كانت لهم نور الحياة... الساعات الأخيرة في حياة صديقة المكفوفين

صديقة المكفوفين
صديقة المكفوفين

حبيبة جمال – حمدين بدوي

 

كان تطوعها في الجمعية الخيرية لخدمة المكفوفين بمثابة الضوء الذي يأتي إليها من بعيد لتحقيق حلمها بنشر الحب والتسامح، تستطيع أن تنقل للمكفوفين الإحساس بما يحيطهم من حياة، تساعدهم على التطور وألا يشعرون بالعجز لمجرد أنهم غير قادرين على الرؤية، إنها إيمان صديقة المكفوفين، التي قضت معهم ساعات وأيام لمساعدتهم وعندما صعدت روحها للسماء كانت بينهم.

تفاصيل أكثر عن تلك الفتاة وماذا قيل عنها والساعات الأخيرة في حياتها سنسرده لكم في السطور التالية. 

هنا داخل منزل بسيط بقرية محلة موسي بمحافظة كفر الشيخ،  قبل ٢١عامًا، جاءت «إيمان» إلى الحياة، لا تزال تتذكر أسرتها تلك اللحظة، أدخلت البهجة على حياتهما، هي الابنة الوحيدة لهما، تكبر تلك الطفلة يومًا بعد يوم أمام أعين الأم والأب، حرصا منذ الصغر على حفظها للقرآن للكريم، متوسمين في طفلة تشفع لهما يوم القيامة، كانت «إيمان» ذات طباع هادئة، لا تفارق البسمة شفتيها، على قدر كبير من الجمال، كانت قادرة على أن تصيب بسهم براءتها كل من يتعامل معها.

كبرت الطفلة الجميلة وتخرجت من معهد الحاسبات والمعلومات، كانت طموحة لأبعد الحدود، تنسج خيوط أحلامها منذ الصغر وما أن تنتهي من حلم حتى تبدأ في الآخر، كانت تحب مساعدة الآخرين، لا تبخل على أحد بمعلومة، لم تكن كغيرها من البشر الذين يحلمون بالحياة السعيدة لنفسهم، وإنما كان حلمها أكبر من ذلك، تريد أن يصبح كل الناس سعداء، تريد نشر الحب والتسامح بين الجميع، لا نبالغ حين نصفها بأنها كانت مثالية إلى حد كبير، كانت تشبه الثوب الأبيض الذي لم تشوبه ذرات الغبار المتناثرة في الهواء، وجدت «إيمان» الفرصة سانحة أمامها حينما قررت الاشتراك في جمعية خيرية لخدمة ورعاية المكفوفين، وجدت أن اشتراكها هو شعاع الضوء الذي يأتي إليها من بعيد وربما يساعدها في حلمها، كانت تذهب يوميًا لمقر الجمعية بكفر الشيخ، مهمتها تسجيل المحاضرات بصوتها وطباعة الأبحاث والمواد العلمية بطريقة برايل، تعلق بها جميع الطلبة، كانت لهم نور الحياة، العين التي يرون بها الدنيا ومستقبلهم. 

اقرأ أيضا|  اعترافات تفصيلية لـ«سفاح الجيزة»

في الصباح الباكر تستيقظ «إيمان» للاستعداد لوجهتها الجديدة، يتملكها الحماس تجاه رحلتها، وبمجرد دخولها مقر الجمعية تنهمك في تجهيز المحاضرات، ترافق الصغير في كل خطوة، تعلم الكبير وتوجهه، لم تكن تلك الملاك البريء يدري أن حياتها ستنتهي وسط المكان الذي تشعر فيه بالسعادة. 

التقينا بمحمد طه مدير الجمعية الخيرية، فقال: "جمعية أشرقت تم تأسيسها عام ٢٠١٤ مقرها الرئيسي في محافظة الإسكندرية، بينما فرعها الثاني هنا في كفر الشيخ مازال تحت الإنشاء، تنقسم فيه الخدمات نوعان، جانب تعليمي وجانب اجتماعي، التعليم مساعدة الطلبة وتسجيل المحاضرات بالصوت وطباعة المواد العلمية بطريقة برايل، واجتماعي مساعدة المحتاجين، كانت إيمان متطوعة معنا منذ شهور وتتولي مسئولية تسجيل المحاضرات بصوتها، كانت خدومة لأبعد الحدود، الكل هنا حزين عليها ولا نملك سوى الدعاء لأسرتها". 

