ورقة وقلم

الــوعـي المـنـــــشــــــود

ياسر رزق
ياسر رزق

ما‭ ‬أوسع‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الأحلام‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحلق‭ ‬بنا‭ ‬مع‭ ‬حديث‭ ‬الجنرال‭ ‬الشاب‭ ‬منذ‭ ‬10‭ ‬سنوات‭ ‬مضت،‭ ‬وبين‭ ‬الواقع‭ ‬الذى‭ ‬نعيشه‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬قيادته‭ ‬الوطنية‭.‬

 

 

منذ عشر سنوات مضت، التقيت لأول مرة باللواء أركان حرب عبدالفتاح السيسى مدير إدارة المخابرات الحربية فى ذلك الحين.

كان ذلك بعد أسابيع معدودة من اضطرار الرئيس حسنى مبارك للتنحي، إثر ثورة ٢٥ يناير، وسقوط الجمهورية الأولى التى قامت فى ١٨ يونيو ١٩٥٣.

لم أكن قد قابلت الجنرال الشاب من قبل، برغم أنى كنت أعرف معظم أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى تولى إدارة شئون البلاد يوم ١١ فبراير ٢٠١١، بحكم عملى الصحفى كمحرر عسكرى لمدة تزيد على ٢٣ عاما حينئذ.

جاء اللقاء فى إطار سلسلة من اللقاءات عقدها نخبة من قيادات المجلس الأعلى مع مجموعات من كبار المثقفين والسياسيين والكتاب، بغرض عرض فكر المجلس الأعلى فى إدارة شئون البلاد، وطرح التحديات الجسام التى تجابه الوطن والمخاطر التى تعترض وحدته وتماسكه والتهديدات الداخلية والخارجية القائمة والمحتملة التى تواجهه ويواجهها.

كان الهدف ليس مجرد إطلاع الصفوة المثقفة والنخبة السياسية والإعلامية على مجريات الأمور، بقدر ما كان الاستماع إلى رؤى وأفكار وربما تصورات ومقترحات ممثلى الصفوة والنخبة المصرية إزاء قضايا الوطن فيما بعد ثورة يناير.

***

جاءت جلستى بالصدفة إلى يمين اللواء أركان حرب عبدالفتاح السيسى الذى كنت أتعرف عليه للمرة الأولى.

٤٥ دقيقة تكلمها الجنرال الشاب بعقلية منظمة وبأفكار مرتبة متسلسلة، استحوذ بها على اهتمام وإعجاب بل كان موضع انبهار الحاضرين من المدنيين فى لقاء (4+4) الذى ضم 4 من القادة العسكريين و4 من السياسيين والكتاب.

 

كان أمام السيسى مفكرة صغيرة، تحمل رءوس عناوين لأفكاره، وتحت بعض السطور كان يضع خطوطاً حمراء وخضراء. وتحت بعض الكلمات كان يضع أكثر من خط، دليلاً على أهميتها ومحوريتها فى الحديث.

 

وجدتنى اختلس نظرات إلى مفكرة السيسى، ولاحظت ابتسامة خفيفة على وجه الرجل دون أن ينظر إلىّ!، ودون أن يحرجنى بإخفاء أوراقها. لم يكن لديه ما يخفيه.

 

وهمست له قائلا: وأنا أدارى خجلى "إنه الفضول الصحفى، وليس التلصص"..!

***

- ثلاثة معان ركز عليها السيسى فى عرضه المفصل، ولعلها ظلت محور أحاديثه فيما بعد قائداً عاماً ومرشحاً للرئاسة ثم رئيساً للبلاد.

− أولها: أن هذا الوطن قادر على تخطى أى تحديات، والتصدى لأى تهديدات، والتغلب على أى مخاطر، إذا اتحدت قواه الوطنية.

− ثانيها: أن هذا الشعب العظيم قادر على صنع المعجزات، إذا توافرت له قيادة وطنية رشيدة ملهمة، قادرة على شحذ الهمم واستنهاض العزائم وحشد الإمكانات.

− ثالثها: أن الجيش المصرى هو جزء من هذا الشعب، يأتمر بأمره ولا أحد سواه، وأنه ليس "اوليجاركية عسكرية"، أى أقلية عسكرية حزبية أو طائفية أو جهوية، وإنما هو يمثل جميع مكونات الشعب بفئاته وطبقاته الاجتماعية الحية النابضة بالشباب.

- وثلاث كلمات جرت على لسان السيسى حينذاك، وطوال الوقت على مدى عشر سنوات تالية هى: الوعى، العوز، دولة الوطن الحر والمواطنين الأحرار.

