فى الصميم

دولة تملك قرارها

جلال عارف
جلال عارف

ليس جديداً أن تتغير بعض التوجهات السياسية لدى الإدارة الأمريكية مع كل رئيس جديد يتولى الحكم. قد يكون الأمر أكثر عمقاً فى أعقاب الفترة الرئاسية الصاخبة التى تولى فيها دونالد ترامب قيادة الدولة الأقوى فى العالم ليحدث تغييرات عميقة فى السياسات الداخلية والخارجية لأمريكا، وليضرب أسساً كانت ثابتة مثل العلاقات مع أقرب الحلفاء فى أوروبا والتوجه نحو التخفف من مسئوليات كانت أمريكا تتحملها كعبء ضرورى لدولة تتولى القيادة فى نظام عالمى ملىء بالتحديات.

مع وصول الرئيس الأمريكى "بايدن" للبيت الأبيض كان طبيعياً أن تكون هناك تغييرات فى السياسات الداخلية والخارجية، وأن تكون هذه التغييرات أكثر عمقاً مع نظرة جديدة تعتبر أن فترة حكم ترامب قد أضرت بأمريكا وأن إعادة النظر فيها واجبة.

ومع أن تركيز الإدارة الأمريكية الجديدة فى الشهور الأولى لها فى الحكم سيكون على الشأن الداخلى لمواجهة كارثة كورونا والوضع الاقتصادى الصعب وتخفيف الاحتقان فى مجتمع منقسم كما لم يحدث من قبل.. فإن الخطوط الأساسية فى السياسة الخارجية قد أصبحت أكثر وضوحاً حيث التحدى الأكبر هو التنافس مع العملاق الصينى لوقف زحفه نحو موقع القيادة العالمية من نقطة قوة اقتصادية هائلة، ثم التصدى للدب الروسى العائد لاستعادة مكانته اعتماداً على قوة عسكرية مازالت تؤرق أمريكا فى مناخ يستعيد أجواء الحرب الباردة التى ظنت أمريكا أنها انتهت بنصرها "النهائى" على الاتحاد السوفيتى، قبل أن تكتشف زيف الادعاء بـ "نهاية التاريخ" وتجد نفسها فى موقف الدفاع أمام تحديات لا يمكن مواجهتها بإغلاق الحدود وضرب التحالفات الأساسية والمواقف المتضاربة التى لجأ إليها "ترامب" تحت زعم أنه يبنى "أمريكا الأعظم"!

هذا الصراع الأساسى مع الصين وروسيا، يفرض على الإدارة الأمريكية الجديدة مهام ترميم الجسور مع الحلفاء الأقرب فى أوروبا، ويجعل من عودة "الدور الأمريكى" إلى المنظمات الدولية التى تركتها الإدارة السابقة أمراً ضرورياً كما هو الحال أيضا مع اتفاقيات مثل اتفاقيات المناخ. فلا مصلحة لأمريكا فى أن تعزل نفسها، ولا أن تفقد تأثيرها فى نظام عالمى يحتاج للتجديد بالقطع، لكن لا يمكن الانسحاب منه أو المساعدة فى هدمه دون إيجاد البديل أو ترك المنافسين يقومون بالمهمة )!!( وهو الوضع الذى تسعى واشنطن الآن لتصحيحه ضمن استراتيجتها الجديدة.

ولاشك أن ترتيب الأولويات فى السياسة الخارجية يتغير، وأن انعكاسات ذلك على منطقتنا تؤرق العديد من الأطراف بمن فيهم إسرائيل التى تعلن خشيتها من السياسة الأمريكية الجديدة نحو إيران ومن "فرملة" الانحياز الذى تجاوز كل الحدود من جانب ترامب ضد الحقوق الفلسطينية المشروعة، كما تؤرق أيضا كل من ربطوا مصيرهم بصفقات ترامب، أو وضعوا قرارهم فى عهدة "واشنطن" أو فى حمايتها!

فى ظل كل هذه المتناقضات تتعامل مصر مع الموقف بهدوء يليق بدولة تملك قرارها، وتدرك قدرها كقوة أساسية فى استقرار المنطقة أو عدم استقرارها. دولة تعرف من تجربتها الطويلة أن استقلال القرار الوطنى هو العامل الأساسى فى علاقاتها مع الآخرين، وتعرف أيضا أن الجميع لابد أن يتعاملوا معها على هذا الأساس، وفى المقدمة أمريكا نفسها التى علمتها التجارب منذ معركة الأحلاف والسد العالى وحتى الموقف الخاطئ من ٣٠ يونيو، أن استقلال القرار الوطنى هو الأساس الذى حمى مصر من أن تتحول إلى دولة تابعة كما أرادها "الإخوان"، وهو الذى مكنها من التصدى للإرهاب والانتصار عليه. وهو الذى جعلها تبنى علاقاتها الدولية بما يحقق مصالحها، وما جعلها تبنى قوتها ـ فى أصعب الظروف ـ لتصبح عامل الأمن والاستقرار الأول فى المنطقة بأسرها، وأن تدير علاقاتها مع العالم كله من منطلق واحد: القرار الوطنى المستقل، والقوة التى تحميه، ولا عزاء لمن لا يستوعبون الدرس.. هنا أو هناك!