لماذا تقل الرواية العربية عن الحضارة القديمة في مصر والعراق؟.. عالم آثار يجيب

صورة توضيحية
صورة توضيحية

تعتبر مصر القديمة بحضارتها العظيمة كنزًا ليس له مثيل من القصص والحكايات المثيرة للدهشة، وهناك ميراث من الأعمال الأدبية الجميلة في مصر القديمة، وإعادة إحياء مصر القديمة هو ضرورة مهمة من أجل التمتع بجمال وعظمة هذه الحضارة الفريدة في تاريخ الإنسانية كله، كما أشار إليها عالم الآثار المصري د. حسين عبد البصير.

اقرأ أيضا: «تي».. قصة الملكة الفرعونية الخائنة

يقول د. «عبد البصير»: لا أعرف سببًا واضحًا لعدم استخدام الروائيين العرب لتراث الحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية القديمة أو الحضارة العراقية القديمة في أعمالهم الأدبية!

وأضاف: ربما يرجع السبب في ذلك لعدم الإلمام بمفردات الحضارات القديمة في المنطقة العربية، أو بسبب الخوف من الإقدام على خوض مثل هذا النوع من الكتابة الصعبة؛ وذلك لأن بعض القراء يفضلون الكتابة عن الحياة المعاصرة، وعدم الحديث عن الحياة في العصور القديمة، على العكس من الغرب الذي يرحب بالكتابة عن العصور القديمة في منطقتنا العربية، خصوصًا عن مصر القديمة بحضارتها المذهلة التي أدهشت العالم منذ أقدم العصور وإلى وقتنا الحالي وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

وأوضح «عبد البصير»، أنه يفضل بعض الروائيين الكتابة في أعمالهم الروائية عن حقب التاريخ الإسلامي وتاريخ فترات الاستعمار الحديث؛ لأنها في رأيهم هي الأقرب من الناحية الزمنية والروحية للقراء الذين يجيدون اللغة العربية ويدينون في أغلبهم بالدين الإسلامي على عكس الحضارة المصرية القديمة التي تعد صعبة على الفهم عند البحث؛ نظرًا لعدم إلمامهم باللغة المصرية القديمة والديانة المصرية، واللتين تعدان غامضتين وغير مفهومتين لدى الكثيرين؛ غير أن هذا الغموض هو ما يجلب السحر للحضارة المصرية القديمة ويجعلها متفردة في العالم أجمع.

وأكد أنه يعتبر التاريخ مصدرًا مهمًا للغاية عند استخدامه في موضوعات جديدة في السرد العربي؛ لأنه حافل بالكثير من التجارب والعوالم المدهشة، والتي لا يعرف القراء عنها الشيء الكثير.

ويضيف: أرى أن اختيار الموضوع التاريخي والفترة الزمنية لهما الأهمية الكبرى في نجاح أية تجربة إبداعية تتخذ من التاريخ مسرحًا لأحداثها أو لا.

وأشار عالم الآثار المصري، إلى أنه قد يميل الروائي للخيال أو يعتمد على الوقائع التاريخية عند تصديه للكتابة عن فترة تاريخية ما، والفهم والإلمام بمفردات الفترة هما اللذان يساعدان في نجاح عمل ما أو لا، وفي أعمالي، أميل إلى التخييل وإعادة خلق الفترة، غير أنني لا أعتمد على حادثة تاريخية حدثت بالفعل، أو أكتب عن ملك ما كان موجودًا بالفعل في مصر القديمة؛ لكنني أعيد خلق مصر القديمة وأخلق الفترة ككل، غير أنها لم تحدث بالفعل في مصر القديمة، وفي الحقيقة فهي لا تتعارض في أي من مفرداتها مع مصر القديمة؛ وذلك لأن البعض يقرأ الروايات التاريخية على أنها تاريخ حدث بالفعل، غير أن هناك فرقًا كبيرًا بين الأدب والتاريخ؛ لذا يجب أن يكون الروائي مسلحًا بالإلمام بالعصر الذي يكتب عنه، وأن يكون أمينًا في نقل وقائعه إلينا.

وذكر: دون شك، أفدت من دراستي وعشق لمصر القديمة وعملي في الآثار كثيرًا في أعمالي الروائية، والتي يرى القراء والنقاد أنها من الأعمال المختلفة على مستوى التناول والسرد والحكي واللغة، وأنها تحاكي النصوص المصرية القديمة من ناحية الشكل واللغة والمضمون دون أن تفقد صلاتها بالواقع؛ فعلى الرغم من أنها أعمال تتحدث عن التاريخ، فإنها تلقي الضوء على الحاضر والواقع ومشكلاته التي استمرت من مصر القديمة إلى الآن، ولدى بالفعل أعمال أخرى وجديدة عن مصر القديمة ضمن مشروعي الإبداعي للكتابة عن مصر القديمة وإعادة إحياء مصر القديمة وتراثها العظيم بين قراء اللغة العربية والعالم كله.

