الذكرى 172 لرحيل إبراهيم باشا.. أعظم قادة الجيوش في القرن الـ19

تمثال إبراهيم باشا
تمثال إبراهيم باشا

مما لا شك فيه أن كل من يمر بميدان «الأوبرا»، سواء كان من سكان القاهرة الكبرى أو زائر لها من المحافظات سوف يتوقف ليتأمل تمثال " إبراهيم باشا " الذي يتوسط الميدان بعزة وشموخ للقائد الفذ الذى يمتطى حصانه ويتمنطق بسيفه الذى خاض به المعارك التى حقق فيها انتصارات رائعة بقيادته للجيش المصرى، جعلت الخبراء يؤكدون انه أعظم قائد عسكرى فى القرن 19.

تعود قصة هذا التمثال إلى رغبة الخديو إسماعيل فى تكريم والده إبراهيم باشا وتخليد ذكراه، فاستقدم عام 1875 المثال الفرنسى "كوردييه" لعمل تمثال لوالده وتم صناعة التمثال من البرونز مع تثبيته على قاعدة رخامية كبيرة ووضع لأول مرة فى ميدان العتبه لمدة عشر سنوات ثم تم نقله عام 1882 إلى ميدان الاوبرا وسمى فى البداية بميدان إبراهيم باشا وتم تغيير اسم الميدان فى عام 1954 إلى ميدان الاوبرا حتى الان برغم احتراق الاوبرا القديمة واختفائها تماما من الميدان.

وتسبب هذا التمثال في أزمة كبيرة بين مصر وتركيا عندما صنع المثال الفرنسى "كوردييه" لوحتين لوضعهما على قاعة التمثال الرخامية، أحدهما تمثل معركة "نزيب"، والثانية تمثل معركة "عكا"، وقد انتصر فيهما ابراهيم باشا على الجيش التركي، ولهذا رفضت تركيا وضع اللوحتين على قاعدة التمثال لأنهما تمثلان هزيمتها أمام جيوش مصر، فأخذ كورديية اللوحتين وعاد إلى فرنسا وعرضهما فى باريس، ثم حفظهما فى بيته.

وحينما قررت مصرالاحتفال بمرور 100 سنة على وفاة إبراهيم باشا عام 1948 فكرت فى استرداد اللوحتين ليتم وضعهما فى مكانهما، وتم الاتصال بفرنسا لكن حفيد كودرييه اكد انه بحث عنهما فى منزل جده ولم يجدهما، فكلفت الحكومة الفنانان المصريان أحمد عثمان ومنصور فرج، بصنع لوحتين شبيهتين بلوحتى كوردييه الموجودتين حاليا على جانبى قاعدة التمثال، ومن يقترب من قاعدة التمثال سيلفت نظره البارة المحفورة التي تقول: «سلام على إبراهيم قاد جيشه من نصر إلى نصر»، ومذكور معها قائمة بالمعارك التى خاضها بتواريخها.

ولد إبراهيم باشا عام 1789 في "قولة"، وهو الابن الاكبر لمحمد على باشا، وأمه هى امينة نصراتى، وحين تولى محمدعلى حكم مصر استدعاه من اسطنبول وأعطاه ادارة مالية مصر، وأرسله إلى الصعيد لإخماد تمرد المماليك والبدو، وكان عضد ابيه القوى وساعده الأشد فى جميع مشروعاته، كان باسلا مقداما فى الحرب، لا يتهيب الموت، وقائدا محنكا لا تفوته صغيرة ولا كبيرة من فنون الحرب، وعينه والده قائدا للحملة المصرية ضد الوهابيين عام 1819، وأظهرفى الحجاز سلوكاً حميداً جذب الأهالى له، فاخمد ثورتهم وقضى على حكمهم.

ونال إبراهيم باشا من السلطان مكافأة سنية وسمى واليا على مكة، ونال أبوه لقب خان الذى لم يحظ به سوى حاكم القرم، وعينه والده بعد ذلك قائدا للجيش المصرى ضد ثورة اليونانيين الذين خرجوا على تركيا للظفر بالاستقلال، فانتزع إبراهيم معاقلهم وأخمد ثورتهم عام 1828، ولكن نزول الجنود الفرنسيين بالمورة أكرهه على الجلاء عن اليونان.

وحين طمع محمد على فى ممتلكات السلطة العثمانية بالشام أرسله على رأس جيش قوى ففتح فلسطين والشام وعبر جبال طوروس حتى وصل إلى كوتاهية عام 1833، وحينما تجدد القتال 1839 بين المصريين والأتراك انتصر إبراهيم باشا فى معركة " نصيبين " الفاصلة فى يونيه 1839، ولكن الدول الاوروبية تكالبت عليه وحرمته من فتوحه وأكرهته على الجلاء عن جميع الجهات التى كان قد فتحها، وفى ديسمبر 1832 انتصر أبراهيم باشا على الجيوش العثمانية فى معركة " قونية " وكسب سوريا و"أضنة ".

