مذكرات الطفولة المفقودة

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كتب: محمد شعير

 

لم يحرق محفوظ كراسته التى تحوى قصة حياته، أو بالأحرى قصة طفولته، ربما أراد أن يهرب من الإلحاح، وأراد أيضا ألا يجدد النقاش حول واقعة سرقة تعرض لها من أحد أقاربه

فى عام 1963 خصصت مجلة «الكاتب» عددًا عن نجيب محفوظ، تضمن حوارًا مطولًا أجراه معه فؤاد دواره الذى سأله عن بداياته فى عالم الكتابة، أجاب محفوظ: «حين قرأت الأيام لطه حسين ألفت كراسة أو كتاباً كما كنت أسميها وقتذاك أسميتها «الأعوام».. ورويت فيها قصة حياتى على طريقة طه حسين».
سأله دواره: «أما زلت محتفظاً بهذه الكراسة إلى اليوم؟»
أجاب محفوظ: «نعم، موجودة وإن كنت أحتاج إلى نبش كثير حتى أعثر عليها».
فطلب منه دواره أن يحتفظ بها: «سنحتاجها بلا ريب حينما ندرس أدبك الدراسة العلمية الواجبة»
بعد سنوات قال محفوظ لرجاء النقاش: «فى سنوات الدراسة الابتدائية قرأت لكبار الأدباء وحاولت تقليد أساليبهم، حاولت تقليد أسلوب المنفلوطى فى «النظرات والعبرات»، وحاولت كتابة قصة حياتى على غرار «الأيام» لطه حسين وأسميتها «الأعوام» .
وقال فى كتاب «أساتذتى» لإبراهيم عبد العزيز: «لا شك أننى قرأت الأيام لطه حسين بمتعة لا مزيد عليها، وأنا لا أزال أتمرن على الكتابة، ولعلنى كنت فى أوائل المرحلة الثانوية، فحاولت تقليدها فى كراسة أو كشكول وأسميتها «الأعوام» على نفس الوزن، محاولاً أن أقلد نفس الأسلوب ونفس الطريقة، وأحكى فيها عن نشأتى كما حكى طه حسين».
كما حكى محفوظ فى جلسات الحرافيش الخاصة أنه حينما قرأ الأيام كتب لنفسه شيئا شبيها بها. وقد بلغ به الاندماج أنه ذكر عن نفسه «أشياء لم تحدث أو لا يمكن أن تحدث، مثل أنه ذهب للكتاب فى القرية، وأنه كان يتحسس الأشياء» وكأنه يقلد طه حسين فى محنته.
هكذا تحدث نجيب محفوظ، مرات عديدة، وفى فترات زمنية متباعدة عن كراسته التى تحتاج إلى نبش كثير، وقد حاول بعض الصحافيين الحصول عليها فى سنوات محفوظ الأخيرة، ولكن محفوظ أراد أن يغلق باب السؤال وأجاب بعصبية: «حرقتها»
لم يحرق محفوظ كراسته التى تحوى قصة حياته، أو بالأحرى قصة طفولته، ربما أراد أن يهرب من الإلحاح، وأراد أيضا ألا يجدد النقاش حول واقعة سرقة تعرض لها من أحد أقاربه. واقعة السرقة حكاه محفوظ تفصيليا لرجاء النقاش: «عندما ماتت والدتى حدثت فى بيتنا سرقة أهلية، حيث جاء أولاد أختى وأخذوا كثيرا من الأوراق والأشياء الشخصية، ومن بينها صور خاصة بى»
ظلت المسروقات سنين طويلة فى مصر، ولكن بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل خرج بعضها إلى إحدى الدول العربية، وبعد رحيله، خرج جزء آخر إلى نيويورك، عبر فنانة تشكيلية أمريكية أقامت فى القاهرة لسنوات، وكانت تجمع مخطوطات وأوراق عدد كبير من الأدباء المصريين من بينهم محفوظ لصالح إحدى مكتبات الكتب النادرة فى نيويورك. قد عرضت المكتبة بعض ما استطاعت الحصول عليه من أوراق ومخطوطات للبيع فى إحد المزادات الشهيرة بلندن، ولكن الأسرة أوقفت المزاد، لعدم الحصول على موافقته الورثة الأصليين أبناء محفوظ. وهكذا تنقلت الأوراق بين قارات مختلفة، قبل أن تستقر عند أحد هواه جمع المخطوطات فى إحدى الدول العربية (وهو ما أخبرنا به أحد الأفراد الذين شاركوا فى جمع المخطوطات).
>>>
