جمال الشناوي يكتب: ننتصر..ولن نموت

جمال الشناوي
جمال الشناوي

ليس بالضرورة أن تكون خائنًا قانونًا حتى تخدم أعداء بلادك.. يكفي أن تكون غبياً.

وفي أدبيات علوم المخابرات، أفضل العملاء هو من لا يدرك أنه جاسوس.

منذ سنوات طويلة وتشغلني عقل وعقلية المتطرف والإرهابي والكائن الإخواني، منذ تلك الليلة التي جلست فيها زوجه خفير نظامي أمام المستشفى الجامعي في أسيوط تنتظر خروج جثمان زوجها الذي قتله الإرهابيون في النصف الثاني من التسعينيات، كان سواد الليل يبتلع سواد ملابسها، ورمادية مستقبل أطفالها الثلاثة الذي يبكون، ربما أصغرهم لا يعرف ما يدور حوله.

كانت ليلة قاسية على نفسي، وأنا أتحدث إلى الأطباء ومع فريق النيابة العامة على باب ثلاجة الموتى في أسفل مبنى مستشفى أسيوط الجامعي، لكن أغرب ما لفت انتباهي هو ما سمعته من أحد مساعدي وكيل النيابة، أن ملابس الرجل الذي مات بها خمسة وسبعون قرشاً، كانت لحظة قاسية ووكيل النيابة يستمع إلى أقوال الزوجة، التي تعلق بجلبابها الأسود ثلاثة أطفال.. مات عائلهم الوحيد، ولا أحد غير الله يعرف ماذا يخبئ لهم المستقبل.

ظل هذا المشهد عالقاً في عقلي طيلة هذه السنوات الطويلة، ظللت أبحث وأردد السؤال كيف يصل المتطرف إلى هذا المرحلة من الوحشية أو غياب الضمير، والاعتياد على الظلم والبطش مع كل من يخالفهم، لم أعرف عن ديني أنه يبيح القتل، لكل من أباح لنفسه سلطة إزهاق الأرواح لأنه يرى أو يريد ذلك.

قال لي أحدهم مرة أن الإخواني، يتنازل عن عقله وهو يقدم البيعة على عتبات المرشد، والحقيقة أن هناك أسباباً علمية للتطرف ليس من بينها النشأة والفقر، أو حتى فقدان حرية التعبير، كما أوهمنا الغرب لعقود طويلة، والغرب بارع في تبرير ما يريد ويمكنه إقناعك أن شمس أغسطس، ترسل ثلوجاً على الأرض بدلاً من أشعتها الحارقة.

ولكن عندما طال الإرهاب تلك الدول سقطت عنهم ثياب الواعظين، وهرعوا إلى معامل البحث العلمي، واكتشفوا حقائق مذهلة، أتمنى أن يكون لدينا مسئولون عن الثقافة والتعليم يبادرون إلى ضمها إلى مناهج البحث لنحصن الأجيال القادمة من هذا الفيروس القاتل.

أشعة الرنين المغناطيسي على "مخ" المتطرف أو المؤيدين لهم كشفت عن خمول لإحدى مناطق الفص الأمامي للمخ - كما يقول الدكتور محمد طه أستاذ الطب النفسي- وهي المنطقة المسئولة عن التداول المنطقي للأفكار وعن حسابات الفائدة في مقابل الخطورة. وكشفت الأشعة أيضاً وجود نشاط زائد في منطقة أخرى بالفص الأمامي بالمخ، مسئولة عن وضع التقييم للأشياء من وجهة نظر المتطرف، تلك الأجزاء من المخ تعمل باختيار الشخص وبارتباط وتناسق أثناء عملية اتخاذ القرار.

رجعت إلى الدراسات الخاصة بعقلية المتطرف، وشغلتني وأنا أتابع ردود أفعال عصابات الإخوان الأتراك على توقيع مصر واليونان اتفاق تعيين الحدود البحرية، بعد مفاوضات دامت أربع سنوات، ورغم الصداقة القديمة بين مصر واليونان إلا أن الخلاف حول بعض النقاط كان قائماً، حتى تم التغلب عليه تفاوضاً، ويبدو أن رغبة اليونان في حسم هذا الملف جعلها تتراجع عن بعض نقاط الخلاف.. وتتوافق مع مصر، وفي المؤتمر الصحفي وقبل خروج الوثائق، اندلعت حرائق في عقول إخوان تركيا، وكالوا اتهامات لمصر بأنها تنازلت وفرطت في مساحات كبيرة من مياهها الاقتصادية، والأغرب أنهم قالوا إن تلك المنطقة بالذات "التي تنازلت عنها مصر في عقولهم " تعوم على بحيرات من الذهب والغاز ووو"