ولفت  عالم الآثار المصري، إلى أنه يعتقد أن هناك ثيمات عديدة تظهر في مشروع الروائي وأهمها قيم عديدة أزلية مثل مشكلة العدالة والحرية والسلطة والعلم، وكلها قيم متداخلة تؤرخ للماضي وتلقي الضوء على الحاضر وتنير الطريق نحو المستقبل.

 

وأشار إلى تفاعل الجمهور مع الروايات ذات الخلفيات التاريخية بشكل كبير للغاية، وحاول بعض القراء الربط بين الماضي والحاضر من خلال قراءة تلك الأعمال وتأويلها والقيام بالعديد من الإسقاطات والتفسيرات التي تسلط الضوء على الحاضر ومشكلاته، وقد يكونون صائبين في ذلك الربط، وقد لا يكون ذلك الربط صحيحًا؛ لأن العمل الأدبي المنسوجة خيوطه في ظلال التاريخ هو في حد ذاته عمل قائم بمفرده، وقد يكون مبنيًا على الواقع المعيش ومتسربلاً في زي التاريخ وغموضه وروعته، وهناك تجارب روائية عديدة ناجحة، وما نزال نقرأ هذه الأعمال بمتعة كبيرة.

وقال: لقد توقف عمنا وكاتبنا الأكبر الأستاذ نجيب محفوظ عن كتابة الأعمال الفرعونية بعد تجاربه الرائدة في بداياته الأدبية؛ لأنه أراد التعبير عن مصر المعاصرة له آنذاك والبعد عن التعبير عنها بشكل رمزي تاريخي، فاتجه للكتابة المباشرة عن مصر في روايته "القاهرة الجديدة"، ودخل مرحلة الواقعية بعد رواياته الفرعونية الثلاث بعد أن كان قد خطط أن يكتب أربعين رواية عن مصر القديمة يؤرخ من خلالها لمصر، مثلما فعل السير والتر سكوت، عندما أرخ لتاريخ بريطانيا بشكل روائي. وأعلن الأستاذ نجيب محفوظ أن رواياته الـ37 ماتت بالسكتة على حد قوله، غير أن الأستاذ نجيب محفوظ لم ينس مصر القديمة تمامًا وكتب رواية "العائش في الحقيقة" عن فرعون التوحيد الملك أخناتون العام 1985، ثم حاكم حكام مصر منذ الملك مينا إلى الرئيس الراحل أنور السادات في عمله المهم "أمام العرش"، وكذلك وجدت شذرات عن مصر القديمة في أعمال الأستاذ نجيب محفوظ المختلفة.

 

وأوضح «عبد البصير»، أنه تحمل الروايات التاريخية الكثير من القيم الجميلة التي يمكن بعثها من خلال تقديم روايات تستلهم العديد من قيم الماضي البعيد مثل الحرية والعدالة والجمال والحق والعلم وعشق العمل وتقديسه والتكافل والتراحم وغيرها من القيم والأسئلة الوجودية المثيرة، على سبيل المثال لا الحصر. كل هذه القيم وغيرها يمكن أن يجدها القاريء في أعمالي عن مصر القديمة.

وأكد: دون شك هناك مصادر عديدة للبحث عن أصول أي عمل يمكن أن يتناول مصر القديمة بشكل روائي، غير أن الأمر قد يكون صعب بعض الشيء للكاتب غير المتخصص في تاريخ وحضارة وآثار مصر القديمة؛ لأن الكتابة عن مصر القديمة صارت علمًا له أصوله، على الرغم من أنه يتحدث عن عالم أدبي جمالي وليس أكاديمي علمي. وقد حدث ذلك بالفعل في أعمال العديد من الكتاب من غير المختصين في مصر القديمة، سواء الذين تصدوا للكتابة عن مصر القديمة قديمًا أو حديثًا، فيجد القاريء أن بعض أعمالهم قد تتسم بالبعد عن الحقيقة التاريخية أو الدليل الأثري الحقيقي، أو أن بعض الأعمال تتسم بالسهولة أو السذاجة، غير أن أغلب القراء نظرًا لعدم معرفتهم الكبيرة بمصر القديمة يصدقون هذه الأعمال، وربما يعتبرونها من الروائع، غير أنها في الحقيقة ليست كذلك.

وأضاف: رواية "إيبو العظيم" مشروع عاش معي لمدة كبيرة تبلغ 15 عامًا، إلى جانب عملي على مشروعات أخرى كثيرة، غير أنني كنت أكتب فيه، وأتركه، ثم أعود للتفكير فيه والعمل عليه، إلى أن جاء ساعة الانتهاء منه وإخراجه للجمهور.