كنت قد بدأت رحلة تتبع مسار الأوراق، ولم يكن هناك صعوبة فى الاتصال بكافة الأطراف التى ارتبطت بمزاد لندن من أجل الحصول على نسخة من رسالة الماجستير التى كان محفوظ قد بدأ فيها بعد تخرجه من قسم الفلسفة جامعة القاهرة 1934 تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، لكنه لم يستكملها وكانت ابنته أم كلثوم قد قالت إنها ربما تكون ضمن الأوراق التى خرجت من العباسية، وبعد فترة طويلة من الاتصالات والرسائل الإلكترونية المتبادلة مع بعض الشخصيات التى ارتبطت بمزاد لندن، وجدت ذات صباح على بريدى الإلكترونى ما يقرب من 500 صفحة تخص نجيب محفوظ. رغم أن رسالة الماجستير التى أبحث عنها لم تكن من ضمن الأوراق، لكن وجدت أمامى كنزا حقيقيا يخص صاحب نوبل: مخطوطات أعمال حديثة نشرت من قبل، ومعروفة، مثل صفحات من مخطوط «أحلام فترة النقاهة»، و«الأغانى».. وبعض القصص القصيرة وهى أعمال نشرتها مجلة «نصف الدنيا» طوال ما يقرب من عشرين عاما، ولكن الأهم ما لم يكن قد نشر من قبل: رواية كاملة تبدو وكأنها بروفة أولى لثلاثية محفوظ، أوراق رسمية، كراسات يسجل فيها الكثير من أفكاره حول الفلسفة الإسلامية مع مختارات من بعض كتبها الشهيرة، وقصص قصيرة من البدايات. وكانت المفاجأة الكبرى التى استغرقتنى تماما، مخطوط مذكرات طفولته التى أشار إليها كثيرا: «الأعوام».
>>>
لم يؤرخ محفوظ نصه، تحدث مرات أنه كتبه فى نهاية المرحلة الابتدائية، لكن يبدو هذا الكلام ليس دقيقا إذ تخرج من «الابتدائية» عام 1925 أى قبل أن يكتب طه حسين نصه، وتحدث مرات أخرى أنه كتبه فى المرحلة الثانوية، بدون أن يحدد عاما محددا، لكن الأوراق تكشف أن تاريخ كتابتها يرجع إلى عام 1929، وهو العام الذى صدرت فيه أيام طه حسين ككتاب، بسبب تشابه نوع الورق الفولوسكاب المسطر، والقلم المستخدم فى الكتابة مع نص آخر، كان مخطوطه الأصلى موجودا فى الورق القادم عبر الإيميل، هو «الأساليب» المؤرخ بـ سبتمبر 1929. وقد حدد محفوظ فى كثير من حواراته هذا العام (1929) بداية للدخول إلى عوالم الكتابة .
ولكن بعيدا عن جدل التأريخ، نحن أمام نص استثنائى لمحفوظ. هى المرة الأولى- وربما الأخيرة- التى يكتب فيه نصا صريحا عن حياته، سيرة ذاتية خالصة، ورغم أنه استخدم فى عمله الإبداعى تفاصيل وأحداث ووقائع من حياته، إلا أنها تظل مجرد وقائع فنية يصعب فيها فصل الذاتى عن المتخيل.
استثنائى أيضا، إذ يجمع دارسو السيرة الذاتية على أنها تأتى نتيجة بلوغ صاحبها سن النضج، حيث يستحضر الكاتب مسار حياته، وماضيه، وما جرى له. بينما لم يكن محفوظ قد تجاوز الثامنة عشرة وهو يكتب هذا النص، وقتها كان يغادر عوالم الطفولة، متأملا تلك السنوات القليلة فى عمره، ولم يكن مسلحا بحيل الفن الماكرة التى تحدث عنها فيما بعد فى ثلاثيته، لذا ينقل لنا عبر «الأعوام» نضارة نظرة الطفل تجاه العالم، وبراءته. بالنسبة إليه كل كائن وكل مشهد، وكل حدث حتى وإن كان عاديا فهو مبعث دهشة، كما يبنى انطلاقا من أشياء تافهة عالما من الخوارق.
كيف كانت طفولة محفوظ؟ وكيف انعكست هذه الطفولة على أعماله الأدبية؟
ربما تحمل هذه المذكرات إجابات لبعض هذه الأسئلة. تحمل بذور جنينية لقصص سيكتبها محفوظ مستقبلا، وتحمل مؤشرات وأدلة ومراجع للمنابع الأولى التى شكل منها عالمه الإبداعى. سيصوغ محفوظ، بعد اكتمال الوعى، بعضا من حكايات أعوامه فى كثير من أعماله الروائية والقصصية، ينثرها إبداعا، فنجد تطابقا بين ما يكتبه فى الأعوام عن نفسه وبين الطفل كمال عبد الجواد فى الثلاثية، كلاهما يتابع الثورة من شرفة بيته، معجبا بالجنود الإنجليز، وبما يقدمونه له من طعام وحلوى، عن حكايات القرية التى تسكنها شقيقته ومعاناتها فى الزواج، ونواجه حكايات الجن والعفاريت التى شكلت جزءا من خياله، عن أمه المولعة بالحكى... والخروج للتنزه وزيارة الأولياء، عن شقاوة بلا حدود تتوقف عندما يكون الأب أو الشقيق الأكبر فى البيت.