وفى 4 مايو 1833 وقع اتفاق مع العثمانيين الذين وافقوا على أن يكون حاكم " سوريا وأضنة " ولكنه ظل تحت حكم محمد على، وفى 1839 سقطت حيفا فى يد ابراهيم باشا، وفى 1840 حكم عكا، وخاض مجموعة حروب عرفت بالحملة المصرية الاولى فى الجزيرة العربية، والحرب فى السودان، وحرب المورة، والحرب المصرية العثمانية الاولى، والحرب المصرية العثمانية الثانية، والحملة على بلاد الشام، وانتصر عند حمص على طلائع الجيش العثمانى ودخل حمص وحماة.

وزحف على المواقع العثمانية فى مضيق بيلان، ووقعت المعركة الحاسمة بين إبراهيم باشا وحسين باشا قائد الجيش العثمانى عام 1832 التى انتهت بهزيمة منكرة للجيش العثمانى وهروب قائده حسين باشا، ومضى إبراهيم فى الزحف فاحتل الإسكندرونة وبانياس وسُلمت له أنطاكية واللاذقية، ولم يلبث أن احتل أضنة وأورفة وعينتاب ومرعش وقيصرية، وانتصر فى قونية على الجيش العثمانى وأسر قائده الصدر الأعظم رشيد باشا، وغدا الطريق إلى العاصمة اسطمبول مفتوحاً أمام قوات محمد على بفضل تفوق الجيش المصرى ومواهب إبراهيم باشا القيادية، ولما وصل كوتاهية فى 1833 تلقى أمراً من أبيه بالتوقف، لتهديد الدول الأوربية بالتدخل.

وفى 1838 قام نزاع آخر بين العثمانيين وابراهيم باشا فى محاولة منهم إسترجاع سوريا ولكنه هزمهم مرة أخرى، وفى 1839 سقطت حيفا فى يده، وفى 24 يونيو 1839 كسب أكبر انتصار فى معركة " نصيبين " على القوات العثمانية ولكن الدول الأوروبية أكرهته على الجلاء عن المناطق التى فتحها، وفى 1840 حكم عكا، وحين طمع محمد على فى الممتلكات العثمانية بالشام أرسله على رأس جيش مصرى قوى ففتح فلسطين والشام وعبر جبال طوروس حتى وصل إلى كوتاهية، وعُقدت معاهدة بين الباب العالى ومحمد علي، نال فيها الأخير حكم بلاد الشام وأضنة، ومنح إبراهيم لقب محصل أضنة، وبذلك دخلت الشام تحت حكم مصر، وصار إبراهيم باشا حاكماً عاماً للبلاد السورية معيناً من والده، إضافة إلى تجديد ولايته على جدة من قبل السلطان.


لم تتوقف انجازات إبراهيم باشا عند انتصاراته الحربية، ولكنه حقق لمصر الكثير فى مجالات الحكم والاقتصاد وبناء الجيش المصرى وتنظيمه، ففى مطلع عام 1847 تألف المجلس الخصوصى برئاسته للنظر فى شؤون الحكومة الكبرى، وسن اللوائح والقوانين وإصدار التعليمات لجميع مصالح الحكومة، وفى إبريل 1848 أصبح إبراهيم باشا الحاكم الفعلى للبلاد، لأن والده مرض مرضا شديدا، ولم يعد قادراً على القيام بأعباء الحكم، وفى يونيو 1848 منح السلطان العثمانى إبراهيم ولاية مصر رسمياً، فانصرف بجهوده إلى النهوض بشؤون مصر الإدارية.

وقد لمس أهمية الزراعة فى حياة مصر منذ أن كان دفترداراً (أى مفتشاً) عاماً للحسابات، ثم حاكماً على الصعيد عندما طرد فلول المماليك وأخضع البدو وأعاد الأمن والنظام إلى البلاد، وأسهم فى تطبيق سياسة أبيه الاقتصادية الرامية إلى زيادة الموارد المالية لمصر وتنفيذ إصلاحاته وتقوية نفوذه، وأدخل إلى مصر الزراعات النافعة التى رأى أنه يمكن نجاحها فى مصر من فاكهة وخضار وأشجار ونبات للزينة، وعمل على إكثار شجر الزيتون والتوت، وزراعة قصب السكر، وعنى بتطوير الثروة الحيوانية، وأنشأ صحيفة أسبوعية تشتمل على أخبار الزراعة والتجارة، وقيل عنه انه كان سريع الغضب، طيب القلب، عادلا فى أحكامه، يعرف الفارسية والعربية والتركية، ولم يُكمل عاما فى منصبه، حيث توفى قبل والده محمد على باشا فى 10 نوفمبر 1848 عن ستين عاماً، ويقول معاصره البارون " دوبوا لوكومت " إنه عندما سئل كيف يطعن فى الأتراك وهو منهم فأجاب: «أنا لست تركياً فإنى جئت إلى مصر صبياً، ومن ذلك الحين مصرغيرت من دمى وجعلته دماً عربياً ".

المصدر:  كتاب « إبراهيم باشا»