زيارة أخيرة لأم كلثوم.. الحلم طريق استجلاء الذاكرة

زيارة أخيرة لأم كلثوم
زيارة أخيرة لأم كلثوم

بقلم/ نشوة أحمد

امتدادا‭ ‬لنصه‭ ‬الروائي‭ ‬الأول‭ ‬احافة‭ ‬الكوثرب‭ ‬انطلق‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬عطا‭ ‬مصطحبًا‭ ‬شخوصه‭ ‬المحورية‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬بطله‭ ‬المأزوم‭ ‬حسين‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬فى‭ ‬رحلة‭ ‬سردية‭ ‬جديدة‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه‭ ‬بمدينة‭ ‬المنصورة‭ ‬فى‭ ‬ازيارة‭ ‬أخيرة‭ ‬لأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬روايته‭ ‬الصادرة‭ ‬مؤخرًا‭ ‬عن‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬ليستمر‭ ‬البطل‭ ‬النازح‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬المصح‭ ‬النفسى‭ ‬االكوثرب‭ ‬فى‭ ‬البوح‭ ‬واستجلاء‭ ‬الذاكرة‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬المخبوء‭ ‬عبر‭ ‬منهج‭ ‬سردى‭ ‬مغاير‭ ‬لا‭ ‬تتواتر‭ ‬فيه‭ ‬الأحداث‭ ‬وإنما‭ ‬يقفز‭ ‬الراوى‭ ‬بانسيابية‭ ‬لافتة‭ ‬بين‭ ‬أزمنة ‭‬وأمكنة‭ ‬متباينة‭ ‬تتصل‭ - ‬رغم‭ ‬انفصالها‭ - ‬فى‭ ‬بناء‭ ‬محكم‭ ‬وفي‭ ‬وحدة‭ ‬واحدة‭.‬

استخدم‭ ‬الكاتب‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى‭ ‬حيلة‭ ‬سردية‭ ‬مراوغة‭ ‬ومحفزة‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬النص،‭ ‬والدخول‭ ‬إلي‭ ‬عوالمه‭ ‬عبر‭ ‬عنوان‭ ‬يحفز‭ ‬التساؤلات‭ ‬ازيارة‭ ‬أخيرة‭ ‬لأم‭ ‬كلثومب‭ ‬فمن‭ ‬تكون‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬وهل‭ ‬المقصودة‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬كوكب‭ ‬الشرق؟

ثم‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬صاحبة‭ ‬الاسم‭ ‬وهى‭ ‬الخالة‭ ‬شقيقة‭ ‬الأم‭ ‬التى‭ ‬أسهمت‭ ‬فى‭ ‬اكتشاف‭ ‬وتشكيل‭ ‬وجدان‭ ‬الراوى‭ ‬وشاركته‭ ‬لحظاته‭ ‬المفصلية‭ ‬التى‭ ‬ظلت‭ - ‬دون‭ ‬غيرها‭- ‬تتصدر‭ ‬الذاكرة‭ ‬فلم‭ ‬تتوارى‭ ‬ولم‭ ‬تخفت‭ ‬بل‭ ‬ألحت‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬إلحاحًا‭ ‬كان‭ ‬طريقًا‭ ‬لتحولها‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬روائي‭ ‬يوثقها‭ ‬ويبقيها‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬سطوة‭ ‬النسيان‭. ‬

هكذا‭ ‬قرر‭ ‬الراوى‭ ‬عبر‭ ‬أسلوب‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬الذاتي؛‭ ‬أن‭ ‬يفضى‭ ‬بما‭ ‬عثر‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬ذاكراته‭ ‬مخاطبًا‭ ‬القارئ‭ ‬أحيانًا،‭ ‬نفسه‭ ‬أحيانًا،‭ ‬بعض‭ ‬شخوصه‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى،‭ ‬وصديقه‭ ‬الطاهر‭ ‬يعقوب‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان،‭ ‬يحمل‭ ‬بوحه‭ ‬صبغة‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬الماضى‭ ‬رغم‭ ‬قسوته،‭ ‬وإن‭ ‬تعمد‭ ‬أبراز‭ ‬ما‭ ‬نضح‭ ‬به‭ ‬ذاك‭ ‬الماضى‭ ‬من‭ ‬عطب‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يقاوم‭ ‬أثرالحنين‭ ‬وما‭ ‬يفعله‭ ‬حين‭ ‬يُجمل‭ ‬قديمًا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬وجه‭ ‬عابث‭ ‬وإن‭ ‬تفلتت‭ ‬منه‭ ‬ابتسامات‭ ‬خاطفة‭.‬

