بقلم/ شعبان ناجي
سعدت أيما سعادة بالملف الأخير الذى أصدرته أخبار الأدب، وذلك لسببين، الأول: أن الملف عن عميد الأدب العربى طه حسين، صاحب الصدمة الأولى والأهم والأخطر للعقل العربى فى العصر الحديث.. والثانى: أن كاتبه هو ممدوح فراج النابى، الذى لم أقابله حتى هذه الساعة، ولكنى قد تابعت إنتاجه النقدى منذ بداياته الأولى، وتوقفت عند أكثر من عمل نقدى له، بداية من كتابه الرصين عن السيرة الذاتية، وانتهاء بكتابه الظريف عن القارئ العادى.
وفى هذا الملف الذى بين أيدينا، اختار النابى كعهدنا به- موضوعا مشوقا وشائكا، وليس من الغريب أن يكون مشوقا وشائكا فهو كتاب عن طه حسين الذى ملأ الدنيا وشغل الناس ولا يزال يشغلهم حتى الآن.
عقد الكاتب فى بداية الملف مقارنة بين منهج طه حسين ومنهج تزيفان تودروف، وقد استفاض فى شرح المنهجين، وخرج بنتيجة مفادها أن منهج تودوروف يعتمد على العلم والنظرية، تلك التى لم يستطع التخلص منها إلا فى مرحلة متأخرة؛ بينما طه حسين هو منهج بحد ذاته، ومنهجه هو العقل والتأمل الذى يعتمد على الشك بالأساس.
ونحن إذ نقر هذا المنهج، نحب أن نقدم واحدا من الأدلة على ذلك، حيث يرى القارئ لأعمال طه حسين أنه لا يعتمد على مصادر ولا يستخدم هوامش؛ لأن مصدره هو عقله، وهوامشه هى تفكيره الحر الذى ينبت من داخله، وكأننا به يسأل معاتبا ذلك الذى يطلب المصدر أو الدليل: وهل تفكيرى الشخصى يحتاج إلى دليل؟
هذا هو طه حسين، الذى لم يتكئ قط إلا على عقله النقدى المتشكك، منذ أن كان صبيا غرا يجلس فى حلقة الدرس أمام شيخ أزهرى معمم، ثم صار هذا ديدنه عندما صار فى شرخ الشباب بعد أن قام بدرس أبى العلاء فجادله واختلف معه، وبعد أن درس شعر الخنساء فشك فى شعرها، بل شك فى وجودها نفسه، وهو الشك الذى انسحب فيما بعد على كل شعراء عصر الجاهلية الأولى.
نعود أدراجنا إلى كاتبنا الذى ركز بعد ذلك فى القضية الأشهر وهى قضية كتاب فى الشعر الجاهلى وقد بذل باحثنا جهدا جهيدا يحمد له لدرء تهمة السرقة عن العميد، تلك التى ألقاها عليه أكثر من ناقد، ذكر لنا منهم الشيخ محمود شاكر، وقصة معركته مع طه حسين معروفة للجميع وهى موجودة بالكتاب لمن يريد أن يرجع إليها، كما ذكر لنا ناقدا آخر اتهم العميد مباشرة بالسرقة من مرجليوث؛ لكن الباحث استطاع تفنيد اتهامه ثم قدم الدليل على براءة العميد باعتراف مرجليوث نفسه الذى أشاد بكتاب العميد مقرا له بالسبق والريادة.
وهذا كلام يعد وجيها وعقلانيا، وفيه قدر كبير من الراحة لنا؛ لكن هل من الممكن أن يركن العقل النقدى إلى الراحة؟ وهل يسلم العقل النقدى حتى بالمسلمات؟ أعتقد أن باحثنا الجاد يؤيدنى فى هذه النقطة، فعقله لا يحب الراحة ولا يركن إلى السكون، وأعتقد أنه الآن لم يرتح تماما إلى هذا الدليل، وأعتقد أنه الآن يبحث بحثا مضنيا، وأنا أحب أن أشاركه بحثه وأن أستمتع معه بعذاب العلم وعذوبته، فالعلم بهجة كما قال العميد نفسه.
لكن ما أقوله أعتقد أن كاتبنا يعرفه أكثر منى، فمن المؤكد أنه بحث عن المصادر التى استقى طه حسين منها ثقافته وأفكاره، ومن المؤكد أنه يعرف أيضا أن أهم وأخطر هذه الروافد والمصادر هى الثقافة الفرنسية التى أولع بها العميد وأراد أن يطبقها بل ينقلها إلى مصر، ولقد استطاع ذلك ونجح فيه كل النجح.
والثقافة الفرنسية كان لها بلا أدنى شك النصيب الأكبر فى التأثير على طه حسين، وكنت أحب أن أدعو صديقنا النابى إلى قراءة دراسة ماجستير مهمة صدرت فى العام 1969 للباحث االأب كمال قلتهب بإشراف من تلميذين نجيبين لطه حسين هما سهير القلماوى وشكرى عياد.. وأهمية هذه الدراسة تكمن فى أن صاحبها عاصر طه حسين وجلس إليه ثلاث مرات وأخذ عنه نصائح مهمة حول بحثه، كما أن هذا الباحث قد سافر حينها إلى فرنسا ليتتبع مصادر ثقافة العميد فى عقر دارها.. وهناك قابل مؤنس طه حسين ودارت بينها مناقشات كثيرة حول هذه الدراسة.
