يوميات الأخبار

نوال وشاكر

يوسف القعيد
يوسف القعيد

لقد انتصرتُ على كل من الحياة والموت. لأننى لم أعد أرغب فى العيش. ولم أعد أخشى الموت

أعرف وأدرك أننى أشارك فى ممارسة وضع خاطئ لست أدرى هل يوجد عندنا وحدنا؟ أى هل هو يخص بلدنا ومحيطها؟ أم أنه موجود فى كل أنحاء العالم؟

فأنا لم أعرف بعد الحياة إلا هنا فى مصر.

هذا الوضع هو الانتظار لحين رحيل الإنسان عن دنيانا.

ثم تنهال الكتابات عنه ممن عرفه واقترب منه. أو حتى ممن لم يعرفه.

الكل يكتب عن الراحل أو الراحلة.

وهكذا يختلط الكذب بالصدق، الصدق الذى ما أندره فى أيامنا الراهنة، وربما زماننا السابق.

تنهال الكتابات عن الراحل أو الراحلة.

أسأل نفسى فى كل مرة: هل غزارة الكتابات سببها أن كل واحد منا يحلم أن يبرئ ذمته - وأنا واحد من هؤلاء -؟

أم ما هو السبب فى ذلك؟ وهل هذه ظاهرة مصرية أو عربية؟

أم أنها موجودة فى العالم المحيط بنا؟.

عموماً دعونا من محاولات التفلسف والتنظير. فليس هذا وقتهما ولا أوانهما. لأننا إزاء الموت نهاية كل منا مهما طال عمره أو قصر. وفعل الموت نهاية النهايات ولا يوجد بعده - إن وجد - سوى رماد الذكريات. والذكرى بالنسبة للإنسان عمرٌ ثان أو ربما أول.

نـــــوال

عرفت المرحومة الدكتورة نوال السعداوى فى مرحلة مبكرة من عمرها قبل سنوات كثيرة. عندما كانت تتولى رئاسة تحرير مجلة تصدرها وزارة الصحة المصرية.

وقد ظلت تقوم بهذا العمل باعتباره رسالة من رسائل عمرها التى تنوعت واتسعت لاحقاً.

وأصبحت تشمل النوع الذى تنتمى إليه ألا وهو المرأة التى نتعامل معها نحن الرجال إن تعاملنا باعتبارها كائن تابع أو من الدرجة الثانية.

مع أن نوال كانت من المستحيل أن تكون تابعة لأحد. أو لأى جهة كانت. استقلالها التام كان قضية عمرها الأساسية والجوهرية.

وبعد أن دخلت إلى عمر النضج أصبح التمرد منهجها للتعامل مع عالم الرجال الذى خرجت إلى الدنيا لتجد نفسها جزءاً منه.

رحلت المرحومة نوال السعداوى عن دنيانا فى التسعين من العمر. ومثلها ومن كانت لها الأدوار التى قامت بها من أجل أهلها وناسها وجنسها.

كنت أتصور أنها من الممكن أن تكمل المائة الأولى من عمرها.

جاء رحيلها فى الحادى والعشرين من مارس، عيد الأم. وهو عيد لكل من جئن بعدها إلى هذا العالم. الأم بمعنى القدوة والمربية والمثال الذى من المفترض أن تحتذيه كل إنسانة جاءت للدنيا بعدها. وليست الدكتورة منى حلمى ابنتها فقط. كل من عاصرنها يعتبرن أبناء وبنات لها.

من المؤكد بالنسبة لها أن من جئن بعدها يعتبرن من تلاميذها. إنهن تعلمن سواء من كتبها أو مواقفها أو سلوكها اليومى سواء فى القضايا العامة أو حتى فى الخاصة.

تركت نوال السعداوى حوالى 80 كتاباً تُشكِل تراثاً من الممكن أن يتركه جيل كامل من النساء. أنها لم تكن تعرف سوى عملها ودورها وكتاباتها التى تركتها. سواء من القصص والروايات. أو الدراسات الجادة والعميقة لحال المرأة المصرية والعربية وربما العالمية.

لدرجة أننى أتصور أحياناً وأنا مسئول عن هذا التصور وحدى أن نوال السعداوى أكملت ما قام به قاسم أمين لتحرير المرأة المصرية والعربية. وإن كان قاسم أمين «1 ديسمبر 1863 - 23 أبريل 1908» رجل قام بتحرير المرأة. فإن نوال السعداوى خرجت من بين صفوف النساء لتكن لسان حالهن.

