في ذكرى وفاة أحد رواد الرواية العربية

«الفانتازيا والتاريخ والواقع».. رحلة في روايات يوسف السباعي

 الأديبٌ والمفكرٌ يوسف السباعي
الأديبٌ والمفكرٌ يوسف السباعي

تحل اليوم ذكرى وفاة الأديبٌ والمفكرٌ يوسف السباعي، أحد الرواد القلائل للرواية العربية في العصر الحديث، فهو أحد العلامات البارزة في الحياة الأدبية والفكرية والثقافية.

 

وعلى الرغم من أنّ انضمامه إلى الكلية الحربية صقل شخصيته بالصرامة، إلا أنه امتلك قلبًا رقيقًا مكّنه من صياغة أروع القصص الاجتماعية والرومانسية التي نسج خيوط شخصياتها لتصبح في النهاية روايةً عظيمة تقدم للجمهور سواء كان قارئًا أو مشاهدًا للأعمال السينمائية، وبالإضافة لهذا كله كان دبلوماسيًا ووزيرًا متميزًا.

 

اقرأ أيضا .. كبار الشعراء في أمسية شعرية بـ«المجلس الأعلى للثقافة»

 

وكانت كتابات يوسف السباعي تتمحور في اتجاهات ثلاثة، أولهما الاتجاه الفانتازي، وثانيهما الاتجاه التاريخي، أما آخرها فهو الاتجاه الواقعي الاجتماعي، ولكنه لم يكن بارزًا كالاتجاهين الأولين.

 

وقد اختار يوسف السباعي أن تتبنى أولى رواياته الاتجاه الفانتازي؛ وهو اتجاه يسمح للفنان بإحداث شيء خارق للعادة في الرواية في قالب من الفكاهة والسخرية.

 

في رواية «نائب عزرائيل» حطم السباعي الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال؛ فسمح للبطل بحرية التنقل بين الأرض والسماء، حين اكتشف بطل الرواية وراويها أنه قد انتقل إلى العالم الآخر عن طريق الخطأ بسبب اختلاط اسمه باسم شخص آخر حان أجله، وعلى الرغم من أنه يُعرض على البطل النزول إلى الأرض ثانية واسترداد حياته الدنيا، إلا أنه يتردد كثيرًا، إذ إنه قد استلذ التحرر من قيود الدنيا والعيش في مكان ليس به مرض ولا قلق ولا خوف.

 

ولسبب ما يصبح البطل نائبًا لعزرائيل لمدة يوم واحد فقط، ولكنه يشفق على الناس ولا يقبض أرواحهم؛ فهذه شابة كثيرًا، وهذا رجل خير كريم، وتلك أسرة كبيرة مكونة من نساء وأطفال حتى يُدرك في النهاية أن كل الناس سينتهي بهم الأمر إلى الموت بشكل أو بآخر، وأنه لا يجب لأحد مهما كان أن يعترض القدر.

 

عند قراءة «نائب عزرائيل» سوف تتذكر شبابك وطيشك وأنت تتجول بين الكبائن المترامية على الشاطئ مع الآنسة زيزي، وسوف تُغرق في الضحك على محمود أفندي الفنط، وتأنقه المبالغ فيه، وهو لا يعلم أن الموت ينتظره على الناحية الأخرى من الطريق، وسوف تتجول في حواري القاهرة، وتضحك ملء شدقيك وأنت ترى كيف أمسكت زوجة الجزار بحرامي الغسيل، وكيف جرت الحارة كلها وراءه. ولكنك بعد أن تنتهي من القراءة ستهاجمك أسئلة كثيرة، كالتي هاجمت يوسف السباعي، أسئلة كلها متعلقة بالموت وماهيته وحتميته.

 

لقد واجه السباعي الموت الذي أخذ والده الحبيب في أولى رواياته بالسخرية، وجعله مقترنًا بعاصفة من الضحك في كل فصل من فصول روايته؛ فهو من قال: «اكتشفت أنني أسخر من الموت، واعتبره خصمًا أود لو أصرعه. لقد كنت أحاول ككاتب أن أزيل هيبة الموت، وأجعل الناس تراه كما أراه: مجرد انتقال من الحركة إلى السكون».

 

أسلوبه الساخر

أما عن أسلوبه الساخر مع شيء قاتم وكئيب كالموت، فإنه قد علل ذلك في بداية الرواية بقوله إنه رجل يحب المزاح، وأنه على يقين بأن المرء لا يربح من حياته سوى ساعات الضحك، ويعلم تمام العلم أن للضحك مفعولًا سحريًا، وأشار إلى أن المرء إذا كان يريد شيئًا من شخص ما؛ فعليه بإضحاكه أولًا، وهو يضمن له أنه سينال ما يريد.

 

«السقا مات»، الرواية التي تشتم في صفحاتها عبق الحارات المصرية القديمة، ويترامى إلى أذنيك ضحك الصبية ولعبهم في الأزقة، وتسمع صوت خرير المياه وهو ينساب من الصنبور العمومي، ومنها إلى قربة الساقي التي يفرغها في بيوت تشعر بدفئها وبقرب قاطنيها منك.

 

إنها رواية اجتماعية تحمل في طياتها صورًا مفصلة لمدينة القاهرة وحاراتها وناسها وصبيتها ورجالها ونسائها، وهي أيضًا تستكشف، جنبًا إلى جنب مع المظاهر الاجتماعية، الموت الذي نعته السباعي فيها بالعزيز تارة، وبالحقير تارة أخرى، وتضع القارئ في مواجهة مباشرة مع رهبته وقساوته، ولكن القارئ ما أن يدخل في نوبة بكاء حتى يعاجله السباعي بمغامرة من مغامرات الصبي سيد في الكُتاب أو في الحارة، ويجعله يغرق في الضحك، وهكذا تمضي الرواية بين فرح وحزن وضحك وبكاء، تمامًا كما تمضي الحياة.

