كيف توغل هيمنجواى فى الحياة الثقافية الكوبية

فى ذكرى وفاته الـ 60

 توغل هيمنجواى
توغل هيمنجواى

هايدى عبد اللطيف

بالرغم من صدور عشرات الكتب التى تناولت سيرة حياة الروائى الأمريكى الشهير إرنست هيمنجواى، الذى تمر ذكرى ‏وفاته ‏الـ 60 هذا العام،  ‏فمن اللافت  أن أغلب هذه السير لم يتطرق باستفاضة إلى ‏سنوات عمره الطويلة التى قضاها فى كوبا، حيث ظلت تفاصيل حياته هناك حتى وقت قريب يكتنفها الغموض، خصوصًا علاقاته بالحياة الثقافية ونخبتها فى العاصمة هافانا، على العكس مثلا من التناول الدقيق لسيرته فى مدن أخرى عاش بها لفترات أقصر  من الجزيرة الكاريبية التى قضى فيها ما يقارب الثلاثين عامًا، ما بين زيارات طويلة متكررة خلال عقد ‏الثلاثينيات ثم استقراره فيها واعتبارها وطنه الثانى  عقب شرائه ‏لمنزل كبير تحيطه حديقة من 13 فدانا فى إحدى ‏ضواحى العاصمة فى عام 1939. وقد غادر هيمنجواى الجزيرة ‏الكاريبية مضطرًا فى 25 يوليو 1960، بعد تدهور العلاقات ‏بين حكومة ‏كينيدى وحكومة الثورة بقيادة زعيمها فيديل كاسترو، ‏لتسوء حالته النفسية كثيرًا خلال العام الأخير من حياته التى أنهاها بإطلاقه ‏الرصاص ‏على نفسه من ماسورة بندقيته المزودجة ‏بعد أقل من عام واحد من رحيله عن بيته فى كوبا. ‏

     الملاحظ أن أكثر ما تضمنته معظم الكتب التى حللت وبحثت فى سيرته، كانت تروى حكايات بسيطة عن حياته وعلاقاته فى هافانا، حتى مذكرات المقربين منه، خصوصًا زوجته ‏الرابعة مارى ويلش ‏وكتابها (How It was) الصادر فى منتصف السبعينيات، أو تلك التى رواها مدير منزله رينيه فياريال فى كتابه الصادر فى عام 2009 تحت عنوان (Hemingways Cuban Son)،  لم تزد عن كونها بعض المشاهدات والحكايات ‏وذكر ‏بعض أسماء لا توضح حقيقة هل كان هيمنجواى كعادته، متصلًا بالحياة الثقافية كما فعل فى باريس حينما اختلط بنخبتها وعلى ‏رأسهم ‏الكاتبة والناقدة جرترود شتاين، التى أطلقت عليه وعلى الكتاب الأمريكيين المغتربين الذين فروا وعاشوا فى باريس فى ‏بداية القرن العشرين «‏الجيل الضائع». خلال تلك السنوات صادق هيمنجواى الفنانين والكًتًّاب الذين كانوا يعيشون فى عاصمة ‏النور الفرنسية كما ذكر فى روايته « وليمة ‏متنقلة». ‏أما فيما يتعلق بسنواته فى كوبا وعلاقاته بمثقفيها، فما ذكر عن الأمر ظل شحيحا، ولا يعرف منه الكثير حتى مطلع الألفية الجديدة.
نظرية ماركيز
كانت أولى الأعمال التى تطرقت إلى حياة الأديب الشهير فى الجزيرة الكاريبية هو ما ذكره الكاتب الكوبى نوربيرتو فوينتس فى كتابه « هيمنجواى فى كوبا» الذى صدر عام 1984 بمقدمة كتبها الروائى الكولومبى جابرييل جارثيا ماركيز شهور قليلة قبل إعلان فوزه بجائزة نوبل. ورغم أن ماركيز لم يلتق هيمنجواى سوى مرة وحيدة بالمصادفة فى أحد شوارع باريس، كتب عنها فى إحدى مقالاته، إلا أن صداقته الوطيدة بالزعيم الكوبى فيديل كاسترو، وعلاقته الوثيقة بالنظام فى الجزيرة التى كتب عنها كتابه المعروف « كوبا فى زمن الحصار»، هى ما جعلته يكتب مقدمة كتاب فوينتس.
وفى تلك المقدمة يرى الروائى الكولومبى جابرييل جارثيا ماركيز أنه لم يترك كاتب أثرًا فى كوبا كما فعل هيمنجواى، ومع ذلك فهو يقول فى الوقت ذاته : « ليس هناك ما يشير إلى أنه حاول الاتصال بالبيئة الفكرية والفنية فى هافانا».
