الذى نظمته وزارة الشباب أعمالاً غاية فى الجمال والروعة لشباب صغار يحملون جينات أجدادهم القدماء من الرسامين والنحاتين العظام.

حادى عشر: عودة مكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع، مع التوسع فيهما.

ثانى عشر: تنظيم مهرجان سنوى كبير للأدب والفكر العربى، ربما يكون موقعه الملائم فى تقديرى هو جزيرة الفرسان بالإسماعيلية، حيث توجد القناتان، والذى يطل على ما كان يعرف بخط بارليف، ويذكر العرب بانتصار أكتوبر المجيد.

< < <

.... ولعلى أجد من المناسب، عند إجراء تعديل وزارى، تشكيل لجنة وزارية للتنمية البشرية، يكون فى مقدمة أولوياتها وضع خطة للتكامل بين أدوار الوزارات وجهات الدولة وهيئاتها المعنية فى تخطيط وتنفيذ المشروع الثقافى المصرى.

وقد أدعو إلى إنشاء مجلس أعلى لبناء الإنسان المصرى يترأسه رئيس الجمهورية شخصياً، إذا أردنا إنجازاً حقيقياً، لما هو معروف عنه من رؤية شاملة لبناء دولة حديثة عمادها البشر، ومن دقة وحسم ومتابعة وقدرة فائقة على استنهاض الهمم.

الثقافة ليست ترفاً وليست مجالاً يتذيل الاهتمامات والأولويات، وأدعى أنى أعرف جيداً قدر إيمان القائد بأهمية الآداب والفنون وتقديره العميق للمبدعين المصريين.

حينما تمتد الثقافة، يستنير العقل ويصفو الوجدان ويرتقى الذوق العام، فينحسر التطرف، ويتوارى التعصب، ويتلاشى الجهل والجهالة، وتسود القيم المصرية الأصيلة.