ورغم‭ ‬اتساع‭ ‬الفضاء‭ ‬الزمنى‭ ‬الذى‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬الحاضر‭ ‬والماضى‭ ‬فإن‭ ‬كلًا‭ ‬من‭ ‬عامى‭ ‬1981،‭ ‬2018‭ ‬كان‭ ‬لهما‭ ‬النصيب‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬رسخت‭ ‬فى‭ ‬ذاكرة‭ ‬الراوى‭ ‬والتى‭ ‬توزع‭ ‬بعضها‭ ‬بين‭ ‬التماثل‭ ‬والتقابل‭ ‬فهو‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1981‭ ‬يحتفل‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬بعيد‭ ‬ميلاده‭ ‬الـ‭ ‬18على‭ ‬أنغام‭ ‬جيتار‭ ‬عمر‭ ‬خورشيد،‭ ‬يغادر‭ ‬الطفولة‭ ‬ويضع‭ ‬قدمه‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬الطريق‭ ‬آملا‭ ‬فى‭ ‬الحرية‭ ‬والحياة‭ ‬بينما‭ ‬فى‭ ‬العام‭ ‬2018‭ ‬يحتفل‭ ‬ابنه‭ ‬بعيد‭ ‬ميلاده‭ ‬الـ‭ ‬18‭ ‬أيضًا‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬أغانى‭ ‬المهرجانات‭ ‬مع‭ ‬رفاقه‭ ‬الشباب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسمح‭ ‬لأختيه‭ ‬بالمشاركة‭ ‬كنتيجة‭ ‬تتسق‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يعترى‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬نزعات‭ ‬ذكورية‭ ‬وتدين‭ ‬شكلى‭.‬

فى‭ ‬العام‭ ‬1981‭ ‬يرحل‭ ‬يحى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبد‭ ‬الله،‭ ‬المبدع‭ ‬الذى‭ ‬أحيا‭ ‬الدهشة‭ ‬لدى‭ ‬الراوى‭ ‬وكان‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاقه،‭ ‬تشارك‭ ‬إسرائيل‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬فى‭ ‬معرض‭ ‬القاهرة‭ ‬الدولى‭ ‬للكتاب‭ ‬فى‭ ‬دورته‭ ‬الثالثة‭ ‬عشر،‭ ‬تبرز‭ ‬الجماعات‭ ‬السلفية‭ ‬والأصولية‭ ‬وجماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسى‭ ‬التى‭ ‬قامت‭ ‬باغتيال‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬محاولة‭ ‬اغتياله‭ ‬أثناء‭ ‬زيارته‭ ‬للمنصورة‭ ‬فى‭ ‬العام‭ ‬نفسه،‭ ‬وأحداث‭ ‬أخرى‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭ ‬المصرية‭ ‬شهدها‭ ‬نفس‭ ‬العام،‭ ‬وفى‭ ‬العام‭ ‬2018‭ ‬يصدر‭ ‬بيان‭ ‬مراسلون‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭ ‬الذى‭ ‬رصد‭ ‬ما‭ ‬تعانيه‭ ‬صاحبة‭ ‬الجلالة‭ ‬من‭ ‬تضييق‭ ‬على‭ ‬الصحفيين‭ ‬وفات‭ ‬التقرير‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬دخولهم‭ ‬الزهيدة‭ ‬ومعاناتهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬عيش‭ ‬كريم‭ ‬بينما‭ ‬يُدعى‭ ‬الراوى‭ ‬للتوجه‭ ‬لإدارة‭ ‬الكسب‭ ‬غير‭ ‬المشروع‭ ‬لتقديم‭ ‬إقرار‭ ‬ذمة‭ ‬مالية‭! ‬وفى‭ ‬ورشة‭ ‬تصليح‭ ‬السيارات‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬إبراهيم‭ ‬السمكرى‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬له‭ ‬اواسطةب‭ ‬تساعده‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬كارنيه‭ ‬نقابة‭ ‬الصحفيين‭!‬

