بروفة ما قبل الفراق

صورة موضوعية
صورة موضوعية

 

فى الساعة الثالثة عصر الأحد الماضى تلقيت رسالة عبر الفيس بوك، مضمونها كان التالى: «ادعوك كشاهد فى محكمة الأسرة»..  «سيهنأ قلمك البارع فى وصف أخطر مواجهة فى حياتى، ويشهد على أصعب قرار سيتخذه نجلى بعد أن بلغ 16 عاماً».

دقائق وتلقيت رسالة ثالثة: « فى قاعة محكمة الأسرة قد تكون شاهدًا على وفاتى، أو محياىّ من جديد، كل هذا سيتوقف على قرار ابنى، عندما يخيره القاضى فى العيش معى أو مع والدته بعد انفصالنا،  واختتمها: «رجاء لا تنس هذا التاريخ 23 فبراير الجارى.. ثم وقع أسفلها الأب المكلوم أبو مصطفى»

لم يكن من الصعب تجاهل مضمون هذه الرسالة.. أسرعت وهدأت من روع الأب المكلوم، كما وصف نفسه، عبر رسائل الطمأنة والقبول بعرضه، تبادلنا أرقام الهواتف، وبعد يوم التقينا تمهيدًا للتجهيز لحضور المواجهة.
لم أنحز للأب بالشكل الذى أراده، فهذا من صميم عملى الصحفى، لأننى لم أستمع للطرف الآخر وهى الأم، ما كنت أسعى إليه، هي لحظة المواجهة التى طالما أردت أن أنقلها بقلمى لتكون عظة بكل ما تحملها من تعبيرات إنسانية حزينة إلى كل أب وأم اختارا الانفصال طريقًا لحل مشاكلهما.