 

هذه الرواية تحكي عن الصبي سيد الدنك وأبيه السقاء المعلم شوشة الدنك، وعن مدى حب وتعلق سيد بأبيه الحنون الذي لا يتخيل الدنيا بدونه، وعن شحاته أفندي الرجل الذي يتشاءم منه سيد بعد أن يعلم أنه يمشي في الجنائز، ويرى أن شبح الموت يرافقه أينما حل.

 

على النقيض من شوشة الذي يأخذ الحياة على محمل الجد ويكافح؛ لكي ينفق على ابنه، وأم زوجته الراحلة، ويكره الموت كرهًا شديدًا؛ لأنه اختطف زوجته الشابة التي كان يحبها حبًا جمًا، كان شحاته أفندي المطيباتي رجلًا غير مبال، عرف الدنيا جيدًا، ولم تعد تخدعه أضواؤها الزائفة، ورأى وجهها القبيح مرارًا، وكان يرى أن الموت مصدر رزقه الوحيد، ويمشى أمام الجنازات ملقيًا بالضحكات والنكات على أقرانه في صوت خفيض.

 

وبالرغم من أن الشخصيتين تتحابان ويصبحان أصدقاء، إلا أن رعدة قوية تسري في جسد المعلم شوشة؛ حين يعلم بوظيفة شحاته أفندي، وهو الرجل الذي لا يطيق حتى أن يسمع لفظ الموت، فما بالك بأن يصادق من تعتبر الجنازات مصدر رزقه الأوحد.

 

نقاشات فلسفية في روايات السباعي

يأخذنا السباعي في نقاشات فلسفية شديدة العمق على لسان شحاته أفندي في نقاشاته المتعددة مع شوشة عن الموت وماهيته وحتميته التي لا مفر منها، وكيف أنه قد يكون مصدر حزن وسعادة للناس في وقت واحد.

 

فبينما يحزن أهل المتوفى على فقيدهم يفرح هو وزملائه والحانوتي؛ لأنهم أخيرًا قد جاءهم عمل. وهكذا يحاول شحاتة مرارًا وتكرارًا أن يكسر رهبة الموت في نفس شوشة الذي لا يخشى شيئًا قدر خشيته من الموت ومداهمته غير المتوقعة.

 

وحين يختطف الموت شحاته أفندي فجأة، يقرر المعلم شوشة لأول مرة أن يواجه ذاك الشيء الرهيب الذي يخشاه ويسأل نفسه في جدية قائلًا: «الموت.. الموت.. الموت.. لماذا يعبث بنا كل هذا العبث؟ ماله لا ينقض فيريحنا من عناء الانتظار! ماله يتركنا حيارى ضالين نحس به ولا نراه، نوقن من وجوده.. ولا نوقن حدوثه! ماله يبدو كالشبح أو الوهم.. وهو حقيقة واقعة! ماله يقبل متخفيًا مستترًا، فلا نراه إلا وقد أطبق علينا، وهو أبعد ما نتوقع».

 

وهكذا يرتدي شوشة بزة شحاته التي كان يتشاءم منها، ويمضي متقدمًا جنازته، بل ينزل معه إلى قبره؛ عله يرى ذلك الموت الرهيب الذي يأتي متخفيًا متسترًا، فلا تشعر به، إلا وقد انقض عليك، دون أن تراه أو تسمع وقع خطواته. ولكن إن كان شوشة قد لاقى بعض الراحة حين حاول مواجهة الموت، فإن ابنه الصغير قد انتابه الرعب حين رأى أباه بهذا الزي المقبض الموحش، ما لأبيه المرح الحنون القوي وهذه الأشياء؟.

 

عند قراءتك لهذه الرواية، سترى يوسف السباعي الحقيقي وراء كل شخصية من شخصيات هذه الرواية؛ فهو شحاته غير المبالي بالموت والمستعد له في أية لحظة، وهو شوشة المثابر الذي يجاهد خوفه من الموت، وهو ذلك الصبي الشقي الصغير الذي يعدو وراء الأولاد الملاعين في الأزقة والحارات حين يقولون له «أبوك السقا مات بيروح الجنازات» ليضربهم ويسبهم على جرأتهم في التنبؤ بموت أبيه، لقد كان سيد لا يفترض أن أباه من الممكن أن يموت؛ لأنه ببساطة قوي وشاب، ولا يعاني من أية أمراض، ولكن البيت يتهدم فوقه فيقضي عليه. وهكذا كان يوسف الصغير لا يتخيل موت أبيه القوي الشاب، ولكن الموت يأخذه فجأة.

 

وعن هذه الرواية يقول السباعي: «لا أستطيع أن أسكت صوتي من أن ينطق بلسان أحد الأبطال في أي زمان، وأي مكان، سواء على لسان السقا، أو لسان الصبي ابن السقا، أو على لسان شحاته أفندي».

 

لقد كان عالم يوسف السباعي الفني رحبًا؛ فهو الذي استخدم الفانتازيا، والتاريخ والمجتمع في رواياته، وهو الذي نطق أبطاله «رغمًا عنه» بالعامية؛ لأنه يكتب للعامة، لا للخاصة من الفصحاء والبلغاء.