ولدت نوال فى 27/10/1931 ورحلت عن دنيانا فى 21/3/2021. كان ميلادها فى قرية مصرية وليست مدينة. قرية كفر طلحة بمركز بنها عاصمة محافظة القليوبية. التى رغم قربها الشديد من القاهرة. إلا أنها تعد من محافظات دلتا مصر.

عندما تخرجت من كلية الطب بجامعة القاهرة كانت متخصصة فى الأمراض الصدرية.

وهى أمراض رجالية أكثر من كونها أمراض نسائية. وهذا المعنى المبكر يقول لنا إنها لم تكن تشعر بعقدة ضعف المرأة. ولا تبعيتها للرجل. وأنها كانت كياناً قائماً بذاته لها عالمها فى مواجهة عالم الرجال.

كانت مهمومة بالعمل العام. وما زلت أذكر عندما فكرت فى الترشح لانتخابات الرئاسة المصرية عام 2004، رغم إدراكها ويقينها استحالة حدوث ذلك فى ظل المجتمع الراهن. الحمد لله أن الفكرة لم تخرج للتنفيذ وقتها. ولم تُقْدم عليها حتى فى سنوات عمرها التالية. لم يكن دورها محلياً فقط. مجلة تايم الأمريكية اختارتها سنة 2020 فى مثل هذا الشهر من العام الماضى ضمن قائمة الـ 100 امرأة الأكثر تأثيراً فى العالم.

وكانت نفس المجلة قد أفرزت غلافها لصورتها قبل ذلك بأربعين عاماً. أى سنة 1981، عندما سُجِنت فى عهد الرئيس أنور السادات. وذلك بسبب آرائها ومواقفها التى أثارت جدلاً واسعاً فى المجتمع المصرى والعربى. وإعلانها رفض اتفاقات كامب ديفيد التى كانت فى مقدمة المحاولات المبكرة جداً لتصفية القضية الفلسطينية. ولم تخرج من السجن إلا بعد اغتياله بشهرين سنة 1981.

وكانت المرأة شبه الوحيدة بين عدد كبير من رموز مصر الرجالية فى سجون السادات.

ظل التكريم العالمى يلاحقها على مدار عمرها. صحيفة الجارديان البريطانية اختارتها كواحدة من أهم الكاتبات الأفريقيات فى المجال الاجتماعى والسياسى. ومن أفضل خمس أديبات وروائيات من القارة السمراء، وكان ذلك عام 2018.

قالت:

إن المعرفة هى إثارة عدم الرضا فى نفس الإنسان من أجل أن يعمل على تغيير حياته إلى الأفضل. ولولا عدم الرضا لما تقدم الإنسان. ولا كانت حياته كحياة الحيوانات. إن الحيوانات لا تشعر بعدم الرضا. ولا تشعر بالقلق. ولذلك فهى لا تغير حياتها إلى الأفضل. ليس هناك أجرأ منها فى تطبيق مبادئها والثبات عليها حتى النهاية.

ثم تتكلم عن الجرأة ومناطحة المستحيل والرغبة فى تغيير العالم إلى الأفضل. وكانت آخر كلماتها:
لقد انتصرتُ على كل من الحياة والموت. لأننى لم أعد أرغب فى العيش. ولم أعد أخشى الموت.

>>>
شاكـــــر

هو الدكتور شاكر عبد الحميد سليمان «20/6/1952 - 18/3/2021» وزير ثقافة مصر الأسبق. تولى الوزارة فى فترة دقيقة ومهمة من عمر مصر. كان ذلك فى حكومة الدكتور كمال الجنزورى سنة 2011، وما أدراك ما سنة 2011، إنها سنة الأحداث الكبرى. ولد شاكر عبد الحميد فى أسيوط بصعيد مصر.

وكان أستاذا جامعياً فى أكاديمية الفنون. أستاذ علم نفس الإبداع. أدى اليمين الدستورية كوزير للثقافة المصرية.

