«المنفى».. فيلم يجيب على السؤال الصعب.. العنصرية  خيال أم واقع 

خالد محمود
خالد محمود

كتب: خالد محمود

من جديد يعيد الينا المخرج الكوسوفي فيسار مورينا عبر فيلمه "المنفى"،  قضية العنصرية وظلالها ومظاهرها الخبيثة ومدى قبول الآخر فى أوروبا ، وكيف يشعر المرء بغربة رغم اجتهاده وعيشه فى سكينة.

فى الفيلم الذى عرض بمهرجان القاهرة السينمائي وبرلين ومرشح للمنافسة على اوسكار افضل فيلم اجنبى، نرى  زهافر  "ميسل ماتكيفيك " مهندس كيميائي البانى  من أصل كوسوفو ينتمى الى الطبقة المتوسطة في منتصف العمر، وهو يعمل فى شركة للادوية  بالمانيا، يشعر بالتمييز والتخويف في العمل ، مما يغرقه في أزمة هوية متصاعدة. كل حدث وكل كلمة وكل إيماءة تؤخذ كدليل على تلك المعضلة.. هل يكرهه زملاؤه ببساطة؟ أم أن هناك المزيد من عدائهم الخفى ؟ ثم هل كل هذا مجرد خيال في عقله أم حقيقة واقعة؟ وهو ما يدفعة الى ازمة.

يحاول  بطل القصة إيجاد  علاج لفيروس  متعدد المقاومة وهو الكراهية التي تفسد روحك وتسمم عقلك - بينما يبدو أن الزملاء في "فريقه" يحاولون افساد احلامه عبر إرسال رسائل البريد الإلكتروني المزعجة  ، وتأخير نتائج المختبر ، وتغيير مواعيد وغرف الاجتماعات ، وعندم  ارسال المعلومات التي يحتاجها لأداء وظيفته كنموزج مثالى للكراهية .بينما تكافح زوجته نورا " ساندرا هولر " مع ثلاثة أطفال صغار ، وهى تعمل على الدكتوراه الخاصة بها.
من أول لحظة صامتة ندخل عالمًا غير عادي من المشاهد والأصوات ، التى تهيئ   لحياة عائلة زهافر   ، التي سرعان ما تنزعج من الأحداث ويجد نفسه في لعبة القط والفأر ، ليشعر بوجود مشكلة ، فهناك مضايقات  ، وسخرية ، و تمييز ، وعنصرية. 

ونراه يتحدث إلى زوجته عن الطريقة التي يعامل بها بشكل مختلف ، ويقلل من تقديره من قبل زملائه الذين يطلبون منه أحيانًا تكرار اسمه الأخير مرارًا وتكرارًا ، ويتركون له  فئرانًا فى  صندوق بريد العائلة. 

طوال الفيلم لا يغفل مخرجنا وكاتب السيناريو مورينا الواقع عن الصورة الكبيرة، حيث نرى كيف ينصح رئيس كافير "لا تفقد النظرة العامة في مواجهة الشدائد".

أسلوب مورينا يبحر بنا بين  الواقعية والسريالية ، إنه لا يتساهل مع شخصياته ، نصه  الذي كتب بعد وصول الموجة الهائلة من اللاجئين إلى أوروبا وتحول الترحيب الى رفض ، تم صياغته بشكل يعكس  الكراهية،  انعدام الأمن ، الشك ، عدم الثقة ، الغيرة ، الإحباط ، الاستسلام، وقد صور الشخصية المحورية بلقطات مقربة حيث يحاول بطل الرواية يائسًا ضبط هذا العالم المعادى ويضع المشاهد في مكان ضيق محكوم بعالمه مع كل لقطة ،  وهو يحاول كشف لغز القضية  للفيلم بالتفكير فى الماضي ، والأب ، والمنزل (الذي بدأ يفكر فيه على أنه كوسوفو مرة أخرى).

وفى مشهد آخر يلقى بظلاله على علاقته بزوجته عقب إحساسه بالتهميش في العمل ، حيث تتخيل نورا أنه قد يكون مبالغًا فيما يواجهه من الأحداث ، حيث تقول له انه ليس عليه ارضائها ، ويقول. "هل تخبرينى  أنني يجب أن أكون سعيدًا لأنني أعاني من صداع فقط ، بينما يعاني الآخرون من السرطان؟" (هناك استعارة الكراهية مثل المرض مرة أخرى.) 

تعتمد الطريقة التي تفسر بها الحبكة على كيفية رؤيتك للعالم  ، فى تلك القصة الرمزية الرائعة لكيفية إدراكنا للتمييز أو عدم إدراكه وهنا يمكن ان نتسائل :هل هذا فيلم عن التمييز العنصري أو فيلم عن جنون الاحساس بالعظمة الزاحف لدى الالمان  ، كما تلمح الزوجة عندما لا تستطيع أخيرًا تحمل الضغط المتزايد  وتنفجر بكل سخطها المكبوت. 

ويترك المخرج الفيلم نهايته مفتوحة  على مصراعيها ، فالقصة لا تنتهي أبدا، حيث نشعر دوما بعدم ارتياح الشخصيات فى عالم الاغتراب ،ويضع الفيلم هذه المشاعر تحت المجهر ، ويحول كل تلك اللحظات من الجلوس مع أفكارك وعدم اليقين بشأن ما يحدث بالفعل إلى قلق شديد

قدم الممثل المخضرم ميسل ماتكفيك  ، دورا مميزا وملئ بالانفعالات النفسية ، وكان  حاضر بالكامل في كل مشهد تقريبًا ، وكان هو المناسب للدور كونه له جذور اجنبية وكذلك الطريقة التى يتحدث بها الالمانية . بينما كشف العمل تفرد  الأداء للمتميزة ساندرا هولر فى وهى تجسد الامومة غير العادية ما بين القوة والضعف فى مواجهة عواصف العائلة ، والوصول الى اعماق مثيرة للاهتمام ، ليشكل الثنائي تحفة فنية تستحق المشاهدة ، ونذكر هنا واحد من المشاهد الموحية ، عندما قالت " ماذا تفعل؟" تسأل زوجها. يقول ما هو واضح: "أنا أستحم". كلماتها الثلاث التالية ، "تعال إلى الفراش" ، يتم تسليمها بشكل غامض لدرجة أنه لا يمكن لزوجها ولا المشاهد أن يقرر ما إذا كان المقصود بذلك إغواءً أم أمرًا، فى علاقة مرتعشة

دون شك في فيلمه الطويل الثاني ، نجح المخرج فيسار مورينا الذى فر الى المانيا مع عائلته عندما كان فى الخامسة عشر من عمره ، اثناء حكم ميلوسيفيتش الرهيب فى كوسوفو ، فى شرح الآثار النفسية للإقصاء الاجتماعي ويعرضها هنا على أنها تفاعل بين الانتماء والاغتراب. جمع مورينا بين الصور الخفية التي تتغير تدريجيًا وفقًا لحالة بطل الرواية  لوصف أهمية الشخصية عندما يتعلق الأمر بالاندماج في مجتمع آخر ، ومدى سرعة حدوث التشققات في البنية الثابتة المفترض أنها الهوية فيسار مورينا عمل في العديد من المشاريع السينمائية والمسرحية ، بعد عدد من الأفلام القصيرة ، ظهر لأول مرة في عام 2014 مع Babai الذي فاز بعدد من الجوائز وتم اختياره لدخول كوسوفو لأفضل فيلم بلغة أجنبية في حفل توزيع جوائز الأوسكار. في عام 2018 ويقول " نحن البشر نتعلم فقط من الالم والمعاناة".