قضية ورأى

إحداثيات «القوى الناعمة»

د. أحمد عفيفى
د. أحمد عفيفى

تستقر الأمم وتنهض بما لديها من ثروات وممتلكات تحسن استغلالها وتجيد استثمارها فى استدامة التنمية اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً. وتكمن فطنة النظم الحاكمة ورشادتها فى الرصد الصادق والدقيق لإمكانيات المجتمع الحقيقية ووضع خطط بناء القدرات المثلى لاقتناص المكانة اللائقة حاضراً ومستقبلاً.
إن «القوى الناعمة» هى المعين الذى لا ينضب لتوليد الفرص وتكاثرها وتراكم الثروة ونموها. إنها قوى غير «ملموسة» بقدر ما هى «محسوسة»، تسكن فى العديد من المصادر التى تنتمى إلى الشجرة الثقافية الوارفة: العلوم والمعارف- الفنون والآداب- العادات والتقاليد- الأخلاق والقيم- المبادئ والقوانين- الحقوق والواجبات- المعتقدات الدينية والسياسية.
تنم كلمة "قوة" عن السيطرة، الهيمنة، الصلابة، الحدة، والغلظة كالأسلحة (نووية- بيولوجية- كيميائية- تقليدية إلخ..) وتستهدف فرض الذعر والرعب والخوف والتهديد، وتؤدى إلى التدمير والتحطيم والتقتيل. هكذا تستطيع "القوى الخشنة"- على المدى القريب- إنجاز الأهداف بتركيع الضعاف وإسكات الأطراف. أما لفظ "ناعمة" فيعود للرقة واللطف واللين!!، فكيف إذاً يجتمع النقيضان فى مفهوم واحد صكه "جوزيف ناى" وذاع صيته وشاع استخدامه؟؟. تلعب تلك "القوى" الدور الأبرز فى ضمان رهانات طويلة المدى، فهى تدخل- كل لحظة- فى مواجهات وتشتبك فى صراعات تسفر دائماً عن نصيبها الأوفر من الغلبة والتفوق. إنها تستهدف "التأثير" وتتناول نمط التفكير بالتغيير والصورة الذهنية بالتعديل والتبديل، كما تشكل نزعات مقصودة ورؤى مشهودة، وتخلق دوافع مرغوبة وتتبنى أساليب محسوبة للجذب والإقناع، وتتجنب طرق القهر والإخضاع.
تعلمنا "الرياضيات" أن للقوى "إحداثيات" (الزاوية التى تحدد موضع نقطة تتحرك فى دائرة)، فهل "للقوى الناعمة" إحداثيات؟. لنأخذ "العلم" نموذجاً، فما هى إحداثياته؟، يبلغ "العلم" أقصى مداه (زاوية حركته داخل الدائرة المحلية ومن ثم العالمية) عندما يصنع العقل ويمنعه من التجريف ويصقل الفكر ويحميه من التصحر، ويرتقى بالمجتمع إلى المستوى الأمثل ويرفعه من حيز "المعاناة" إلى أفق "الرفاة". وكذلك "الفن"-الذى له فعل السحر- فإحداثياته أوسع وأشمل زماناً ومكاناً، يهذب النفس ويسمو بالروح ويصيغ الوجدان ويحفظ الإنسان من الانزلاق نحو العنف والتطرف.
لقد صنعت "السينما" وأفلامها شهرة "أمريكا" وسمعتها وقدمتها للعالم أرضاً للأحلام والطموحات والآمال، حيث وعت- منذ الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتى فيما بعد- أهمية إحداثيات "القوى الناعمة" وغيرت خطاب الهيمنة "الصلبة" إلى السيطرة"اللينة".
وأحسب أن "مصر" تدرك جيدا مخزونها الغزير من موارد قواها "الناعمة" الضاربة فى عمق التاريخ، ووجوب تلازم تأثيرها مع فاعلية "القوى الحادة" للدخول بحسم فى إعادة هندسة العالم الذى تزداد تحدياته وتقلباته يوماً بعد يوم، مما يتطلب الاستيعاب التام لمصطلح "القوى الذكية" التى تنظم بإحكام إحداثيات القوى بنوعيها: "الصلبة" و"الناعمة".
> أستاذ بكلية العلوم - جامعة القاهرة