وبالنظر إلى أن هذا الكتاب نشر فى مطلع الثمانينيات، وتحديدًا فى العام 1984، ربما لم تكن هناك مصادر أو أدلة تشير إلى ذلك التواصل بشكل كافٍ. لكن من الواضح أن نظرية ماركيز قد لفتت انتباه كثير من الباحثين الكوبيين أو الأمريكيين وحفزتهم على التنقيب والبحث فى أوراق هيمنجواى لتأكيد ما ذكره ماركيز أو نفيه، وهو ما أدى لاحقًا وخصوصًا فى العشرين عامًا الأخيرة، إلى ظهور عدد من الدراسات البحثية والكتب، جاء فى بعضها تفنيد لمزاعم عدم تأثير هيمنجواى أو اختلاطه فى الأوساط الثقافية فى كوبا، ولو بشكل غير مباشر.
علاقته بالصحافة
فى السطور التالية، سأتطرق لبعض تلك الدراسات التى تناولت علاقة هيمنجواى الوطيدة بعدد من أبرز الأسماء فى الأوساط الثقافية والفنية، منذ زياراته الأولى لهافانا فى الثلاثينيات. والحقيقة أن تلك الفترة شهدت صداقة الأديب الأمريكى بعدد من الشخصيات المرموقة والمعروفة فى الوسط الصحفى مثل المحامية والناقدة لولو دى لا تورينت، والصحافى فرناندو كامبوامور الذى ظل صديقه المقرب طوال سنوات إقامته فى كوبا، والكاتب الصحفى خوسيه أنطونيو فيرنانديث دى كاسترو؛ والأخير كان يتولى رئاسة تحرير مجلة «أوربي» التى تصدر عن أهم صحف العاصمة الكوبية « دياريو دى لا مانيانا».
وقد كان خوسيه دى كاسترو، إضافة إلى عمله الصحفى ناشطًا سياسيًا أيضا، وحين علم بوجود الكاتب الأمريكى فى هافانا سعى للتعرف إليه وأجرى معه حوارًا صحفيًا لمجلته، وكان ذلك فى العام 1933. ‏فى ذلك الوقت، كان هيمنجواى قد صار اسمًا معروفًا فى الأوساط الأدبية الأمريكية بعد نشر مجموعات قصصية وعدد من الروايات منها « الشمس تشرق أيضًا  و»الموت فى الظهيرة» و» وداعًا للسلاح»، وقد تحولت الأخيرة إلى فيلم أنتج فى العام 1932 محققًا نجاحًا كبيرًا ‏ومانحًا هيمنجواى شهرة عالمية.
‏صداقة مثيرة
وكان دى كاسترو أيضًا سببا فى تعريف هيمنجواى ببعض الأسماء السابق ذكرها؛ وعلى وجه الخصوص المحامية والكاتبة والناشطة لولو دى لا تورينت، وهى من عرفته بكاتب شاب، كان واعدا آنذاك يدعى إنريكِه سيربا الذى ستجمعه وهيمنجواى علاقة صداقة ممتدة ومثيرة. وقد أشارت مصادر متعددة إلى أن روايتى هيمنجواى: «أن تملك وألا تملك» و«العجوز والبحر» تبرزان التأثير الكبير لسيربا على أسلوب هيمنجواى، منها التفاصيل التى تناولها الباحث والكاتب الأمريكى أندرو فيلدمان، فى مقال نشره فى دورية هيمنجواى ريفيو نصف السنوية التى تصدرها مؤسسة وجمعية هيمنجواى منذ العام 2000. ويتناول المقال المعنون» إرنست هيمنجواى وإنريكِه سيربا: صداقة مفيدة»، والمنشور فى عدد ربيع 2013، كيف تعارف الروائيان، حيث يذكر فيلدمان، أن لولا دى لا تورينت طلبت من الكاتب الأمريكى المرموق قراءة مخطوطة رواية لسيربا بعنوان «تهريب»، وبعد ذلك سألها هيمنجواى أن تعرفه بصاحب المخطوطة، وأن تدعوه إلى مقابلته فى حانة «فلوريديتا». وخلال ذلك اللقاء الذى تم فى 1934، قال هيمنجواى لسيربا: « لماذا تضيع وقتك فى العمل كمراسل صحفي؟» ليرد عليه الأخير: « لأنهم هنا فى كوبا لا يدفعون لى عشرين ألف دولاراً أمريكياً للقصة القصيرة لتحويلها إلى فيلم. كما يجب على أنا وعائلتى أن نعيش». فأجابه هيمنجواى: يا رجل، أنت أفضل روائى فى أمريكا اللاتينية، ويجب أن «تنسى كل شىء آخر وأن تكتب الروايات فقط».
