يوميات الأخبار

مساحات الفقد

نوال مصطفى
نوال مصطفى

أنا لا أجلس للكتابة فى أي مكان، بل فى مكتبي سواء فى الأخبار، أو فى البيت. قبلها لابد أن أرتدي كامل ملابسي، كأنى على موعد غرامى مع حبيبة، أتأنق وأتعطر، ثم أفتح قلبي وعقلي للكتابة.

مغرمة أنا بالعناوين، تشدنى إلى النص، وتلهمنى بتداعيات وتأويلات لا نهائية لمعنى الكلمات وفحواها. هذا ما حدث عندما أرسلت لى صديقتي الغالية الدكتورة سعاد جابر بوست أعجبها عنوانه "مساحات الفقد". رنت كلمات العنوان على جدران قلبى، حركت مشاعرى، وأثارت أسئلتى.
كان مضمون النص المرسل من صديقتى الطبيبة والكاتبة صاحبة الحس الأدبى العالى يدور حول معنى الفقد، ويرى كاتبه أنه لا يقتصر فقط على تذكرنا لعزيز فارق دنيانا وترك فراغا هائلا فى حياتنا، بل إن هناك أنواعا أخرى من الفقد أقساها وأصعبها حين تشعر أنك فقدت نفسك! النسخة الحقيقية منك، التى تحبها، تعتز بها، تبحث عنها بلا جدوى، تلهث وراءها فتراوغ وتختبئ فى سراديب الحياة وتقلباتها. تحلم بشدة بلقاء هذا الإنسان الذى كنته، والتطلع إلى الجمال الذى تشرق به روحه.

معنى جميل، نعيشه جميعا، هناك أشياء كثيرة تسقط منا فى مشوار الحياة، لمة الأهل، والأحباب، غياب الغاليين من صور التقطتها لنا الكاميرا فى زمن فات، حماس البدايات، براءة الأحلام، تلقائية المشاعر والأفعال، طقوس جميلة عشناها أطفالا وشبابا فى حضن الأسرة الكبيرة، ودفء الطعام الصاهد ببخار الطهى الحميم، المصنوع بأيدى الأمهات يفوح ببهارات الحب، ونبض القلب. أوحشتنا العيشة الهادئة، الرايقة، التى كان يملك فيها الإنسان الوقت الكافى للإحساس بالأشياء.. الحب، الفرح، حتى الحزن.

أما أنتِ يا من كنتِ السبب فى استدعاء وكتابة هذه السطور: صديقتى وأختى الحبيبة سعاد جابر، فأنا أفتقدك الفقد كله! أفتقد ساعات البوح بيننا ولحظات الفرح والشجن التى كانت ولا تزال زادنا وزوادنا فى رحلة العمر الممتدة التى يعبرها الزمن.

موسى صبري يتأنق

على ذكر العناوين المؤثرة، المحركة للفكر والمشاعر، هناك جمل تعلق بالذاكرة، ولا تنمحى بمرور السنين. أستدعى الآن بمزيد من الاحترام والتقدير جملا حفرت فى ذاكرتى للكاتب القدير موسى صبرى، الذى تولى رئاسة تحرير جريدة الأخبار، ورئاسة مجلس إدارتها لسنوات عديدة، وكان من أبرز نجوم أخبار اليوم خلفا لجيل المؤسسين الأوائل مصطفى وعلى أمين، وجلال الدين الحمامصى.