ذات يوم تواصل معى ودعانى لحضور مناقشة رسالته العلمية: الأسس النفسية للإبداع الأدبى فى القصة القصيرة خاصة. وهى التى صدرت فى كتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1993، تحت إشراف الدكتور مصطفى سويف، وله الأدب والجنون، وأيضاً علم نفس الإبداع، والمفردات التشكيلية، والإكتشاف وتنمية المواهب، ثم دراسة فى سيكولوجية التذوق الفنى.

ما زلت أذكر يوم أن اتصل بى من أجل الحصول على إذن وتصريح من المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية لإقامة معرض القاهرة الدولى للكتاب رغم الظروف العصيبة التى كانت تمر بها مصر وقتها. كان القرار فى يد المشير محمد حسين طنطاوى، رئيس المجلس. ولم تكن لى صلات معه. ولكنى كنت أعرف اللواء حسن الروينى، قائد المنطقة العسكرية المركزية وقتها. فضلاً عن أننى تعرفت عليه وآخرين معه فى الصالون الثقافى الذى كان يقيمه الدكتور أحمد العزبى، الصيدلى المعروف يوم الإثنين من كل أسبوع.

ذهب معى شاكر إلى المنطقة العسكرية المركزية بالقرب من ميدان العباسية بقلب القاهرة. حتى مكتب اللواء حسن الروينى. الذى كان علاوة على كونه قائدة للمنطقة العسكرية المركزية، أى القاهرة عاصمة البلاد وما حولها. كان أيضاً عضواً مهماً وفاعلاً فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. الذى كان يقود البلاد فى ذلك الوقت.

إستأذن منا اللواء حسن الروينى، يتواصل من مكتب آخر مع المشير محمد حسين طنطاوى. وعاد إلينا بعد المكالمة. ليقول لنا إن الموضوع قيد الدراسة وخلال يوم أو يومين سيكون هناك قرار.

ثم عاودنا المشى مرة أخرى إلى المكان الذى ترك شاكر سيارة الوزارة فيه. وكان حماسه منقطع النظير من أجل إقامة هذا المعرض. وكان يرى أن إقامته ربما كانت أكثر أهمية من الظروف العادية.

لعب شاكر عبد الحميد دوراً فى إطلاعنا على ما يُكتب عن الإبداع فى اللغات الأخرى. ومن أهم كتاباته: الأسطورة والمعنى، تأليف: كلود ليفى شتراوس. وكتاب: العبقرية والإبداع والقيادة. الذى نُشر فى سلسلة عالم المعرفة بالكويت. وكانت كتبه تنشر سواء داخل مصر أو فى الوطن العربى فى نفس الوقت. وقد أخذ دوره ومهامه بأكبر قدر من الجدية. وتلك سمة أساسية فى أبناء الريف. فما بالك بالصعايدة؟ وهو الذى ولد ونشأ وترعرع فى الصعيد الجوانى قبل أن يصل إلى القاهرة.

كان شغِّيلاً من الطراز الأول. ولم يشغله الدور العام عن كتاباته ورسالته. كان يدرك أنه جاء إلى العالم ليتم هذه الرسالة. وفى تصورى أنه قد أتمها. رغم أننا جميعاً نشعر أننا طالما كنا على قيد الحياة بأن رسائلنا ناقصة وجهدنا يحتاج إلى كلمة الختام.

التى لا يدونها أحد بسبب النصيب أنه لا يوجد من يعرف وقت رحيله عن الدنيا. قبل أن يُلوِّح تلويحة الوداع لمن أحبوه وأحبهم. وسهر الليالى من أجلهم.

بعد رحيله أعاد الدكتور محمد الباز رئيس تحرير جريدة الدستور اليومية الحوار الأخير الذى كان قد أجراه كمال عاشور للجريدة. قال شاكر فى كلمات الوداع الأخيرة:

نحتاج إلى مشروع قومى فى الإبداع وعدم اعتبار الفن والثقافة «ترفيها» أو من «الكماليات».

وزير الثقافة ينبغى أن يكون أكثر المثقفين هماً وليس أهمية. وأكثر انشغالاً بأمور الثقافة والمثقفين. وبرموز وطنه الذى ينتمى إليه.

علينا إنشاء مركز لدراسات الشخصية المصرية وضخ رأس المال الخاص فى الصناعات الثقافية.

المنتجات الثقافية المصرية ينبغى أن تكون ماركات مميزة للهوية المصرية فى أسواق العالم.