جمال الغيطاني في رواية صربية

جمال الغيطانى
جمال الغيطانى

فلاديسلاف بايتس
ترجمة: تسبيح عادل عبد السميع

ربما كنتُ فى بعض الأحيان أجد المبررات لتفاخري بنجاحي فى ربط الأشياء التي لم ينجح أحد فى إيجاد صلة بينها بكل براعة وفن. لكن بالدرجة نفسها من التبرير، كنتُ أيضًا أنتقد نفسي وأحاسبها بحدة عندما أتغاضى عن فهمي لأي صلةٍ أراها واضحة.


واحدة من أكثر التجارب البغيضة التي خضتها بسبب افتقاري للمعرفة أو لسرعة البديهة كانت عند تناولي لموضوع فى كتابي عن قضية الهُوية فى الإمبراطورية العثمانية فى القرن السادس عشر فى حواري مع الكاتب المصري جمال الغيطاني. التقينا فى منزله بالقاهرة فى خريف عام 2007 فى الوقت الذي اتضح لي كيف سأختم هذا الكتاب.

ولكن لم يكن للكتاب المعنى نفسه بالنسبة لي إن لم أُورِد جزءًا من حديثي معه حول هذا الموضوع المهم: كيف ترى الشعوب المسلمة الأخرى الإطاحة (وهي الكلمة التي أستخدمُها أنا) أو المصادرة (وهي الكلمة التي يستخدمُها هو) بأجزاء من هُوِيَتِهم القومية والثقافية عندما تم استعبادهم من قِبَل العثمانيين؟

كانت الأسباب وراء حديثي مع الغيطاني حول هذا الموضوع متعددة. لقد كان أحد المشهود لهم بأنهم على قمة الخبراء بالحضارة المصرية وخصوصًا ثقافة القاهرة. لقد كتب الكثير من الكتب من منظورات متعددة ابتداءً من المنظور التاريخي، وتحديدًا التصوير الواقعي للتاريخ، وصولًا إلى مقالات النقد الأدبي معتمدًا على رؤية جمالية للماضي. في تلك اللحظة، وفي غياب الكاتب الرائع نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل، كان الغيطاني هو أكثر الكتاب المصريين على قيد الحياة وقتها احترامًا وتقديرًا إن لم يكن أفضل كاتب عربي أيضًا.

في بداياته، كان مشهورًا حتى بين العامة لأنهم كانوا يشاهدون من فترة ليست ببعيدة برنامجًا تليفزيونيًا قام بتصويره عن مصر والقاهرة وقد ظهر فيه مرشدًا سياحيًا. وقد كنتُ شاهدًا على هذا الاحترام له (المكتوب والمنطوق) فكنت أرى ونحن نسير في شوارع القاهرة الناس يقتربون منه ويحيونه ويقبّلون يده شكرًا على هدية تاريخ مدينتهم ودولتهم التي أهداها لهم من خلال برنامجه. لم أرَ هذا القدر من الاحترام في أي مكان سوى في حالة أورهان باموك -إلى حدٍ ما- في بلده أيضًا ولكنني أعلم أنه بمجرد ذكر هذا المثال، سيتذكر الجميع التهديدات التي كان يتلقاها باموك من منتقديه.


وبالطبع لا يمكن تجنب ذلك الجانب المظلم من آراء المعارضين. على العكس، سوف أعززه متخذًا من الغيطاني مثالًا على ذلك. فرغم وطنيته غير المشكوك فيها، والتي تزداد بمرور الوقت بل وبشكلٍ مبالغ فيه بعض الشيء أيضًا، ورغم أنه يناقش صورة واضحة ونقية وصحية تجاه الإسلام، فإنه أصبح عُرضةً للتهديد مثل زميلنا التركي. بالإضافة إلى ذلك، تظل الشرطة تحرس منزله لمدة أربعة وعشرين ساعة في اليوم. ولقد شهدتُ كيف يغيرون نوباتهم كل اثنتي عشرة ساعة. فالسيارة والحارس الشخصي الذي يرافقه صباحًا ومساءً ليسا من باب الوجاهة، بل أرادت الدولة أن يعلم المتطرفون أن الدولة تحميه وتقف وراءه.

