إنها مصر

الوعى المنتظر

كرم جبر
كرم جبر

مصر فى أمس الحاجة لأن تنفض التراب عن الذهب، وأن تستعيد ثقافتها وحضارتها وفنونها وآدابها، وأن تحمى شعبها بسياج آمن من الوعى واليقظة، الوعى الذى فقدنا بعضه فى سنوات تجريف القوة الناعمة، واستبدالها بثقافة الكهوف التى لا تنبت من الأرض المصرية، ثقافة الكهوف أهانت المثقفين لصالح المتطرفين، ففسدت بوادر الإبداع، ففضل المثقفون الاغتراب والعزلة، ولا تستغربوا إذا حاولنا تذكر أسماء لامعة أو نصف لامعة.
صيحة إفاقة «قوم يا مصرى، مصر بتنادى»، لتستعيد ذاتها وروحها وحضارتها، وبداية الطريق هى تهيئة الأجواء للتنقيب عن براعم الإبداع فى القرى والأرياف والمدن، نحتاج نموذج أم كلثوم، البنت الفلاحة التى جاءت من أرياف الشرقية، فسطع نورها فى سماء الدنيا.
لا أنسى أبدا واقعة حدثت عام 2013، عندما وضع المتطرفون عباية على تمثال أم كلثوم فى مدينة المنصورة بحجة سترها، وألبسوا رأسها نقابا، وفهم المصريون الرسالة «سنقضى على بقايا قوتكم الناعمة»، ولم تكن أم كلثوم سوى رمز لمصر الإبداع التى ملأت سماء العرب بنجومها الساطعة، فى الغناء والسينما والمسرح والآداب والفنون والثقافة.
أم كلثوم نموذجا، لأنها كانت شعلة متقدة، تغذى الضمير الوطنى بالدفء والحماس، ومازالت أصداء صوتها تستصرخ فينا حلم العودة إلى الأمجاد، فهى التى غنت «مصر التى فى خاطرى وفى فمى، أحبها من كل روحى ودمى» بعد قيام ثورة يوليو، وحين تعرض عبد الناصر لمحاولة اغتياله من قبل جماعة الإخوان فى ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، سارعت بتسجيل أغنية «أجمل أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية»، وغنت للسد العالى «كان حلما فخاطرا فاحتمالا، ثم أضحى حقيقة لا خيالا»..
وغنت لوحدة مصر وسوريا 1958، ثم غنت للاتحاد الثلاثى الذى ضم مصر وسوريا واليمن، ومنحها جمال عبد الناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، ومن قبله منحها الملك فاروق «قلادة النيل العظمى» الذى يجعل لقبها «صاحبة العصمة»، وهو لقب تحصل عليه الأميرات.
استهان الإخوان بتلك القوى الناعمة فى ضمير الوعى المصرى أو لم يفهموها، وظنوا أن مظاهر «الإسلام الشكلى» التى جاءوا بها ونصبوا شباكها حول البسطاء والطيبين، مشفوعة بأكياس الأرز والسكر وزجاجات الزيت، يمكن أن تكون قوتهم الناعمة وتجذب الناس لهم، ففوجئوا بـ«إسلام حقيقى» يتسلح به المصريون، ويتوافق مع تسامحهم وحضارتهم وثقافتهم، ولا يمكن أن يزايدوا عليه أو يلعبوا به، ولم تنطل عليهم كنموذج تخاريف قدوم جبريل لصلاة الفجر فى رابعة، أو أن نبينا الكريم طلب من الدكتور مرسى أن يؤمه فى الصلاة، ولم يبتلع الطعم سوى مخدوعيهم الذين يعرفون أنها أكاذيب ويصدقونها، بينما وظف المصريون قوتهم الناعمة لتعضيد أمجاد بلادهم.