فى هذه الفترة من تاريخ الصحافة المصرية كان هناك الصحفيون الأدباء، بمعنى أن الصحفيين البارزين كانوا فى الغالب يملكون موهبة الكتابة الإبداعية التى تنتمى إلى الأدب أكثر من الصحافة. أذكر منهم على سبيل المثال مصطفى أمين، صلاح حافظ، فتحى غانم، إحسان عبد القدوس، كامل الزهيرى، وموسى صبرى.
فى حوار أجريته معه فى بداية مشوارى الصحفى سألته: هل لديك طقوس معينة فى الكتابة، لا أقصد الأخبار السريعة التى يكتبها الصحفى فى الحال حتى يلحق نشر الجريدة، بل كتابة المقالات الطويلة، أو الروايات؟ نظر إلىَّ بابتسامة عريضة وكأنه يتذكر شيئا يسعده، وقال يومها جملة لم أنسَها حتى هذه اللحظة، بل وأصبحت عندى طقسا أحاول التشبث به تقليدا للأستاذ الكبير. فماذا قال؟

"أنا لا أجلس للكتابة فى أى مكان، بل فى مكتبى سواء فى الأخبار، أو فى البيت. قبلها لابد أن أرتدى كامل ملابسى، كأنى على موعد غرامى مع حبيبة، أتأنق وأتعطر، ثم أفتح قلبى وعقلى للكتابة".
هذا ما قاله الأستاذ موسى صبرى، وهكذا يكون الكاتب.

ورثة آل الشيخ

لم أكن أعرف الروائى أحمد القرملاوي قبل أن ألقاه وجها لوجه فى الصالون الأدبى الذى أقامته "الدار المصرية اللبنانية" العريقة برعاية وحضور الناشرتين المثقفتين نرمين ونورا رشاد بتنسيق وإدارة الأستاذة سارة إبراهيم مؤسسة جروب "بوك مارك" الشهير المحترم، الذى أعتز كثيرا بانضمامى إليه.

كان موضوع الصالون هو مناقشة وحفل توقيع لرواية صدرت عن الدار حديثا (كان ذلك فى أكتوبر 2020) يومها ذهبت بدافع التعرف على أصدقاء افتراضيين أعتز بهم من خلال مناقشات وكتابات وترشيحات لكتب ممتازة، كل من وجهة نظره. استمتعت بالمناقشة التى اتسمت بطابع إنسانى حميم بين أعضاء الجروب والكاتب، كان الجو العام للقاء يتجاوز المناقشة الأدبية إلى الرغبة فى التحاور مع بشر يشبهوننا، خاصة فيما يتعلق بالفكر، حب القراءة.

اقتنيت الرواية، ثم حظيت بتوقيع الكاتب وقررت أن أضعها ضمن جدول قراءاتى، وهذا ما حدث. للأسف تأخر ذلك بعض الوقت، لكنى أنجزتها فى النهاية، عشت أحداثها المثيرة للفضول، وحاورت شخوصها المرسومة بعناية ودقة.

سر الكنز المدفون

"ورثة آل شيخ" هى رواية التفاصيل الصغيرة بامتياز، نص أدبى جميل، يشعرك من الوهلة الأولى بالحميمية مع الأماكن التى تدور فيها الأحداث سواء كانت قديمة (حلوان، مصر القديمة، الغورية)، أو حديثة (مصر الجديدة)، كذلك تحس نفس الشيء مع الأحداث التى تدور فى المدينة (القاهرة) أو الريف (بيت نعمات).
يبحر بنا الكاتب عبر أزمنة مختلفة، خمسة عقود، وخمسة أجيال متتابعة، فروع رئيسية، ثم فروع أصغر وأصغر متفرعة من الفرع الأول. شجرة العائلة هى التى تربط شخصيات الرواية الممتدة عبر الزمن، وترشد القارئ فى الوقت نفسه إلى العلاقات بينها، قبل أن يتوه فى تعدد الأسماء، وتفاصيل الحكايات.