من المنطقي أنه قد أحسن صنيعًا لثقافته وعقيدته التي لا يرفضها ولا يشكك فيها باتصاله بالعالم على الأقل من خلال أعماله المترجمة للغات العالم. لم يكن عشقه الرهيب الذي كان واضحًا عليه وهو يشرح لي تفاصيل العمارة الإسلامية عندما اصطحبني في جولة حول القاهرة في المساء -كانت طريقته في الشرح والوصف أفضل من أحسن المرشدين السياحيين في العالم- كافيًا للمتعصبين ليقدروه ويُجِّلوه. ولكي نستطيع الخروج مساءً في تلك الليلة، أو يستطيع الخروج من الأساس، كان عليه أن يوقع بيانًا تطوعيًا بأنه يرفض ما يُسَمَّى بـ»الدواعي الأمنية».


وعلى أي حال، لنعود إلى حواري معه. كانت المناسبة التي افتتحت الكلام هي جملة عن المصادفات وتزامن الأحداث في مصر وصربيا بشكل غير مباشر وكان موضوعًا مثيرًا للاهتمام لكل منا. وقعت بلجراد تحت سلطة وحكم الإمبراطورية العثمانية عام 1521 بعد سقوط القاهرة تحت حكمها بأربع سنوات. في روايته «الزيني بركات»، يتحدث عن استبدال الحكَّام المماليك بالعثمانيين، وعن فترة حكمهم الأولى في القاهرة، وبالتالي في مصر.

 

وروايتي (التي كنتُ أكتبها) تتحدث جزئيًّا عن بلجراد وصربيا في ذلك الوقت أيضًا وتحت حكم العثمانيين. لقد سمعتُ العديد من الأشياء المفيدة في هذه المناقشة، ولكن ما فاجأني حقًّا- وأنا الآن أعود للقضية التي طرحتها في بداية هذا الفصل- هو رد فعله الحاد والسلبي تجاه نتائج هذا الاحتلال. بالطبع لقد كان يتحدث عن القصص المتوقعة من القتل والاضطهاد، ولكن الشيء الذي كان له التأثير الأقوى عليَّ هو الآتي: لكي يعطي مثالًا لا يُنسى، أضاف معلومة في سياقٍ حقيقي وهو موجود بالفعل في أحد كتبه أن الأتراك قاموا بأخذ حوالي خمسةٌ وثلاثين حرفة ونقلوها إلى بلادهم، ولكنه لم يقصد بقوله هذا أنهم تعلموا هذه الحرف ونقلوها إلى بلادهم، بل إن الأتراك قاموا بنقل الحرفيين أنفسهم إلى بلادهم. أخذوهم كلهم أجمعين! أخذوا أفضلهم وأمهرهم، ابتداءً من المعلمين إلى مساعديهم والمتدربين على أيديهم وطلابهم. وبهذا الشكل، محوا وأزالوا أي أثر لوجود مجال كامل من المعرفة وما يصاحبه من تاريخ! لقد جرَّفوا مصر من صانعيها، وأزالوهم من الوجود على أرضها! (علامات التعجب هي محاولتي للتعبير عن الغضب الذي تحدث به الغيطاني). وقد حاولت أن أهدئ من روعه بإخباري له بأن هناك بعض الدلالات على أن العثمانيين عندما استولوا على بلجراد قاموا بإرسال من ثلث إلى كل السكان إلى مدينة إسطنبول كعبيد (تختلف الأرقام على حسب المصدر)! والدليل على هذا هو وجود شبكات المياه في العاصمة التركية والتي قام ببنائها جيش من المدنيين من بلجراد، وتمت مكافأتهم بالسماح لهم بتسمية الحي الذي استقروا به بلجراد.


وهذا لعلم الجميع.
وعندما رأى أن غضبه هذا يمثل مفاجأة لي لم أستطع إخفاءها، أعطاني تفسيرًا منطقيًا. قال:- لديَّ الحق لأن أكون أكثر غضبًا من هذا أيضًا لأننا ننتمي للعقيدة نفسها؛ نحن والأتراك. إن الأمر يصبح أسوأ عندما يصيبك الضرر بفعل شخصٌ ينتمي لعقيدتك نفسها. هل تعتقد أن المسيحيين فقط هم مَن لديهم هذا المثال من الماضي -دعنا لا نقول هذا الامتياز- هل المسيحيون فقط هم مَن مارسوا الاضطهاد والظلم على أبناء عقيدتهم؟

وقد اتفقتُ معه على سؤاله الاستنكاري:«فلدينا أمثلة على ذلك من الحاضر أيضًا».