ورغم‭ ‬استحواذ‭ ‬هذين‭ ‬العامين‭ ‬على‭ ‬النصيب‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬تناولها‭ ‬السرد؛‭ ‬اتسع‭ ‬الفضاء‭ ‬الزمنى‭ ‬ليشتمل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬بينهما‭ ‬وما‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬1981‭ ‬فاستعاد‭ ‬الكاتب‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬الأولى‭ ‬فى‭ ‬عزبة‭ ‬عقل‭ ‬بالمنصـــورة؛‭ ‬جســـد‭ ‬عبرها‭ - ‬بحرفية‭ ‬بالغة‭- ‬نضال‭ ‬طبقة‭ ‬عريضة‭ ‬يمثلها؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العيش،‭ ‬فالراوى‭ ‬يعمل‭ ‬منذ‭ ‬نعومة‭ ‬أظافره‭ ‬فى‭ ‬مهنة‭ ‬التحبيش‭ ‬اربط‭ ‬أقفاص‭ ‬الخضر‭ ‬والفاكهةب،‭ ‬وفى‭ ‬حمل‭ ‬الحقائب‭ ‬بمحطة‭ ‬أتوبيس‭ ‬شرق‭ ‬الدلتا‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬أبوه‭ ‬بائعا‭ ‬متجولًا‭ ‬وواحدًا‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يجتازون‭ ‬معارك‭ ‬يومية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬لقمة‭ ‬العيش،‭ ‬ولم‭ ‬يستحوذ‭ ‬الهم‭ ‬الشخصى‭ ‬كليةً‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬بل‭ ‬تجاوزه‭ ‬إلى‭ ‬الهم‭ ‬العام،‭ ‬فتناول‭ ‬اشكاليات‭ ‬وقضايا‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬خطيرة‭ ‬أرقت‭ ‬الواقع‭ ‬المصرى‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود‭ ‬عديدة‭ ‬كان‭ ‬أهمها‭ ‬تغلغل‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسى‭ ‬فكرًا‭ ‬وتطبيقًا،‭ ‬واعتماده‭ ‬رسميًا‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬مستوى‭ ‬وعبر‭ ‬السلطات‭ ‬الثلاث‭ ‬التنفيذية‭ ‬والتشريعية‭ ‬والقضائية،‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬آثار،‭ ‬وتطرق‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬أخرى‭ ‬كالتفاوت‭ ‬الطبقى،‭ ‬التضخم‭ ‬وتدهور‭ ‬قيمة‭ ‬العملة‭ ‬والأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الطاحنة‭ ‬التى‭ ‬تضرر‭ ‬منها‭ ‬قطاع‭ ‬كبير‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والصحفيين،‭ ‬تراجع‭ ‬التعليم،‭ ‬العنف،‭ ‬الشذوذ‭ ‬والتنمر‭ ‬الذى‭ ‬لطالما‭ ‬أنّت‭ ‬منه‭ ‬طبقات‭ ‬وفئات‭ ‬عمرية‭ ‬مختلفة‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬طفل‭ ‬قصير‭ ‬النظر‭ ‬للتخلى‭ ‬عن‭ ‬نظارته‭ ‬الطبية‭ ‬تجنبًا‭ ‬لتسميته‭ ‬اأبو‭ ‬أربع‭ ‬عيونب‭ ‬ودفع‭ ‬ببالغ‭ ‬ذى‭ ‬حيثية‭ ‬اجتماعية‭ ‬لمعايرة‭ ‬مريض‭ ‬بمرضه‭ ‬النفسى‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يجده‭ ‬الراوى‭ ‬مدعاة‭ ‬للخجل‭ ‬بل‭ ‬قدم‭ ‬ضمنًا‭ ‬ما‭ ‬يدحض‭ ‬مفاهيم‭ ‬مغلوطة‭ ‬شائعة‭ ‬تخلط‭ ‬بين‭ ‬صحة‭ ‬النفس‭ ‬وصحة‭ ‬العقل‭ ‬فمازال‭ ‬حسين‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬يفكر،‭ ‬يحلل،‭ ‬يستنتج‭ ‬ويضع‭ ‬الاحتمالات‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬ذروة‭ ‬انهياره‭ ‬النفسى‭.‬