التقينا أيضًا بزميلها سامح مجاهد مسئول الأبحاث بالجمعية، ليحكي لنا الساعات الأخيرة في حياة «إيمان»، فقال: "إيمان كانت تتحمل مسئولية كبيرة، فكانت تسجل المحاضرات والمواد العلمية بصوتها للطلبة، حيث يوجد مراحل الإعدادي والثانوي والجامعي، أيضًا ترافقهم في المشاوير الخاصة بهم، كانت نموذجًا ومثالًا للانضباط ومساعدة الآخرين، كانت متاحة لخدمتهم ٢٤ ساعة". 

صمت قليلًا واستكمل بنبرة صوت تعتليها الحزن وكأنه يرى المشهد الأخير أمام عينيه، فقال:"في هذا اليوم حضرت «إيمان» في موعدها، ولكن بدت عليها علامات التعب والإرهاق، فأخبرتها أن تنهى عملها وتعود للبيت للاستراحة ولكنها صممت أن تستكمل مهمتها، ولكن بعد دقائق ازداد التعب، فقررت أخذها للمستشفى العام، واتصلت بوالدها لإخباره، هناك داخل المستشفى أخبرونا أنها تعاني من انخفاض في ضغط الدم، وكل ما تحتاجه هو جلسة أوكسجين،  دقائق ووصل والدها والدتها، لكن الأب قرر أخذها لعيادة خارجية لكي يطمئن قلبه على ابنته الوحيدة، وبالفعل غادر المكان وهناك أبلغوه بنفس الشيء وأنها تحتاج للراحة فقط". 

عادت «إيمان» لبيتها، وبينما كانت ملقاة في حضن والدتها طوال الطريق، كانت تحيطها الدعوات بالشفاء من الجميع، ولكن مازالت حالتها غير مستقرة، القلق يزداد والخوف يسيطر على الأم المكلومة، ليتأخذا قرارهما بالعودة مرة أخرى للمستشفى، ولكن تلك المرة قد صعدت روحها للسماء، وكأنها أشبه بملاك قام بزيارة خاطفة إلى الأرض وعاد للسماء سريعًا بعد انتهاء مهمته. 

حالة من الحزن الشديد اجتاحت الجمعية، الكل يبكي على فراق تلك الملاك، جلسوا يتذكرون ماذا كانت تفعل معهم، الكل تعلق بها، منهم من تقول أنها تعودت على حفظ دروسها بصوت إيمان، منهم من تتذكر كيف كانت تساعدها إيمان في كل خطوة تخطوها،  وكيف تستند بأناملها الصغيرة على كتفها، فسيرتها لم تغيب،فالكليبكي لفراقها. 

فتقول ياسمين شعبان بالصف الثاني الإعدادي بمدرسة النور للمكفوفين: "اعتدت على سماع المواد الدراسية بصوت «إيمان» حيث كانت تقوم بتسجيل الكتب والمناهج الدراسية بصوتها العذب تسهيلاً لي على المذاكرة وما احتاجه من النواحي التعليمية"، أما خالد وخلود حجازي بالصف الأول الثانوي، تعودا على الذهاب إلى إيمان لتقوم بطباعة الكتب والمواد الدراسية بطريقة برايلومراجعة الدروس اليومية معهم. 

وتشير إسراء أيمن و آية رضا بالصف الأول الثانوي، إلىأنهما افتقدا معلمتهم الجميلة، فقالا: "إيمان كانت نعم الأخت ونعم الصديقة كانت تقوم بتدريبنا على التعامل مع الكمبيوتر واستخدام برامج الناطق على الهاتف المحمول واللاب توب وكانت تساعدنا على المذاكرة سواء بالتسجيلات الصوتية أو طباعة البرايل وتعلمنا بعض المهارات الحياتية".

ويؤكد نور عبدالكريم وحسن عطية بالصف الثاني الإعدادي أن «إيمان» كانت هي النور والعين التي يصبران بها ولم تبخل على أحد بمعلومة أو مساعدته. 

الحزن رسم خيوطه أيضًا في منزل أسرتها، وشيعها الجميع لمثواها الأخير في مشهد جنائزي مهيب، الدموع لا تفارق عيونهم حزنًا على تلك الفتاة التي بدلًا من أن ترتدي الفستان الأبيض ارتدت الكفن، داعين الله أن يصبر أسرتها.