وُلِدْتُ مَرَّةً أُخْرَى!

ابداع
ابداع

عبد الرحيم طايع

أوَّل ما شربتُ السَّجائرَ
كانت لها نكهةٌ عبقريَّة
وكنتُ أغلقُ على الدُّخَانِ ثَانِيَتَيْنِ
ليملأ رِئَتَيَّ بالأملِ والسُّرُور
وأوَّل ما جرَّبتُ الجِعَةَ
كان مذاقُها مدهشًا
والمزيدُ منها كان يدخلني
في نشوةٍ كحلقةِ ذِكْر
وأوَّل ما أكلتُ المَنْجَةَ بقشرها
كنتُ أتحوَّل إلى طفلٍ نبيه
يُنْشِئُ النَّفائسَ من بقايا الأوراق!
>>
في بدايتي كنتُ أميِّز الأشياء
بروائحها
كلُّ شيءٍ له رائحتُهُ الخاصَّة
حتَّى صرتُ لا أجدُ رائحةً لشيء
أعني أجدُ رائحةً واحدةً لكلِّ الأشياء
بدأتُ أشكُّ في حاسَّة الشَّمِّ لديَّ
إلى أن قالت لي زوجتي،
من تِلْقَاءِ نَفْسِهَا، مَرَّة:
هل تُحِسُّ، مِثْلَمَا أُحِسُّ،
أنَّ الأشياءَ كلَّها صارت تستخدمُ
عِطْرًا واحدًا لا ينعشُ الرُّوح؟!
>>
بالأمسِ فكَّرتُ في شراءِ حذاءٍ جديد
(لي خمسُ سنواتٍ لم أشترِ واحدًا)
ذهبتُ إلى مَحَلِّ الأحذية
فوجدتُها اختلفت عن السَّابق
ونَدِمْتُ على عدم المتابعة
لم يرقني حذاءٌ من المعروض
في الفتارين
لكنَّني اضْطَرَرَتُ إلى الرُّجُوعِ
بواحدٍ أعجبني نِصْفَ إعجاب
لَبِسْتُهُ وضربتُ به الأرضَ
لم أشعر بثقتي الماضيةِ نَفْسِهَا
قال لي حذائي القديمُ: «ما تعرفهُ
أحسنُ ممَّا لا تعرفهُ» يا صديقي..
ضحكتُ قائلًا بسخرية: كأنَّك
أصبحتَ تعملُ في السِّياسة، من وراءِ
ظهري، يا أيُّها الكَلْبُ الأَجْرَبُ!
..
عندي مشكلةٌ حقيقيةٌ في السَّكن
أكره «الألوميتال»
وأحنُّ إلى الخشب حنينًا عظيما
أكره البلاطة الكبيرة الفخمة
وأشتاق إلى الصَّغيرة العاديَّة
وفي الحمَّامات التي هي أسرارٌ في أسرار
لا أحبُّ السَّتائر التي تواري المُسْتَحِمَّ
وتسمح للآخرين بالدُّخول عليه
بينما ماءُ الدُّشِّ لم يزل مفتوحا
أمَّا عن المطابخِ، وأنا أُصَنِّفُهَا
تَصْنِيفَ الشَّهَوَاتِ الجَسَدَانِيَّةِ،
فلا أحبُّ الغاز المعاصر
الذي يسمُّونه طَبِيعِيًّا
ويُجْرُونَهُ في مَجَارِيهِ بتعميمٍ قهريٍّ
بل الأُنْبُوبَةَ التَّقليديَّةَ
.. هكذا أنا مقيمٌ في الشَّارع
حتَّى لو كنتُ مقيمًا في شُقَّةٍ على النِّيلِ
تسترني حيطانها الأربعة غاليةُ الثَّمن!
>>
إلى عِدَّةِ أعوامٍ مرَّت، كنتُ متمسِّكًا
بزمني، ولا أقبلُ الأزمنة اللَّاحقة
حين ينتهي عامٌ كنتُ أبكي مَدَدَهُ
وأرثُو حَالِيَ المستقبليَّ
غير أنَّنِي تأمَّلتُ الشَّمسَ ذات صباح
والقمرَ ذات مساء
    تأملتُّهما كما لم أَتأَمَّلْهُمَا من قبلُ؛
فقرأتُ في صورتيهما الثَّابتتين
شِعْرًا مُمِلًّا كأنَّهُ المُعَلَّقَاتُ السَّبعُ
اكتشفتُ حِينَهَا أنَّنِي لم أعد أميلُ
إلى المُعَلَّقَاتِ السَّبعِ
أطفأت وجداني قبل أن تُطْفِئَهُ
نَمَطِيَّةُ الشَّمس والقمر..
من يومها، وأنا مُتَصَالِحٌ مع الحياةِ
أستمتع بِمَذَاقِ السَّجائرِ والجِعَةِ
وأتحوَّل إلى صَغِيرٍ ذكيٍّ
يصنعُ المعجزات
ما دامتْ في قبضتي
ثَمَرَةُ المَنْجُو بِعَبَلِهَا
وأشُمُّ عطورًا مُنَوَّعةً للأشياء
من الجميلِ شُعُورِي بأنَّها صادقة
وأَلْبَسُ حذائي على قاعدةِ
الموضةِ راضيًا
وأسكن شُقَّةً يُجَلِّلُنِي بالفخرِ
نظامُها الحديثُ
ومُتَشَوِّفٌ أخبارَ الآتي
كأنَّني وُلِدْتُ مَرَّةً أُخْرَى!