أعمال متشابهة
ويشرح فيلدمان  فى مقاله أن هيمنجواى، كان قد نشر فى ذلك العام، قصة بعنوان «رحلة إلى الجانب الآخر» فى مجلة كوزموبوليتان، وتبعها بقصة «عودة التاجر» فى مجلة «إسكواير» فى العام 1936، وهما قصتان حولهما فيما بعد إلى رواية «أن تملك وألا تملك» الصادرة فى العام 1937. ويشير فيلدمان إلى أن الحبكة فى رواية « تهريب» تتشابه مع رواية «أن تملك وألا تملك» تمامًا، حيث تدور كلتاهما حول مجموعة من الصيادين، فشلوا فى كسب عيشهم بطريقة قانونية، فيلجأون إلى المخاطرة بقواربهم وحرياتهم وحياتهم  والعمل فى تهريب الرُّم والبضائع بين كوبا وفلوريدا، ما يعنى أنه فى الروايتين، تدفع الظروف القاسية الرجال الشرفاء إلى التصرف خارج القانون.
ويكمل فيلدمان مبينًا أن هيمنجواى أشار فى مقال نشره بمجلة إسكواير عام 1936، تحت عنوان «فى المياه الزرقاء» إلى صياد قام باصطياد سمكة مارلين بعد عناء كبير، لكن سمكة قرش ضخمة حالت بينه وبين الفرح بصيده الثمين. وهى القصة التى ستشكل فكرة  روايته « العجوز والبحر» التى صدرت بعد ذلك بعشرين عامًا، لكن فى وقت المقال كان إنريكِه سيربا أيضًا قد أصدر عدد من القصص عن الصياديين الكوبيين أهمها  «سمكة المارلين» («La Aguja») و«زعانف القرش» («Aletas de Tiburon») حيث تتشابه أيضًا حبكة الأولى مع الفكرة الرئيسية فى الرواية الشهيرة.
بحث وتنقيب
ويكشف فيلدمان، الذى أتيح له الاطلاع على أوراق هيمنجواى فى كوبا، عن رسالة غير منشورة  لزوجة هيمنجواى الثالثة مارثا جيلهورن  كتبتها إلى محرر دار سكريبنر، ماكس بيركنز، تتحدث فيها عن سيربا، وتطلب مساعدته، تقول فيها : « عزيزى ماكس، هل يمكنك تقديم اقتراحات لأديب كوبى اسمه إنريكِه سيربا، يعتقد إرنست أنه أعجوبة. فقد ألف رواية اسمها «تهريب» عن تجارة التهريب فى البحر من خلال قوارب الصيد.»  
ويرى فيلدمان فى نهاية مقارنته أن تلك الصداقة والتوازى فى مسار المؤلفات بين الاثنين فى تلك الفترة، كانت سببًا فى توجيه إصبع الاتهام للروائى الأميركى بالاقتباس أو تقليد سيربا، لكنه يبرر أيضًا بأن كلا الكاتبين عايشا صعود ديكتاتورية الرئيس فوله نسيو باتيستا فى كوبا وشعرا بآثارها مباشرة، كما وفرت صداقتهما المطولة تعاونا مفيدًا بينهما، حيث عمل كل واحد من جهته على تصوير كفاح الكوبيين والعمال الفقراء فى كِى ويست. وكتبا معًا عن مواضيع مماثلة، كصيد الأسماك، والتهريب، والتمرد، واللامساواة، والتضامن، ومضايقات البوليس بأسلوب مماثل. غير أن ما لم يهتم باكتشافه كل المتخصصين فى كتابات وحياة الروائى الأمريكى، كما يعتقد فيلدمان، هو مدى تأثير سيربا على حياة هيمنجواى وأعماله. ويطرح تساؤلاً بشأن هذا التقاطع الكبير بين أسلوبه وأسلوب سيربا فى الكتابة عن البحر، وقوارب الصيد، والتهريب مؤكدًا فى الأخير على أن صداقتهما تستحق المزيد من البحث والتَّحقيق. ويدعو الباحثين للتنقيب عن  أدلة إضافية بشأن صداقة هيمنجواى وسيربا على رفوف مكتبة بيت الكاتب الأمريكى فى كوبا، حيث يمكن أن تعثر  على كل كتاب صدر لإنريكِه سيربا بين عامى 1938- 1956.  
