لمن التهاني؟

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

بقلم : ميخائيل نعيمة

للروزنامة على الناس سلطان لا يُعانَد، تفرض الروزنامة على سكان المعمورة أن يطووا عاماً وينشروا عاماً، وتفرض العادات والتقاليد أن يستقبلوا العام الجديد بالكثير من الهرج والمرج، وبالتهانى المعسولة، والتمنيات الطيبة، مشفوعة بالهدايا، يتبادلها الأهل والأصدقاء، لا فرق بين كبير وصغير، أو غنى وفقير، فالكلّ يعطى على قدر طاقته، حتى ليخيّل إليك أن الناس فى هِلّة العام الجديد هم غير الناس فى محاق العام الذى قبله، فكأنّهم على موعد مع الخير والرأفة والحريّة والمحبّة، وفى سباق إلى ذلك الموعد، أو كأنّهم بقلوبهم وأفكارهم وأجسادهم خارجون من حمّام وقد تركوا فيه جميع أقذارهم وأدرانهم، فانطلقوا فى عالم الله الفسيح، لا يحملون وزراً ولا يشكون عسراً، إلّا أن العام الجديد لا يكاد يغفو ليلته الأولى ثمّ يستيقظ فى صباحه الأول على الأرض حتى يرى الناسَ قد انصرفوا عنه إلى شؤونهم وهمومهم، فكأنّه عندهم أقدم من الأزل، وكأنّهم ما تبدّل فيهم شيء، وكأنّ سائر الأوزار التى ظنّوا أنّهم قد تطهّروا منها أمس عادت فلبستهم فى الصباح، فهموم تزحم هموماً، ومشكلات تتراكم فوق مشكلات، فلمن أقدّم تهانئى ؟ أأقول للذّين تتأكّلهم الأمراض وترهقهم العاهات فى طول الأرض وعرضها، وللّذين فى السجون وبيوت المجانين، والّذين قذفتهم بشاعة البشر من دورهم وديارهم فباتوا مشرَّدين منبوذين منسيين، أأقول لهؤلاء : كلّ عام وأنتم بخير؟

أم أقول للّذين يكافحون البرد بالأسمال، والجوع بالصوم، والجَور بالاستكانة، وهم يُعَدّون بالملايين، وللّذين يعملون كالمناجذ فى ظلمات الأرض، أو يحملون أرواحهم على أكفّهم فى أعالى الجوّ وأعماق البحار، وهم يُعَدّون بالملايين كذلك ــ أأقول لهم : عاماً سعيداً ؟ أم أقول للذين غار النور فى أحداقهم، أو طار السمع من آذانهم، أو اختنق الصوت فى حناجرهم، وللّذين ينادون : (يا أبي) ويا (أمي) وليس من مجيب، وللذّين لهم أرجل ولا يستطيعون المشى، وأيدٍ ولا يتمكنون من أى عمل ــ أأقول لهم : ليهنئكم عامكم الجديد ؟

أم أهنئ الذين باسم الله يضلّلون عباد الله، فيزرعون الكره حيث كان عليهم أن يزرعوا المحبّة، والذين باسم المعرفة يبيعون جهلهم بالمثقال، وهكذا يقتلون المعرفة باستغلالهم شوق الناس إليها، والذين باسم العدل والحريّة، يمسخون العدل، ويذبحون الحريّة فى كلّ ساعة ؟ ولمن عسانى أسوق التهانى فى عالم ضاع إنسانه فى معترك النكايات، وتحطّم ميزانه فى خضمّ المكر والنميمة، وتهشّم جسمه بأظافر الجشع والطمع، وانهدّ إيمانه بنفسه، وانطمست معالم طريقه فلا هو يدرى لماذا يسير ؟ وكيف نركن للعالم يقذفنا ليل نهار، وبغير انقطاع، بقذائف جهنمية من الدعاوات التى صِدقها كذب، وحقّها باطل، وجمالها بشاعة، وحريّتها عبودية، وسلمها حرب، وجودها شحّ، وإخاؤها رياء، وحُبّها بغض ؟ وحَسْبها دماراً، إذا هى لم تلتهم الأرض بنارها، أن تلتهم بقايا الجمال والحقّ والإيمان بالإنسان فى قلوب سكان الأرض، وأن تفسد خميرة الخير فى نفوس الأجيال الناشئة منهم.

إن عالماً يؤمن بأن البغض أشهى ثماراً من المحبة، وأن الكذب أسهل وأقوَم طريقاً إلى الراحة من الصّدق، وأن السلم لا يُحفَظ إلّا بالمدفع، والحقّ لا يصان بغير الظفر والناب، وأن العدل ينبع من القانون، والقانون لا يكون إلّا بمشيئة الأكثرية، وإن تكن فى منتهى الجهل والغباوة، وأن الأمن والسلام ممكنان فى الأرض ما دام فيها متخمون وجياع، وعبيد أحرار، ومُترَفون ومُعدَمون ــ إن عالماً ذلك شأنه لعالم أحرى بالتعازى منه بالتهانى.

إلّا أنّنى، لن أيأس من الإنسان، ففى داخله نور خفى لا ينطفئ، النور هو الكفيل بأن يخرج به فى النهاية من برية التيه، ولست أحفل بالأعوام تطلّ عليه عابسة، أو باسمة. فهذا الكائن العجيب الذى لا يعلم إلّا الله وحده كم استقبل وكم ودّع من أعوام منذ أن استوطن الأرض، لن تهوله عبسة عام، ولن تستخفّه بسمة عام، فهو ماضٍ فى سبيله الطويل، وهدفه أن يجعل من الزمان مطيّة إلى معرفة ذاته التى هى من الله، وأن ينعم بكلّ ما فى تلك الذات من قدرة على الخلق والإبداع، ومن يراهم أعداء له فهم من لحمه ودمه، وشركاؤه فى الأرض، والعون الأكبر له فى صراعه مع كلّ قوّة فيها تعاند قوّته، وإلى الذين يحاربون آفات الإنسان حبّاً بالإنسان،واعترافاً بحقّه فى الحياة والحريّة، أقول : ليكن عامكم عام انتصار تلو انتصار.

من كتاب : مقالات متفرقة