***

فى المحطات المفصلية من التاريخ المصرى المعاصر على مدار السنوات العشر الماضية، ثبتت صحة المعانى الثلاث التى أكد عليها الجنرال الشاب عبدالفتاح السيسى، وبرهنت الأيام أن الكلمات الثلاث التى شدد عليها فى ذلك الوقت، هى نفسها داء ودواء المجتمع والدولة المصرية.

استطاعت مصر العظيمة، أن تتجاوز المحن والمخاطر، بفضل مخزونها الحضارى والفكرى، وأن تحتفظ بوحدة أقدم دولة عرفها التاريخ.

استطاع الشعب المصرى الأبى بفضل وحدة كتلته الوطنية خلف قواته المسلحة، أن يحقق معجزات وليس مجرد إنجازات، حينما توافرت له قيادة وطنية فكرية رشيدة ملهمة تمثلت فى الرجل نفسه، الذى هيأته الأقدار لمصر فى الزمن المناسب والمكان الملائم، واجتمعت عليه إرادة الجماهير.

***

كانت القوات المسلحة على العهد بها فى ثورة ٣٠ يونيو، مثلما كانت على قدر التوقع منها فى ثورة ٢٥ يناير، ووقفت بجانب ثورة الشعب الكبرى، وأنفذت إرادته فى بيان ٣ يوليو، حينما استدعى الفريق أول عبدالفتاح السيسى نفسه ووضع رأسه على كفه من أجل أمن وأمان هذا الشعب وإنقاذ الوطن من شبح حرب أهلية كانت على الأبواب.

ليس فقط يوم الثالث من يوليو ٢٠١٣ حينما ألقى البيان الذى التقت عليه مكونات المجتمع المصرى، وإنما قبل ذلك بعشرة أيام، عندما وقف يوم ٢٣ يونيو أى قبل انفجار بركان الغضب المصرى بأسبوع، وتحدث أمام الندوة التثقيفية للقوات المسلحة على مسرح الجلاء، وفاجأ الشعب وأركان النظام الحاكم بل والقوى السياسية المعارضة وهو يقول: "أى مروءة لنا كضباط وصف وجنود فى القوات المسلحة، ونحن نرى إخواننا أبناء الشعب المصرى يتعرضون للرعب والفزع ونظل صامتين.. يبقى نروح نموت أحسن".

ثم أعطى بعدها مهلة الأيام السبعة للنظام السياسى للاستجابة لمطالب الشعب.

كان السيسى قد وضع حياته وسلامته الشخصية على المحك من أجل وطنه، فى خضم ظروف ومخاطر لا يدركها إلا من عاش أيامها وعرف تفاصيلها..!

أذكر فيما بعد، فى لقاء جمع السيسى وكبار قادة القوات المسلحة مع عدد من الكتاب والمثقفين، أنه أراد −بكل تواضع− أن يقلل من شأن بطولته التى التفت حولها الجماهير، سعياً لإعلاء شأن المؤسسة وهى القوات المسلحة، حينما قال لنا: لو لم أكن قمت بما قمت أو تعرضت لأى مخاطر، لكان فلان قد قام بما فعلت، أو فلان، أو فلان، أو فلان، وكان يشير وهو يتحدث كقائد عام للقوات المسلحة، إلى الرجل الثانى فى القيادة العامة وهو رئيس الأركان، ثم إلى قادة الأفرع الرئيسية واحداً واحداً وبالاسم.

***

إذا أجريت بحثاً عن أكثر الكلمات تردداً على لسان السيسى القائد العام ورئيس الجمهورية، فستجدها مصر والمصريين والشعب، ثم الوعى.

نعم الوعى هو الشاغل الأكبر للسيسى.

وعى الشعب بالتهديدات والمخاطر الحالية والمحتملة، هو الذى يدفع الجماهير إلى التوحد، وهو الذى يحفظ تماسك الكتلة الوطنية ويزيدها تماسكاً.

وعى الشباب بالصورة الكاملة لما يجرى على أرض بلادهم من أجل بناء دولة متقدمة عصرية، هو الذى يعمق ولاءهم للوطن، ويدفع بمن يقف على جانبى المسيرة، غير مكترث، إلى الانضمام للصفوف، والمشاركة بالعرق والجهد والفكر فى بناء المجد الجديد لبلادهم، الذى لن يقوم إلا بسواعدهم.

وعى الطبقة المتوسطة والبسطاء بأن تحسين أحوالهم المعيشية، ليس السبيل إليه فقط زيادة وقتية فى الأجور أو معاشات تكافل وكرامة، سرعان ما لا تستطيع موارد الدولة فيما بعد الوفاء بها.

لست أقلل من شأن معاناة أبناء الطبقات دون المتوسطة أو الفقيرة.