هيمنجواى المعلم
لم يكن فيلدمان الوحيد الذى نقب فى مكتبة هيمنجواى وبيته، بل سبقه بسنوات الباحث الكوبى أرماندو كريستوبال، وقد عرض ما توصل إليه فى ندوة إرنست هيمنجواى الدولية الثانية عشرة، التى عقدت فى مدينة هافانا تحت رعاية متحف أرنست هيمنجواى فى فينكا بيهيا، بالتنسيق مع رئيس قسم هيمنجواى التابع لمعهد خوسيه مارتى الدولى للصحافة، فى الفترة من 18 إلى 21 يونيو 2009.  ويتناول كريستوبال، فى ورقته البحثية، علاقة هيمنجواى بالأدب الكوبى، اعتمادًا على تنقيبه فى بيت هيمنجواى ، بعدما أتاحت له مديرة المتحف آدا - روسا ألفونسّو الاطلاع على أوراق الأديب الراحل وعلى الكتب المنتشرة فى جميع الغرف وخصوصًا فى غرفة المكتبة التى عثر فيها على مجموعة من المؤلفات لكتاب كوبيين من بينهم سيربا.
وتحوى بعض النسخ من تلك الكتب إهداءات شخصية من مؤلفيها خصوصًا صديقه إنريكِه سيربا. ومن بينها رواية «تهريب» كتب على غلافها إهداء بخط اليد نصه: «إلى إ.هـ، بإعجاب وصداقة، إنريكِه سيربا.» وأيضًا إهداء آخر فى كتاب «أيام ترينيداد-يوميات 1938-1939»، يخاطب فيه سيربا صديقه الروائى الأمريكى بالمعلم: «إلى المُعلّم إرنست هيمنجواى، مع تقديري»، الكلمة التى كررها فى كتاب ثالث صدر فى العام 1947 بعنوان « الوجود الإسباني»، حيث خط  العبارة التالية: «إلى المعلم إرنست همنجواى مع إعجابى ومودتي». وفى نسخة من روايته « الفخ» المنشورة فى العام 1956، تتضمن إهداءً جديد بخط الروائى الكوبى.
كاتبه المفضل
ويصل كريستوبال من فحص تلك الكتب إلى استنتاج استمرار علاقة الصداقة بين الاثنين، على الرغم من أن سيربا قضى سنوات الأربعينيات والخمسينيات خارج الجزيرة، لكن تواصلهما لم ينقطع. ويرى مدافعًا عن تشابه كتابات سيربا مع هيمنجواى أن كلا الكاتبين اتفقا على استخدام الزخارف والأحداث والمواقع الكوبية فى أعمالهما، فى سياقات مماثلة وبنهج أيديولوجى جمالى مماثل. كما يؤكد أن مجموعة الكتب التى عثر عليها فى فينكا لمؤلفين كوبيين، تُظهر اهتمامًا لا جدال فيه للكاتب الأمريكى بالأدب الكوبى مما كتبه معاصريه موضحًا أن هذا قد يشير إلى انتقائية مقصودة إذا ربطناها بعلاقة مع مؤلفيها. ويستنتج فى النهاية أن تلك الكتب تعد مؤشرات على العلاقات المحتملة مع بعض المؤلفين كجانب من تأثير هيمنجواى وتأثره بالحياة الثقافية فى كوبا خلال تلك السنوات.
وكان هيمنجواى قد أشار إلى اهتمامه بالأدب الكوبى فى حوار أجرته معه صحيفة «إلموندو» الإسبانية،عقب نيله جائزة نوبل، تحدث فيه عن الأدب الكوبى ووصف سيربا بكاتبه المفضل، حيث قال: « أنا مهتم جدًا بالأدب الكوبى، لكن هناك كتاب يواجهون مشاكل صعبة للغاية، حيث لا يوجد ناشرون، ولا يوجد جمهور. والكاتب المفضل بالنسبة لى هو سيربا.» ومع ذلك لم يهتم المتخصصون فى سيرة صاحب نوبل بالبحث فى هذا الأمر، قبل هؤلاء الإثنين. ربما يرجع الأمر لتوتر العلاقات بين البلدين وأن أغلب الأبحاث والكتب المنشورة عن هيمنجواى فى الولايات المتحدة.
اهتمامه بالفن التشكيلي
هذه الإشارات التى تناولت بحث الأمر تؤكد مما لا شك فيه خطأ، أو عدم دقة افتراض ماركيز إلى أن هيمنجواى لم يكن متصلًا بالمثقفين فى عصره، بل وعلى العكس من ذلك توضح كيف توغل الروائى الأمريكى تدريجيًا  فى الحياة الثقافية بكل أوجهها ومن بينها  الفن التشكيلى أيضًا. فقد رصدت الباحثة الأمريكية سارة دريسكول فى أطروحتها لنيل درجة الماجيستير فى الفنون من جامعة ولاية أريزونا علاقة هيمنجواى برسام شاب يدعى أنطونيو جاتورنو.  ويعرف عن الكاتب الشهير اهتمامه بالفن التشكيلى وصداقته للعديد من الفنانين فى جميع سنوات حياته.
