الاغتيالات السياسية «1»| مشاهد من مذبحة القلعة.. وقصة الناجي الوحيد

مذبحة القلعة - أرشيفية
مذبحة القلعة - أرشيفية

تعد مذبحة القلعة أكبر وأشهر عملية اغتيال سياسي في تاريخ مصر، فقد وقعت في الأول من مارس عام 1811، وخطط لها ونفذها محمد علي باشا، للتخلص من أعدائه المماليك، ليثبت نفوذه ويرسخ سلطانه في الحكم، وينهي حكم المماليك الذي استمر قرابة سنة قرون، من تولي الأمير عز الدين أيبكعرش مصر عام 1250، وأراد محمد علي الانفراد بالسلطة فكان عليه التخلص من الزعامة الشعبية، والجند الألبانيين.

 


 

كيف حدثت المذبحة..؟


كشفت سطور الجزء الأول سلسلة «مذبحة القلعة» أن محمد علي، قرر إنهاء حكم المماليك الذي استمر لستة قرون، والانفراد بالحكم، وبدأ التحضير لتلك المذبحة عندما أرسل السلطان العثماني إلى الوالي محمد علي يأمره بتجهيز جيش يرسله إلى الحجاز للقضاء على الحركة الوهابية، حيث شعر الوالي بالخطر من إمكانية استغلال المماليك لفرصة وجود الجيش في الحجاز ومهاجمته والانقضاض على الحكم، فدبر للقضاء عليهم والتخلص منهم نهائيا.

 

اقرأ أيضا| حكايات| يوم الموتى.. طقوس تعيد الحياة لـ«جماجم» الأطفال والبالغين


بدأ الوالي محمد علي في ترتيب خطة جهنمية للتخلص من المماليك، وأبقى الأمر سرا بينه وبين 3 آخرين هم: لاظوغلي وصالح قوش وطاهر باشا قائد الألبان، وأول خطوات محمد علي كانت بخلع عمر مكرم من زعامته الشعبية، وبذل محاولاته بإغراء المماليك لترك الصعيد والإقامة في مصر حتى يكونوا تحت المراقبة.

 


«خطة شيطانية»


لم يشك قادة المماليك في نية محمد علي، بل استعدوا جيدا وارتدوا الملابس الرسمية استعدادا للحفل، ودعاهم محمد علي حتى يمشون في موكب الجيش الخارج للحرب، بقيادة ابنة طوسون إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، لبّى المماليك الدعوة وركبوا جميعا في أبهى زينة وأفخم هيئة، واستقبل محمد علي البكوات المماليك بحفاوة شديدة، ودعاهم إلى تناول القهوة معه، وشكرهم على إجابتهم دعوته، وتجاذب معهم أطراف الحديث حتى يشعروا بالأمان والود بينهم، وألمح لهم بأن يسيروا مع ابنه في الموكب الخارج إلى الحجاز.


«وقت حدوث المذبحة»


أراد الوالي محمد علي أن يقضي على قادة المماليك في ضربة واحدة، ومن هنا تقدم الموكب وطلب محمد علي من المماليك أن يسيروا في صفوف الجيش لكي يكونوا في مقدمة مودعيه، حيث كان يتقدم الموكب مجموعة من الفرسان في الطليعة، يأتي بعدها والي الشرطة ومحافظ المدينة، ثم كوكبة من جنود محمد علي الأرناؤوط، ثم المماليك، ومن بعدهم مجموعة أخرى من الفرسان والجنود الأرناؤوط.


ثم تحرك الموكب ليغادر القلعة، فسار في طريق ضيق نحو باب العزب، وبمجرد أن اجتاز الباب طليعة الموكب ووالي الشرطة والمحافظ، أُغلق الباب فجأة من الخارج في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود الأرناؤوط، الذين تحولوا بسرعة عن الطريق، وتسلقوا الصخور على الجانبين، وأخذوا يمطرون المماليك بوابل من الرصاص، الذين تفاجأوا وساد بينهم الهرج والفوضى، وحاولوا الفرار، ولكن كانت بنادق الجنود تحصدهم في كل مكان، ومن نجا منهم من الرصاص فقد ذبح.