لم‭ ‬يتوقف‭ ‬الكاتب‭ ‬عند‭ ‬همه‭ ‬الخاص‭ ‬أو‭ ‬العام‭ ‬وحسب‭ ‬وإنما‭ ‬تخطى‭ ‬حدود‭ ‬المحلية‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬إقليمية‭ ‬وعالمية‭ ‬شائكة‭ ‬فتطرق‭ ‬إلى‭ ‬العبث‭ ‬الأمريكى‭ ‬والتدخل‭ ‬فى‭ ‬شئون‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬وقيام‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بنقل‭ ‬سفارتها‭ ‬إلى‭ ‬القدس‭ ‬باعتبارها‭ ‬عاصمة‭ ‬أبدية‭ ‬لإسرائيل‭ ‬وتناول‭ ‬ذمشككًا‭- ‬ما‭ ‬تداوله‭ ‬البعض‭ ‬بشأن‭ ‬سيطرة‭ ‬أسرتين‭ ‬أمريكيتين‭ ‬روتشيلد‭ ‬وروكفلر‭ ‬على‭ ‬مقدرات‭ ‬العالم‭.‬

خصوصية‭ ‬الشخوص

لم‭ ‬تكن‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية‭ ‬شخوصًا‭ ‬مألوفة‭ ‬وحسب‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬شخوصًا‭ ‬حقيقية،‭ ‬بدا‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬التشابه‭ ‬الكبير‭ ‬بين‭ ‬حسين‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬والكاتب‭ ‬وبدا‭ ‬أيضًا‭ ‬عبر‭ ‬استدعاء‭ ‬أسماء‭ ‬حقيقية‭ ‬من‭ ‬الوسط‭ ‬الصحفى‭ ‬وكذلك‭ ‬عبر‭ ‬استدعاء‭ ‬أحداث‭ ‬حقيقية‭ ‬وأسماء‭ ‬أعلام‭ ‬من‭ ‬الوسط‭ ‬السياسى‭ ‬والثقافى‭ ‬المصرى‭ ‬والعالمى،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬يحرم‭ ‬الكاتب‭ ‬شخوصه‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬باعتباره‭ ‬بصدد‭ ‬عمل‭ ‬روائى‭ ‬وليس‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬أو‭ ‬مذكرات‭ ‬لذا‭ ‬استخدم‭ ‬الرمز‭ ‬فى‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الشخوص‭ ‬مثل‭ ‬شخصية‭ ‬فخرى‭ ‬ماتوسيان،‭ ‬وجاءت‭ ‬شخوص‭ ‬أخرى‭ ‬نتاج‭ ‬خيال‭ ‬محض؛‭ ‬منها‭ ‬شخصية‭ ‬عقل‭ ‬التى‭ - ‬رغم‭ ‬صبغتها‭ ‬الغرائبية‭- ‬تزامن‭ ‬حضورها‭ ‬مع‭ ‬بروز‭ ‬خلل‭ ‬ما،‭ ‬فى‭ ‬إشارة‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسفر‭ ‬عنه‭ ‬الشطط‭ ‬وغياب‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬تمزق‭ ‬المجتمع‭ ‬وتجلى‭ ‬العطب‭ ‬والعكس‭ ‬بالعكس‭ ‬أيضًا‭.‬

أفرد‭ ‬الكاتب‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬لشخوصه‭ ‬النسائية‭ ‬فهن‭ ‬كن‭ ‬بعض‭ ‬أسباب‭ ‬انهياره‭ ‬النفسى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لاكتئابه‭ ‬جذور‭ ‬عميقة‭ ‬قابعة‭ ‬فى‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬يسبق‭ ‬دخولهن‭ ‬إلى‭ ‬عالمه،‭ ‬فسهام‭ ‬احبه‭ ‬الأولب‭ ‬تنحت‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬الطريق،‭ ‬ودعاء‭ ‬الزوجة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬عبء‭ ‬على‭ ‬كاهلة‭ ‬وماكينة‭ ‬لتوليد‭ ‬االنكدب‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬سلمى‭ ‬سببًا‭ ‬فى‭ ‬انهياره‭ ‬الأخير‭ ‬ودخوله‭ ‬الكوثر،‭ ‬ورغم‭ ‬إيمان‭ ‬الراوى‭ ‬أو‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬حسين‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬بأن‭ ‬المرأة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منقذًا‭ ‬ودواءً‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬ميلندا‭ ‬التى‭ ‬ساعدت‭ ‬براين‭ ‬ويلسون‭ ‬المريض‭ ‬النفسى‭ ‬ونجم‭ ‬فرقة‭ ‬ابيتش‭ ‬بويزب‭ ‬على‭ ‬النجاة،‭ ‬فلا‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬نسائه‭ ‬الثلاث‭ ‬فعلت‭!‬