وذكر: قرأت كل النصوص المصرية القديمة التي تم ذكرها في العمل، وكتبت على منوالها، ولم أكتب هي بالفعل، وقمت بمحاكاة اللغة المصرية القديمة، وكذلك صنعت عالمًا متخيلاً لم يحدث في مصر القديمة، لكنه من الممكن أن يحدث في مصر القديمة، من خلال شخصية الحكيم "إيبوور"، الذي جاء في عمل أدبي معروف في مصر القديمة، لكنه عمل غير مكتمل، ومختلف تمام عما جاء في روايتي "إيبو العظيم" التي صنعت فيها خيوطًا درامية عديدة متقاطع ومنفصلة؛ لأن ذلك هو طبيعة الفنان وضرورات العمل الفني من أجل تحقيق المتعة وإثراء العمل الإبداعي وإمتاع القاريء.

ولفت «عبد البصير»، إلى أن للرواية التاريخية مذاقها الخاص الذي يصنع أجواء جميلة ويدخل القراء إلى عوالم مثيرة لا توفرها الرواية العادية التي تتناول الواقع المعيش، فضلاً عن المعلومات التاريخية التي توفرها الرواية التاريخية من الناحية المعرفية والجمالية.

وأضاف: كذلك لا يمكن أن ننسى قدرة الرواية التاريخية على إثارة الدهشة باستمرار داخلنا، وفي الفترة الحالية هناك شغف حقيقي بالفعل نحو الماضي وتطلع إلى اكتشاف المجهول ورغبة عارمة في استكشاف المستقبل والبعد عن الحاضر من أجل تأويل اللحظة الآنية، وكتب التاريخ الحالية ذات الرؤية التقليدية والنظرة الأكاديمية لا توفر للقاريء المحب للتاريخ المتعة التي توفرها الرواية التاريخية ذات العوالم السردية المدهشة والجمل الحوارية المثيرة للكثيرة من الأسئلة والمفتوحة على بئر الخلود ونشيد الفنان نحو البحث عن المجهول وسبر أغوار المستحيل، وأعنى الروايات التاريخية التي لا تفضل الارتكان إلى سهولة الممكن وحلاوة الميسور ومتعة السهل.

وأوضح أنه في كثير من الأحيان يمكن القول أن التاريخ يعيد نفسه، لكن ليس بنفس الصورة التي حدث بها من قبل، والتاريخ في حد ذاته هو حدث تم في الماضي وانتهى، وأجمل ما في التاريخ أنه قصة كاملة مكتملة تشكلت بالفعل، ويمكن للروائي مراجعتها واختيار الزواية التي يريد أن ينظر منها للحدث التاريخي، وكذلك فإن للروائي مطلق الحرية في تأويل الحدث التاريخي وفقًا لرؤيته الفكرية ومدرسته الفنية، خصوصًا عندما تصمت الوثائق أو تنتفي المصادر من أمامه. فهنا يكون هو سيد المشهد، ونسير جميعنا وراء رؤية وإبداعية الروائي المدهشة.

 

وقال: منذ بداياتي نشر أعمالي الأدبية وأنا أهتم بمصر القديمة. وقد صدرت لي رواية "البحث عن خنوم" ورواية "الأحمر العجوز" ومجموعة "الحب في طوكيو"، ورواية "إيبو العظيم"، فضلاً عن كتب عديدة باللغة العربية واللغة الإنجليزية مثل "ملكات الفراعنة: دراما الحب والسلطة"، و"الفراعنة المحاربون: دبلوماسيون وعسكريون"، و"أسرار الآثار: توت عنخ آمون والأهرامات والمومياوات"، و"الصورة والصوت: تمثيل الذات في مصر الصاوية"، و"العيش إلى الأبد: تمثيل الذات في مصر القديمة".

وأوضح: كان استقبال أعمالي طيبًا من النقاد والجمهور على حد سواء. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ نجيب محفوظ قد أشاد بروايتي الأولى "البحث عن خنوم"، عندما قرأ هذه الرواية أصدقاؤه عليه وقال: "رواية "البحث عن خنوم" للروائي حسين عبد البصير هي رواية جميلة وتذكرني برواياتي عن مصر الفرعونية.

ونوه: كذلك رحب بها الروائي الكبير الأستاذ جمال الغيطاني قائلاً: "رواية "البحث عن خنوم" هي روح البحث عن مصر القديمة واستعادة روح مصر الفرعونية في الأدب المصري المعاصر" وأيضًا أعجب بها الكاتب الكبير الأستاذ سعيد الكفراوي قائلاً: "البحث عن خنوم هي رواية البحث عن الزمن والأسئلة الوجودية كنشيد الفنان للبحث عن الخلود وتقديس الآتي الأبدي دومًا"، وهناك اتجاه لترجمة بعض أعمالي إلى اللغات الأجنبية، خصوصًا الأعمال الروائية عن مصر القديمة، ولدى رواية جديدة أسمها "بلتيمور" تدور في أمريكا حيث كنت أدرس لدرجة الدكتوراه في الآثار المصرية القديمة في جامعة جونز هوبكنز بمدينة بلتيمور بولاية ميرلاند في الولايات المتحدة الأمريكية، ومستمر في استكمال أعمالي عن مصر القديمة سواء الروائية أو الأدبية المبسطة للجمهور أو العلمية للمتخصصين وغيرها.