إنما أقول : إن إنشاء المدن الجديدة والطرق والمرافق والخروج من الوادى الضيق، يوفر فرص عمل ذات أجور مجزية لغير المهرة فى أعمال التشييد والبناء، ويزيد من التشغيل فى الصناعات التى ستقوم أو تتوسع بدءاً من مواد البناء ومستلزمات خطوط الكهرباء والمياه والصرف والغاز وحتى الأجهزة المنزلية والأثاثات والأجهزة الكهربائية وغيرها، ومن ثم تتوافر للشباب العاطل والمقبل على العمل فرص للتشغيل، ويزداد الناتج المحلى، وتزداد حصيلة الضرائب والجمارك، وبالتالى قدرة الدولة على تحسين خدمات التعليم والصحة والثقافة.

بالمثل.. مشروعات الاستصلاح الزراعى التى تشمل الآن 3 ملايين فدان وتستهدف الوصول إلى 4 ملايين فدان، أى أكثر من نصف المساحة المزروعة فى مصر، بما يؤدى أيضا إلى زيادة فرص التشغيل فى الزراعة والتصنيع الزراعى، وكذلك فى تسمين الماشية وتربية الدواجن والاستزراع السمكى، ومحصلة ذلك هو زيادة المعروض من السلع الغذائية، بما يحد من الاستيراد ويقلل الضغط على الموازنة العامة، وفى نفس الوقت توفير المنتجات الغذائية بجودة عالية وبأسعار مناسبة تقلل العبء على دخل الأسرة.

***

وفى رأيى المتواضع، كما قلت فى مقالين سابقين وكما سأظل أردد، فإن مشروع تطوير كل قرى مصر فى غضون ثلاث سنوات، سوف ينقل الريف المصرى إلى واقع آخر، يرفع مستوى جودة حياة المواطن المصرى ليس فقط فى القرى وإنما أيضاً فى المدن التى سيخف الضغط على مرافقها وخدماتها عندما تنخفض موجات الهجرة للمدن، بعد أن تتوافر فى القرى فرص العمل بداخلها لأبنائها أثناء أعمال تطوير المرافق والخدمات والمنازل، وكذلك فى المصانع الصغيرة والمشاغل والورش التى ستنشأ بها للعمل فى الأنشطة والمجالات التى يشتهر بها كل إقليم.

بجانب كل ذلك.. فإن القيادة الوطنية لا تغفل الحاجات العاجلة للمواطنين محدودى الدخل والبسطاء وقاطنى العشوائيات الخطرة.

فالأجور تزداد فى يوليو من كل عام، وكذلك المعاشات، وهناك أكثر من ٦٠٠ ألف شقة مدعمة جرى إنشاؤها ضمن مشروع الإسكان الاجتماعى للشباب والمقبلين على الزواج، وكذلك مشروع إسكان قاطنى العشوائيات الخطرة وعددهم نحو ١٨٠ ألف أسرة أى مليون مواطن، الذى يكاد يكتمل ليوفر مجتمعات متكاملة تضم مع الوحدات السكنية المجهزة بالمفروشات والأجهزة مجاناً، مدارس ووحدات صحية وملاعب وحدائق.

***

ثمة جانب آخر من الوعى، هو وعى المسئولين بأن القرار الاقتصادى أو الفنى، ليس منبت الصلة عن الجوانب السياسية والاجتماعية وأيضاً الجانب الأمنى وأقصد به أمن المجتمع.

فقد يكون القرار سليماً من الزاوية الاقتصادية أو الفنية، غير أن توقيته غير مناسب، أو أن آثاره الجانبية تحتاج إلى إجراءات للتخفيف منها، أو لعلها أكثر ضرراً من الفوائد الاقتصادية للقرار.

ومن ثم فإن الوعى الاستراتيجى للمسئول، هو إحدى أوراق اعتماده لمنصبه، ولعله أهمها، وهو أيضاً سند بقائه فى منصبه أو الترقى إلى مناصب أرفع.

ربما لهذا يحرص الرئيس السيسى على المتابعة الدقيقة لكل خطوة أو إجراء أو قرار يمس مصالح الوطن ومعيشة الشعب، فلسنا نملك ترف التجربة والخطأ، لا من حيث إهدار الوقت، ولا إلقاء أعباء على الجماهير، ولا إبطاء المسيرة المتسارعة لبناء الدولة الحديثة.

***

الوعى الجمعى، هو الأنوار الكاشفة للديمقراطية.

فحين يغيب الوعى، يغيب عن الديمقراطية جوهرها وهو حكم الشعب لصالح الشعب.

