أوراق شخصية

نجيب محفوظ الرقيب الصارم!

آمال عثمان
آمال عثمان

ظل الأديب الراحل نجيب محفوظ محط اهتمام النقاد بمختلف توجهاتهم ومشاربهم، مستأثراً بمعظم الكتابات النقدية التى تناولت كبار الأدباء، بل إن ما كُتب عنه يفوق ما تناولته الأقلام عنهم مجتمعين، سواء كان نقداً لصالحه أو ضده، مدحاً أو هجوماً، ثناءً أو هجاءً.

 

  ومازال الكتَّاب والنقاد والباحثون ينهلون من هذا المعين الذى لا ينضب، يتناولون حياته ورواياته، سيناريوهاته وأفلامه، المناصب التى تقلدها، بل إن الانضباط الشديد الذى يعد الجانب الأكثر وضوحاً فى شخصيته، كان له نصيب كبير من الكتابات، حتى إن الكاتب الساخر محمد عفيفى أحد مؤسسى «شلة الحرافيش»، سطر مقالاً يحمل عنوان «نجيب محفوظ رجل الساعة»، تضبط الساعة على مواعيد خروجه وعودته، يكتب فى ساعة محددة، ينظر فى ساعته قبل أن يدخن كل سيجارة، يلتقى أصدقاءه فى مواعيد ثابتة.

 

 

وهذا الكاتب شديد الانضباط والالتزام، والأديب المتفرد فى جرأته الإبداعية، وبراعته لفن الرواية العربية، هو ذاته الشخص الضاحك المتواضع الساخر، المتمتع بروح الطرفة والفكاهة، والإنسان الأكثر تسامحاً وتصالحاً مع ذاته والآخرين، وهو أيضاً الرقيب الصارم الذى تولى منصب مدير رقابة السينما والمسرح والأغانى عام 1959، وقرر فى الأسبوع نفسه أن يمتنع عن كتابة سيناريو لأى شركة إنتاج سينمائي، لكى ينأى بنفسه عن الشبهات، وكان ذلك القرار بمثابة تضحيةٍ جسيمة، ودرسٍ رائع لمن يتحتم عليهم احترام مناصبهم، لينأوا بها وبأنفسهم عن مواطن الشبهات، ولكن على الجانب الآخر كان لقبول نجيب محفوظ منصب الرقيب، دلالات غير إيجابية، أصابت المثقفين والفنانين بحالة من الصدمة.

 

فكيف للأديب صاحب الإبداعات الملهمة، أن يترك القلم ليمسك بمقص الرقيب، تدخلاً فى إبداع غيره، حذفاً وتعديلاً وتبديلاً، وأيضاً رفضاً! فتح الزميل طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب السابق، ذلك الملف الرقابى الشائك فى حياة أديب نوبل، ليرصد بالمستندات وصور التقارير الرقابية، المعارك الفنية والمواقف والرؤى التى حكمت نظرته للأفلام ولقراراته، وتضمن الملف دفاع الأديب الكبير عن وجهة نظره بعد يومين من تسلمه العمل، وسعادته الكبيرة بالمنصب، والرسالة التى بعث بها إلى كتَّاب السيناريو، يعدهم فيها بأن يكون زميلاً يقدر جهودهم ويمنحهم حقوقهم، ورؤيته للرقيب بأنه مواطن صالح يتميز باتزان العقل والذوق والنزاهة. خاض الزميل طارق الطاهر رحلة بحث فى دروب وعرة، واستطاع أن يضع يده على ملامح وتفاصيل الجانب الخفى من حياة «نجيب محفوظ الرقيب الصارم»، فاستحق «جائزة الصحافة العربية»، تلك الجائزة المشهود بنزاهتها، والتى يطمح بالفوز بها كل صحفي، مبروك للزميل العزيز ابن أخبار اليوم، الدار العريقة التى لم نعش فيها.. وإنما المدرسة الصحفية التى ستظل تعيش فينا!.