لم يفاجئني أن يكون هناك من  تألم  لتوقيع الاتفاقية، التي أفقدته توازنه ومستقبله ومساحات شاسعة من المياه التي يقول إنها تابعة له، لكن أن تسير قطعان من الخراف الآدمية، تردد، وتقسم بأغلظ الأيمان بأن مصر فرطت، ولم يسمعوا حتى لأصوات المعارضة اليونانية التي اتهمت حكومتها بالتناول عن 7% من مياهها الاقتصادية لمصر حتى توقع على تعيين الحدود البحرية.

نعم المعارضة اليونانية لم تكن سعيدة بما تراه تنازلا، وقالت أن حكومة أثينا، قبلت كل الطلبات المصرية، وتراجعت عن كل الإعتراضات السابقه من أجل توقيع الاتفاقية بين البلدين..ورغم ذلك ظل القطيع الذي شل عقله بإرادته يهاجم الاتفاق.

استماتتهم في ترديد الأكاذيب، وروايات نبت خيالهم فقط، وحتى بعد خروج أصوات في تركيا تقول أن اليونان تساهلت كثيرا في الاتفاق مع مصر، حتى تطبق الخناق على أنقره، خاصة في حرب ستشتعل خلال أي لحظة على مدى  السنوات الثلاث المقبلة.

خلاصة القول، الإخواني الإرهابي ليس مريضا، يستحق العلاج، بل هو شخص يعطل مراكز الإدراك لديه متعمدا، حتى يرى نفسه الأفضل ويقتات على أوهام في عقله وسواد في قلبه، يجعله عنصراً فاسداً في المجتمع، وأظنني محقاً في القول أن مصر التي عادت من جديد إلى التأثير والفعل في الإقليم، عليها وضع خطوات لقطع الطريق على هذا الورم السرطاني بين الناس.. وأظنه دوراً غير مكتمل للدولة والشعب.

لا أعرف دوراً على الأرض للخبراء والباحثين الذي انضموا إلى مجلس مكافحة الإرهاب سوى إلقاء المسئولية كاملة على  المواجهة الأمنية وهي أساسية لإنقاذ الحاضر، ولكن ماذا عن تأمين المستقبل الذي نخطو إليه بخطوات جبارة؟.

يقول الطيب صالح، الأديب السوداني العبقري: "الذي باع وخان وطنه، مثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه سامحه، ولا اللص يكافئه".. وهي مقولة تنطبق تمام على الكائن الإخواني الإرهابي، فهو يري الوطن حفنه من تراب، لا تستحق عناء الدفاع عنها، وعليه فهو يخون عن اقتناع، ويبيع وطنه عن عقيدة.. فلا أمل في إصلاح سوى بفرض القانون لحماية الحاضر، وتحصين عقول الأجيال المقبلة عبر ثورة في المناهج التعليمية والثقافية، وإذا لم نجد يمكننا أن نعود وننهل من إنتاج ثقافي وأدبي وتعليمي كبير في مواجهات كبار المفكرين المصريين كـ"العقاد وطه حسين" وغيرهما في المواجهة مع أهل الظلام.

كثيراً ما نبه الرئيس السيسي إلى تلك القضية منذ- وحتى قبل- دخوله إلى قصر الحكم محمولاً على أكتاف الوعي الفطري للمصريين في عام 2014، فمصر المقبلة على حقبة جديدة من العمل السياسي الخارجي، وتنطلق بسرعة على مقياس التنمية والنمو، تحتاج الآن وفورا إلى عمل جاد يحمي المستقبل، ويفتح آفاقاً لمستقبل آمن.

يا سادة الوقت يمر، فمن يتصور أن الكائن الرومانسي الذي اخترع الثورات الملونة التي نجحت في تفكيك شرق أوروبا، وأعقبها بثورات الياسمين والربيع في عالمنا العربي، سيتوقف عن إتمام عمله، هو واهم  والمرحلة المقبلة ستكون مصر في قلب اللعبة فهي التي أفلتت من التفكيك.

ولا يجب علينا أن ننسى أنهم يرون في دمارنا مصلحة لهم ولأصحابهم، ولن يتوقفوا.. فهل نتوقف نحن عن النوم في العسل.