لست أكتب مفتئتاً على الديمقراطية، ولا متراجعاً عن دعواتى للإصلاح السياسى التى سطرت فى شأنها 9 مقالات، أو أمهد مثلاً للتراجع عن خطواتها التى قطعنا فيها الكثير بدءاً من الإصلاح الدستورى ثم إجراء انتخابات مجلسى البرلمان.

إنما أقول: إن مظهر الديمقراطية تحقق فى انتخابات برلمانية، ثم رئاسية تنافسية عام ٢٠١٢. لكن جوهرها قتل قتلاً ودفن فى مقابر نظام الإخوان، حين غاب الوعى الجمعى أو غُيِّب تغييباً بفعل حسن النية أحيانا والجهل أحياناً والمصالح الضيقة أحياناً.

صحيح أن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها نظرياً، لكن تجربة الحكم الأسود للإخوان، كان ثمنها ثورة شعبية هائلة.

لذا فالوعى هو السبيل للديمقراطية السليمة.

والدرس المستفاد هو لفظ أى دعوات للمصالحة مع أعداء الشعب لا الآن ولا فيما بعد.. والطريق إلى ذلك هو تعميق الوعى الجماهيرى واستدعاء الذاكرة الوطنية.

نحن نحتاج إلى الوعى الجمعى من أجل ديمقراطية حقيقية نخطو فى سبيلها إلى الأمام، عبر حرية رأى وتعبير يكفلها الدستور، وتوسعة منابر المشاركة السياسية للكتلة الوطنية دون سواها، وتشجيع الأحزاب، وتعزيز دور غرفتى البرلمان فى الرقابة والمساءلة والتشريع، والأمل معقود عليهما وتجربة مجلس النواب فى أسابيعه الأولى مبشرة.

***

الكلمة الثانية التى سمعت الجنرال الشاب يشدد عليها منذ أول لقاء معه قبل عشر سنوات، وسمعته على مدار سنوات مضت يؤكد عليها هى العوز.

أذكر أننى سألته يومها: هل تقصد الفقر؟!

وكنت أشير إلى أن كلمة الفقر أيسر فى النطق والفهم.

لكنه وكان معه كل الحق أوضح لى أن الفقر+ العجز عن تغييره هو العوز.

فالمواطن الفقير حين يعجز أو ييأس من تحسين أحواله، أو لا يرى ضوءاً فى نهاية نفق المعاناة، لا تستطيع التنبؤ بتصرفاته.

والوطن الفقير الذى لا يجد قيادة رشيدة، تسعى للنهوض به، يظل أسيراً لإرادة من يقدمون له المنح والمساعدات، ويضعونه تحت إبطهم لتحقيق مصالحهم.

لذا كان أول عبارة تحدث بها السيسى إلى الجماهير مباشرة، هى أن هذا الشعب لم يجد من يرفق به أو يحنو عليه، وظل يسعى على مدار قرابة 7 سنوات مضت عليه فى سدة الرئاسة، لتغيير واقع العوز إلى واقع المنعة.

***

أما العبارة الثالثة التى سمعته وسمعتموه يشدد عليها وهى بناء دولة الوطن الحر والمواطنين الأحرار، فقد ظلت الهدف الأسمى الذى عمل لبلوغه منذ اللحظة الأولى لبزوغ بطولته فى الشارع المصرى.

فلقد حرص قبيل اتخاذ قراره وقرار الجيش بإنفاذ إرادة الشعب، على ألا يطلع أحداً فى العالم ولا يشاور أحداً ولا يستأذن أحداً، فى هذا القرار، بل كان رده على من حاول إثناءه عن هذا القرار أو حتى تأجيله هو الرفض مهما كانت العواقب.

كان السيسى حريصاً على تدشين أدبيات جديدة فى سياسة مصر الخارجية هى أن هذا الوطن حر الأرض والتراب لابد أن يكون حر الإرادة ومستقل القرار.. وهذا ما تحقق.

أما حرية المواطن، فقد سعى من أجل صونها وتعزيزها، بدءاً من حرية إرادته السياسية فى إقصاء النظام الفاسد الذى كان يتسلط عليه فى عام حكم المرشد، ومروراً بحرياته الأخرى التى تحميها حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

***

ما أوسع المسافة بين الأحلام التى كانت تحلق بنا مع حديث الجنرال الشاب السيسى قبل عشر سنوات مضت، وبين الواقع الذى نعيشه هذه الأيام فى ظل قيادة الرئيس السيسي.

وفى كل الأحوال.. يبقى الوعي منا جميعا بما جرى وما يجري ويتحقق، هو أيسر السبل لصون الوطن، وأقصر الطرق لبناء الدولة الحديثة الديمقراطية.