إسقاطات‭ ‬ورؤى

عمد‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الرمز‭ ‬لتمرير‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬الرؤى‭ ‬والإسقاطات‭ ‬السياسية‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬النسيج‭ ‬فالتقطت‭ ‬عدسته‭ ‬لافتة‭ ‬يذيلها‭ ‬توقيع‭ ‬مصطفى‭ ‬السمين،‭ ‬بينما‭ ‬تتسول‭ ‬عجوز‭ ‬بائسة‭ ‬بقايا‭ ‬الطعام‭ ‬فى‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬المؤيدين‭ ‬لأى‭ ‬شىء‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬مادامت‭ ‬بطونهم‭ ‬ممتلئة‭ ‬ولا‭ ‬يعنيهم‭ ‬أمر‭ ‬أصحاب‭ ‬البطون‭ ‬الفارغة،‭ ‬كذلك‭ ‬جاء‭ ‬استدعاؤه‭ ‬لقصة‭ ‬عاشور‭ ‬المرأة‭ ‬التى‭ ‬انتهكها‭ ‬أبوها،‭ ‬وربطه‭ ‬ذيوع‭ ‬حكايتها‭ ‬بمقولة‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬ااعلموا‭ ‬أن‭ ‬للديمقراطية‭ ‬أنيابًاب‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬استنكار‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬تفترس‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أبناء‭ ‬الوطن،‭ ‬بدا‭ ‬الرمز‭ ‬أيضًا‭ ‬فى‭ ‬حديث‭ ‬الراوى‭ ‬عن‭ ‬محمد‭ ‬ابن‭ ‬خالته‭ ‬الذى‭ ‬حمل‭ ‬اسم‭ ‬خاله‭ ‬الشهيد‭ ‬فى‭ ‬حرب‭ ‬1973‭ ‬والتى‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬السادات‭ ‬أننا‭ ‬سنخرج‭ ‬بعدها‭ ‬من‭ ‬عنق‭ ‬الزجاجة،‭ ‬لكن‭ ‬محمد‭ ‬مات‭ ‬رضيعًا‭ ‬ما‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬يأس‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬تحسن‭ ‬الأوضاع‭! ‬

الحلم‭ ‬والمونولوج

اتسق‭ ‬استخدام‭ ‬الكاتب‭ ‬لتقنيات‭ ‬السرد‭ ‬الذاتى،‭ ‬المونولوج‭ ‬الداخلى‭ ‬والحلم‭ ‬بكثافة‭ ‬داخل‭ ‬النسيج؛‭ ‬مع‭ ‬غايته‭ ‬فى‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬النفس‭ ‬واستجلاء‭ ‬الذاكرة‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬المخبوء‭ ‬والمجهول‭ ‬والكامن‭ ‬فى‭ ‬عوالم‭ ‬اللاوعى،‭ ‬تلك‭ ‬العوالم‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تجافى‭ ‬وعى‭ ‬الراوى‭ ‬تارة‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬تتسق‭ ‬معه‭ ‬وفى‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬يبقى‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭ ‬واللاوعى‭ - ‬الذى‭ ‬يجد‭ ‬متنفسًا‭ ‬فى‭ ‬الحلم‭- ‬الأصدق‭ ‬والأقدر‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬حقيقة‭ ‬النفس‭ ‬ففى‭ ‬حلم‭ ‬الراوى‭ ‬بزوجته‭ ‬وقد‭ ‬أخفاها‭ ‬عنه‭ ‬أحدهم‭ ‬وبكاءه‭ ‬لغيابها‭ ‬إشارة‭ ‬لصمودها‭ ‬فى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬رغم‭ ‬تمنيه‭ ‬مرارًا‭ ‬ألا‭ ‬يجدها‭ ‬فى‭ ‬منزلهما‭ ‬حين‭ ‬عودته،‭ ‬بينما‭ ‬فى‭ ‬حلمه‭ ‬بنساء‭ ‬أنيقات‭ ‬يحطن‭ ‬به‭ ‬ويطلب‭ ‬منهن‭ ‬ما‭ ‬يثبت‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬الثانوية‭ ‬العامة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلبين‭ ‬طلبه‭ ‬وهدوئهن‭ ‬رغم‭ ‬صراخه،‭ ‬إشارة‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬وعيه‭ ‬بعجزه‭ ‬ربما‭- ‬عن‭ ‬إيجاد‭ ‬منقذته‭ ‬التي‭ ‬بمقدورها‭ ‬مداواة‭ ‬جراح‭ ‬خلفتها‭ ‬الذاكرة‭ ‬حين‭ ‬استدعت‭ ‬وحين‭ ‬أسقطت‭.‬