إنها مصر

الليث بن سعد

كرم جبر
كرم جبر

«تفتحت عين الصبى منذ وعى الحياة على خضرة الأرض، وانسياب النهر، وروعة الحقول والبساتين والحدائق، وامتلأت رئته الصغيرة بعبق الأزهار، فنشأ يحب الجمال».
وأكسبته مرائى الجمال فى قريته صفاء العقل والذوق والنفس وحباً للحياة والناس، فكانت الفتاوى التى أصدرها مشبعة بجمال الحياة والمياه والخضرة، وليس الجفوة والرمال وصراع الصحراء.
وذات مرة أمر أحد ولاة مصر بهدم الكنائس، فما كان من الإمام الليث بن سعد بأن أرسل إلى الخليفة طالباً عزل الوالى لأنه مبتدع، مخالفاً روح الإسلام، فعزله الخليفة بجريمته، وأشار على الوالى الجديد أن يعيد ما تم هدمه من كنائس.
إمام مصرى عظيم، جعل قبلته التسامح والثراء العقلى والتنوع الفكرى، وواجه بسبب ذلك حرباً ضارية من أئمة الجمود والتخلف.
لم يعجب بعض منهجه خلفاء بنى أمية، فأثاروا قضية أنه مصرى وقلبوا عليه، بالرغم من أنه عرف بأنه «سيد الفقهاء»، وسار على دربه الإمام الشافعى عندما جاء إلى مصر.
وللأسف الشديد لا يلقى هذا الفقيه من ما يستحقه بقدر علمه ورجاحة عقله وجرأة فتاويه، ولجوئه إلى نشر مبادئ الإسلام المعتدلة، التى تحبذ الحياة وتسعى إلى الخير والسلام، وقال عنه الإمام الشافعى «إنه نصير الفقراء وظهير الضعفاء وعزيز النفس وصافى الوجدان».
مشكلة الإمام الليث أن تلاميذه لم يحفظوا أثره ولم يدونوا علمه، تاركين ذلك للتجاهل والنسيان، ولو تحقق ذلك لوجدنا مخزوناً من الأفكار النبيلة، التى تدحض التطرف والغلو والخرافات.
قال عنه عبد الرحمن الشرقاوي فى كتابه «الأئمة التسعة»: «لا يعرف الواحد كيف يندثر أثر رجل كهذا له من المكانة ما جعلته مقصداً للعامة والخاصة والصفوة والملوك، والغريب أنه ما أن تأتى سيرة هذا الرجل إلا وأحيط بهالة من التفخيم والإجلال والإعجاب».
إمام مصرى، وفقيه نشأ فى أحضان النيل، مرتاداً الجامع الكبير «عمرو بن العاص»، منفتحاً على الثقافات العربية والمصرية القديمة، متقناً لغة الإسلام العربية واليونانية واللاتينية، فاشتق من الإسلام معانى تخاطب القلوب وتهذب الأرواح.
وما أحوجنا إلى مثل هؤلاء، ينشرون المحبة والسلام بين الناس، ويقدسون الحياة التى تصون حياة البشر، وتخرج فتاويه معجونة بأصالة مصر واحتوائها لجميع الديانات السماوية، وجميع أبناء تلك الديانات.
بالمناسبة: يوجد مسلسل باسم «الليث بن سعد»، يا ريت تعاد إذاعته، ويتناول حياة الإمام الذى اشتهر بعلمه وفتواه، وأنشأ فى مصر عدة مدارس لدراسة علم الحديث والفقه وتفسير القرآن.. وحباه الله بالرزق الوفير الذى كان ينفق منه على الفقراء.