الغريب أن هذه الدراسة تناولت كل أعمال طه حسين تقريبا، لكنها أسقطت من حساباتها الكتاب الصدمة افى الشعر الجاهلىب ونحن نخمن أن هذا يرجع إلى سببين، أولهما أن الباحث ربما استشعر الحرج فى مناقشة هذه القضية لا سيما أن مشرفته تلميذة طه حسين الأثيرة الدكتورة سهير القلماوى التى قدمت لهذا الدراسة، وثانيها أن الباحث قد رأى أنه يكفى الجدال الذى دار حول هذه القضية، ومن ثم فعليه أن يبحث عن قضية أخرى جدية.
وهذا هو ما فعله الأب كمال قلته، فقد راح يتتبع الروافد الثقافية لطه حسين، منذ بداية رحلته مع التعليم، وفى هذه المرحلة استوقفتنا عدة أشياء؛ ونريد عون كاتبنا فى تفسيرها لنا؛ لأنها تخص الجانب الأكاديمى الذى يعرف خفاياه أكثر منى.. من هذه الأشياء أن التواريخ تقول لنا إن طه حسين ترك الأزهر وتوجه إلى الجامعة الأهلية فى العام 1909، بعدها بخمس سنوات، أى فى عام 1914 حصل على الدكتوراه فى أبى العلاء المعرى، وذلك من دون أن يحصل على درجة الليسانس أو الدبلوم أو الماجستير، فهل كانت هذه الدرجات مهملة فى ذلك الوقت؟ ثم إنه عند مناقشة الدكتوراه ناقشه مشايخ معممون، فهل كان هؤلاء المشايخ المعممون على دراية كاملة بمناقشة رسائل الدكتوراه، وهل ناقشوا باحثين قبل طه حسين؟
كما تقول لنا التواريخ أيضا أن طه حسين سافر إلى فرنسا ثم رجع، ثم استقر فى باريس فى أواخر عام 1915، بعدها بعام ونصف فقط حصل على الدكتوراه فى فلسفة ابن خلدون، وبعدها بعام ونصف أخرى حصل على درجة الدبلوم، فكيف يكون ذلك؟ هل الدبلوم يأتى بعد الدكتوراه؟ هذه مجرد أسئلة نحب أن يساعدنا كاتبنا فى البحث عن إجابة لها ونتمنى ألا تكون عنده غضاضة فنحن نستخدم حقنا فى مذهب الشك الذى ظل العميد يحارب من أجله طوال حياته.
وبعيدا عن الانتقادات التى وجهت إلى طه حسين، من الشيخ محمود شاكر أو من غيره من النقاد.. وبعيدا عن كل المدافعين عن العميد، ومع احترامنا الكامل للطرفين لا نستطيع أن ننكر أن طه حسين قد كون جل ثقافته من الحضارة الفرنسية وقد أحب أن ينقلها إلينا من خلال كتاباته التى تأثر فيها بأكثر من مفكر فرنسى، ولكننا نراه تأثرا محمودا؛ لأنه لم يطغ عليه النقل، وإنما وضع العميد كل ما حصله تحت منظار العقل بما يخدم فكرنا العربى.
وقد تأثر العميد مثلا بسانت بيف فى كتابه الرائد اأحاديث الإثنينب الذى كان مجموعة من المقالات نشرها بيف فى مجلة الدستور بداية من أكتوبر عام 1849. وقد نشر العميد على غراره كتابه الرائد أيضا احديث الأربعاءب الذى كان فى الأصل مجموعة من المقالات نشرها بجريدتى السياسة والجهاد ابتداء من العام 1924، لكن بيف كتب عن عن أدباء عصره ومجتمعه، بينما كتب طه حسين عن أدباء وشعراء بيئته العربية.
كما اتفق طه حسين مع شاتوبريان فى المنهج والغاية اللذين كتب من أجلهما كتابه المهم اعلى هامش السيرةب هذا الذى كان يتماس فى إطاره العام مع كاتب آخر وهو أرنست رينانب الذى كان قد كتب بدوره كتابا يدافع فيه عن السيد المسيح.
وأما عن تأثر العميد بفولتير، فهو لا يحتاج إلى استشهادات؛ لأن ذلك التأثر معروف لدى الجميع، ولم ينكره طه حسين نفسه.. يكفينا فقط أن نقول إن فولتير كان لا يولى الدين أهمية كبرى، وكان يسعى جاهدا لفصل الدين عن الدولة، وهو عين ما فعله طه حسين، ولا أدل على ذلك من ميله الشديد إلى الحضارة الفرنسية.
نقول فى النهاية، إن باحثنا الجاد قدم لنا دراسة جادة ورصينة عن العميد؛ لكن حبه الطاغى لطه حسين، ربما قد أنساه بعض النقاط الموضوعية حول ثقافة طه حسين وتجربته ومدى تأثره بالآخر المختلف معه فى كل شيء، وهذه النقاط الموضوعية تصب قطعا فى صالح طه حسين ولا يمكن أن تقلل أبدا من أثره العظيم فى ثقافتنا العربية.