«مشاهد من المذبحة»


بعد أن حوصر المماليك ولم يجدوا مفرا للهروب، أو النزول من أعلى جيادهم، لضيق المكان الذي حوصروا فيه، وليس لديهم سوى السيوف ليدافعوا بها عن أنفسهم أمام رصاص البنادق، الذي انهال عليهم كالمطر من كل مكان، فماذا تصنع السيوف أمام رصاص القنابل، ولكن حاول البعض من المماليك الترجل من على جيادهم ليتسلقوا الصخور الموجودة بمحيط الطريق ويهربوا، وخلعوا ملابسهم الثمينة التي كانت تعيق حركتهم، ولكن طلقات البنادق كانت لهم بالمرصاد، فلا فرار من الموت.

 

ومن هؤلاء "شاهين بك الألفي" الذي تمكن أن يستلق الحائط، وصعد الى رحبة القلعة، وانتهى الى قصر صلاح الدين، إلا أن الجنود لحقوا به وأردوه قتيلا، وحاول "سليمان بك البواب"، أن يجتاز الطريق ودماؤه تسيل، حتى وصل الى سراي الحرم واستغاث بالنساء صائحا «في عرض الحرم»، وكانت هذه الكلمة لها رونقها في هذا العهد لتحمي صاحبها من الهلاك، لكن الجنود لحقوا به وقطعوا رأسه، وألقوا بجسده بعيدا عن باب السراي.


«آمين بك» الناجي الوحيد


بعد أن امتلأ فناء القلعة بجثث ودماء المماليك، تمكن الناجي الوحيد من المذبحة آمين بك، من الفرار حيث كان في مؤخرة الصفوف، وعندما شاهد الرصاص ينهمر من فوق رؤوسهم، صعد بجواد إلى المكان المشرف على الطريق وبلغ سور القلعة، ومن هول ما رأى حيث أن الموت يحيط به من كل ناحية، رمى بنفسه من أعلى السور إلى خارج القلعة، رغم الارتفاع الشاهق الذي يبلغ نحو 60 مترا، إلا أنه قفز بجواده مترديا.

 

ولما صار على مقربة من الأرض، قفز هو مترجلا، ليتلقى الجواد الصدمة، وينجو هو بنفسه، واستطاع الهروب إلى الشام، وأشارت بعض الروايات إلى أن هناك ناج آخر من المماليك وهو علي بك السلانكلي، الذي لم يحضر الاحتفال بسبب انشغاله في إحدى القرى، وبمجرد معرفته بأمر المذبحة وقتل جميع المماليك سارع إلى الهروب خارج مصر.


«ملامح محمد على وقت المذبحة»


وقت حدوث المذبحة كان يجلس محمد علي باشا في قاعة الاستقبال، مع أمناؤه الثلاثة، ومع سماع دوي الرصاص الذي يشير إلى بدء المذبحة وقف محمد على وامتعق لونه، واصفر وجهه، وأخذ يسمع صرخات المماليك، حتى بدأ صوت الرصاص يتضاءل، ليشير بأن المؤامرة انتهت وحصد الموت أرواح المماليك، فدخل عليه المسيو «ماندريشي» طبيبه الإيطالي، وقال له: "لقد قضي الأمر واليوم يوم سعيد لسموكم"، فلم يجب محمد علي وطلب قدحا من الماء ليتجرعه من شدة التوتر الذي عاشها وقت حدوث المذبحة، وبلغ عدد من قتلوا في القلعة وفي أنحاء القاهرة والمديريات نحو 1000 من أمراء وكشاف وأجناد ومماليك، منهم نحو 470 في مذبحة القلعة.