"الشيخ" هو الأصل. الجد الأول، الذى سيعقبه أجداد آخرون. يكوّنون عائلات وينجبون أولادا، تتقاطع الحكايات داخل تلك العلاقات المتشابكة، تعيش مع الرواية أجواء الزمان والمكان اللذين تدور فيهما الأحداث، براعة الكاتب فى الوصف الدقيق، وقاموسه اللغوى الغنى يجعل من كل مفردة نبضة تحسها، لا تقرؤها فحسب. النفَس الأدبى فى الكتابة يذكرنى بإيزابيل الليندى، الكاتبة التشيلية، ملكة التفاصيل الصغيرة، وواحدة من أهم الروائيين الذين ينتمون إلى الواقعية السحرية فى أعمالهم الروائية.
كذلك تأثر أحمد القرملاوى بأديب مصر نجيب محفوظ، نلحظ ذلك فى دقته الشديدة فى انتقاء مفرداته المعبرة عن الشخصية، والزمن الذى وجدت فيه، وكذلك المعلومات الوفيرة التى يسوقها الكاتب عن الشوارع والحارات، الأحداث والخلفيات. يستخدم فى الحوار لغة عذبة، أنيقة تمزج ببساطة واقتدار بين الفصحى والعامية، يأخذ التراكيب العامية فيجعلها فصحى تنقل المعنى كما هو ولا تخل ببناء السرد الفصيح المتقن.
تحكى الرواية بشكل ملحمى، أسطورة عائلة "الشيخ" الممتدة عبر عدة عقود، يتوارث الابن الذكر فى كل جيل من الأجيال اسم "محمد" كما يتوارث مهمة البحث عن السر المخفى، أو الكنز الموعود الموجود فى مكان ما فى بيت "الخرنفش" بيت العائلة.

«كنز مدفون من أيام الشيخ، جدنا الكبير.. سبع زلعات من الفخار، مسدودة الأفواه بقشٍّ ذهبي، مملوءة حتى فمها بجنيهات الذهب.. يحرسها قردٌ أجرب منحول الشعر، حتى يكتشفها سابع المحمَّدات».

تأخذنا الرواية الفاتنة عبر أزمنة تتقاطع، ومصائر بشر تكتب وتنفذ، فى رحلة خلابة، نكاد نحس خلالها أنفاس الشخصيات، ونرى شكل وجوههم، وهيئتهم، حميمية الوصف والكلمات تقربنا من هذه الشخصيات، وتورطنا فى تعقب خطواتهم، وانتظار نهايات قصصهم.

زحام الشخصيات

لو أن هناك عيبا فى هذه الرواية الجميلة من وجهة نظرى، فهو تعدد الشخصيات والحقب الزمنية، والحكايات المرتبطة بكل شخصية، مما جعلنى أتوه قليلا فى الجزء الأول من الرواية، لكننى فى الجزء الثانى بدأت أجمع العلاقات وأربط بين الحكايات. ربما كان هذا نابعا من الزخم الهائل من المعلومات التى جمعها الكاتب عن كل شىء، فازدحمت الرواية، وشكل هذا إرهاقا للقارئ بشكل ما.
هناك جمل فلسفية عميقة أحببتها فى الرواية منها:
"فى جيب ذاكرتى ثقب آخذ فى الاتساع، ترتقه الصور القديمة".
"ندفن موتانا حتى لا نتعذب بتهديدهم لوجودنا المفعم بالحياة".

رواية أحمد القرملاوى "ورثة آل الشيخ" عمل أدبى غنى بالمشاعر والرؤى، يتفرد بسرد محكم متقن للتفاصيل الصغيرة، يحتفى بالأسطورة، ويدفعنا لاكتشاف الكنز الذى هو كما فى رواية "ساحر الصحراء" لباولو كويلهو يكمن فى الرحلة. الرحلة التى نقطعها داخل أنفسنا للعثور على الكنز الحقيقى.

كلمات

كنت هاربة من زمانى ومكانى. متوثبة للركض فى غابات قدرى بلا نهاية، ربما أعثر بين ممراتها وأشجار رمانها على جزء منى. تركت مصر، رحلت إلى إسبانيا أحمل داخلى بذرة أمل فى القفز فوق ألمى. أن أجمع حطام روحى، أن أستعيد نفسى التى أفتقدها بشدة.

فقرة من روايتى "وكأنه الحب" (تحت الطبع).