ساعد دريسكول فى بحثها التعاون الذى حدث أخيرًا بين كوبا والولايات المتحدة بشأن الكاتب الشهير ونقل نسخ رقمية من أوراقه فى بيته الكوبى إلى المجموعة التى تحمل اسمه والمحفوظة فى مكتبة جون إف كينيدى فى بوسطن. وتروى الباحثة فى أطروحتها أن لقاء هيمنجواى وجاتورنو تم  فى فندق « أمبوس موندوس» محل إقامة الروائى الأمريكى آنذاك، وقد جمع بينهما آنذاك هواية صيد الأسماك التى كانت وراء رحلات هيمنجواى إلى الجزيرة القريبة من بيته فى كى ويست، آخر نقطة بساحل فلوريدا والتى تبعد عن هافانا نحو مائة ميل فقط.  وكانت تلك الهواية سببًا فى تطور الصداقة بينهما بعدما أصبح جاتورنو عضوًا أساسيًا ضمن المجموعة التى تشارك الكاتب الأمريكى رحلات السعى وراء أسماك تيار الخليج.
دعم متواصل
خلال تلك الفترة، جذبت موهبة جاتورنو فى الرسم اهتمام الروائى الأمريكى، بعدما رسم له لوحة بورتريه (محفوظة الآن ضمن مجموعة هيمنجواى فى مكتبة جون إف كينيدى فى بوسطن).  وسعى إلى دعم الرسام الكوبى الموهوب بكل السبل، بدأها بكتابة مقدمة دراسة أولية قدمت عن لوحات جاتورنو فى كتاب نشر فى العام 1935. كما أرسل نسختين من الكتاب ذاته لصديقه المحرر أرنولد جينجريتش، محرر مجلة «إسكواير» وأحد مؤسسيها، ليساعد فى الترويج للوحات الفنان الموهوب، ما أسفر عن نشر 8 منها فى عدد مايو 1935 من المجلة.  
وتكشف مجموعة من الرسائل المتبادلة بينهما (من 1935 إلى 1938)، عن عمق العلاقة بين هيمنجواى وجاتورنو الذى حظى برعاية مستمرة من الكاتب الأمريكى،  إذ ساعده أيضًا ليقيم أول معرض فردى فى جاليرى شهير للفنون فى نيويورك هو  « جاليرى جورجيت باسدوا»، مما فتح الأبواب أمام موهبة الرسام الكوبى الشاب، وقدمه للمجتمع الأمريكى، وبفضل ذلك حصل على تكليف من شركة «باكاردي» لرسم جدارية لمقرها فى مبنى «امباير ستيت» فى العام 1937.
اتصال وثيق
وقد لا تكون تلك الأسماء فقط هى الوحيدة التى ارتبط بها الكاتب الأمريكى فى هافانا، لكنها تكشف وبوضوح اتصاله الوثيق بأهم المثقفين فى تلك الفترة، حتى أن إنريكِه سيربا الذى دعمه هيمنجواى وحاول مساعدته حصل على الجائزة الوطنية للرواية فى كوبا فى العام 1938. وقد كانت حانة فلوريديتا، المفضلة لديه، هى ملتقى النخبة فى فترة الثلاثينيات التى شهدت حراكًا ثقافيًا وسياسيًا وفنيًا.
وتكشف رسائل الأديب الأمريكى التى يتم جمعها حاليًا ونشرها فى مشروع كبير تتولاه منشورات كامبريدج برس المتوقع أن يصدر فى 17 مجلدًا، صدر منها حتى الآن خمسة، أو مقالاته التى كتبها خلال زياراته الأولى إلى هافانا ونشرت فى مجلة إسكواير الأمريكية، فى الفترة من 1933 إلى 1937، كيف كان هيمنجواى يعيش بكل حواسه فى العاصمة الكوبية، التى كانت تضج بالحراك والمسيرات والتظاهرات والاحتجاجات ضد رئيسها خيراردو ماتشادو. ففى تلك المقالات يظهر حرصه على تسجيل  وتدوين الكثير من تفاصيل تلك الأجواء المتوهجة بالأحداث والمشتعلة بالحماس، حيث غلب عليه شغفه بالصحافة وعمله كمراسل فى بداياته.