أردت أن تكون قصة هذين الأبوين، جرس إنذار لكل حاضنين، قبل أن يجدا نفسيهما فى مكان هذا الأب المكلوم، والأم المغلوبة على أمرها ووسط ابنهما الذى عندما أراد منه الجميع أن يحدد قرارًا يخص حياته، لم يضعوا أمامه سوى قاعة المحكمة.
كنت أدرك أنه من الصعب حضور جلسة التخيير، فهى مقتصرة فقط على ثلاثة أشخاص «الأب والأم والابن أو الابنة »، أخبرت صاحب الرسالة بذلك، لكنه أصر على حضورى، وعندما تمسكت بقرارى، اقترح أن أحضر جلسة الرؤية الأخيرة مع ابنه قبل موعد المحكمة والتى ستكون فى أحد الأندية الاجتماعية بالإسكندرية..وافقت.. واشترطت ألا يخبر أحدًا بحضورى.. وسأكون فقط راصدًا لما سيحدث دون أن انحاز لطرف على حساب الآخر.. حضرت إلى النادى مبكراً.. تبعنى الأب بدقائق وبعدها بدأت أرصد «بروفة ما قبل الفراق».
كانت الساعة قد اقتربت من الواحدة والنصف ظهرًا، الأب يجلس على كرسى فى الطاولة المخصصة لرؤية نجله، حاملاً هدية كان قد وعده بإحضارها عندما يلتقيان، ورغم ثبات جسده على المقعد، إلا أن عينيه كانت تجوبان المكان كله، ظل يتفحص المارة، وكأنه يبحث عن شخص لم يره منذ سنوات.
اقتربت الساعة من الثانية والنصف، لم تحضر طليقته أو نجله.. الوقت المتبقى ساعة فقط على انتهاء الموعد المخصص للرؤية، وسط هذا الترقب، شاهد الأب بعينيه الحائرتين، نجله يدخل من البوابة الرئيسية فى النادى، حيث كان الابن منشغلاً بالحديث مع شخص ما عبر الهاتف.. بمجرد أن لمح الأب ابنه تقوده قدماه إلى الطاولة التى يجلس عليها، استدار فى خجل إلى الجهة الأخرى مصدرًا ظهره إليهم، خافيًا ملامح سعادته برؤية نجله، مكتفيًا بمداعبة الهدية التى أحضرها، حيث أخذ يقلبها يمينًا ويسارًا، ينظفها بيديه ويمسحها بملابسه، فلم يكن يشغله سوى سعادة نجله، غير ذلك لم يمثل له أى اهتمام.
فى هذه الأثناء، كانت الأم قد طلبت من نجلها التوقف، دخلت إلى مكتب فى النادى وقعت على ورقة، ثم تحرك الجميع فى اتجاه الطاولة التى يجلس عليها الأب.
قبل خطوات من وصول الجميع إلى الطاولة، نبه صوت الابن المرتفع عبر الهاتف والده، استدار فى لهفة رغم حرصه الشديد على إظهار تماسكه، لكنه لم يتمالك نفسه، خانته الابتسامة، وقف على قدميه بسرعة، تخطفت عيناه وجه نجله وتجاهل الآخرين، فى حين اكتفى الابن بابتسامة فاترة، ثم جلس على الطاولة، مستكملاً مكالمته التليفونية، وكأن والده لم يجلس أمامه، أو أنه لم يره منذ 3 سنوات سوى مرتين حسبما أخبرنى الأب.
فى هذه اللحظة كانت الأم وشقيقها قد اتخذا طاولة بجوار ابنهما، لمراقبة أى ضغوطات من الممكن أن يمارسها الأب على ابنه لتغيير رأيه فى العيش معه بدلاً من أمه.. طلب الأب من نجله بصوت منخفض أن يغلق الهاتف وينتبه إلى الهدية التى أحضرها له، استجاب له الابن بنظرة تحمل تعبيرًا ينم عن عدم الاهتمام.. أدرك الأب أن نجله مشحون بعبارات الغضب من والده، لكنه تجاهل كل ذلك.. وقرر المواجهة، طلب من ابنه فتح الهدية، استجاب الابن، وعندما اكتشف أنه هاتف من النوع الحديث، ارتسمت سعادة على وجهه، لكن سرعان ما استبدلها بابتسامة يأس وعدم اهتمام عندما راقب نظرات والدته إليه.
بعدها..قرر الأب أن يكشف لابنه عن كل ما يريد أن يعرفه، فهى الفرصة الوحيدة التى تجمعهما معًا، قص له بصوت مرتفع من السبب فى الانفصال، وكيف كانت تهينه والدته، وتسب أهله بأبشع الألفاظ.
اعترف له أنه حاول العودة إلى والدته من أجله، إلا أن الأم كانت ترفض دون أسباب، حتى اصبحت المحاكم هى الطريق الوحيد لرؤيته.
شرح له لماذا سافر عامين للخارج، بعد أن استولت والدته على كل ما يملك بسبب عشرات القضايا التى أقامتها بعد الطلاق.
لم يتوقف الأب عن الحديث مع نجله الذى كان منشغلاً فقط بالهاتف الجديد، وفى نفس الوقت مراقبًا لنظرات والدته، التى اقتربت بمقعدها إلى الطاولة بعد أن أدركت أن الأب بدأ يمارس ضغوطًا على الابن.
وسط هذه المشاهد المتكررة فى تعبيرات أصحابها وردود أفعالهم، تحرك الأب إلى مقعد نجله، احتضنه بقوة، ثم بكى بصوت آثار انتباه الجميع، وأخذ يتمتم بكلمات كثيرة: أنا أحبك يا مصطفى، ولا أستطيع أن أتحمل فراقك، أنا مريض بالسكر يابنى، وأعيش وحيدًا، وليس لى سند سواك....كل أموالى ستكون لك..فقط اختر أن تعيش معى وسأكون أنا ملكك.
لم يهتم الأب بمحاولات طليقته إسكاته، ظل يحتضن ابنه، ويترجاه فى العيش معه، فى هذه اللحظة كان لابد من القاء نظرة على ردود فعل الأم .. نعم كانت متوترة .. تكاد شبه واقفة على الكرسى .. تلقى بأذنيها إلى الطاولة التى يجلس عليها الأب والابن .. لكن إحساسها بتأثر ابنها بكلام أبيه وتعاطفه معه دفعها إلى الضغط على شقيقها بالتحرك ووقف هذا المشهد العبثى من وجهة نظرها.. تدخل شقيق طليقته، وطلب منه عدم إثارة المشاكل ووعده بعدم الضغط على الابن لاختيار أى طرف سيعيش معه، ثم انصرف الجميع بهدوء، بعد أن انتهى موعد الرؤية.
بعد مرور يومين تلقيت مكالمة من الأب، كانت كلماته تدل على أنه يمر بوعكة صحية، فهو يتحدث بصعوبة، أخبرنى أن المواجهة انتهت أمام القاضى، قال: « وقف ابنى أمامى فى المحكمة، أخبر الجميع ودموعه تسبقه أنه لا يريد أن يعيش معى».. نعم قال للقاضى بثقة..عفوًا.. أنا أصبحت عاقلاً رشيدًا..وسأكمل الحياة مع والدتى.. أبى سيظل والدى، لكن فراقه 3 سنوات كان قاسيًا..ووالدتى كانت عونًا لى، لذلك سأكمل حياتى فى حضانتها». واختتم الأب مكالمته: «سأكون قويًا لا تقلق..وسأظل أبحث عن حضن نجلى..لكن رجاء انقل رسالتى للجميع، ولا تذكر اسمى كاملاً، فقد يغضب ذلك ابنى الوحيد».