نقطة ارتكاز

العرب وصناعة التقنية

د. غسان محمد عسيلان - أكاديمى سعودى وكاتب صحفى
د. غسان محمد عسيلان - أكاديمى سعودى وكاتب صحفى

عندما نتأمل صناعة التقنية الحديثة فى العالم حاليًّا نجد أن قليلًا من الأمم تساهم فيها بشكل وافر، وتهيمن عليها، لكن معظم أبناء الأمم الأخرى يستهلكون التقنية ويتأثرون بها اجتماعيًّا وفكريًّا وثقافيًّا لكنهم لا يشاركون فى صناعتها، وبالتالى لا يمتلكون القدرة على التأثير فى مساراتها الفكرية وأنماطها السلوكية ومنظومتها القيمة والأخلاقية التى تشكل حياة البشر الآن، ومن ذلك بكل أسف أمتنا العربية التى تتعاطى التقنية ولا تساهم بشيء يُذكر فى صناعتها!!
وحتى لا نظلم أنفسنا ولا نبالغ فى جلد ذواتنا ينبغى أن نؤكد أن العرب والمسلمين كان لهم إنجازاتهم الحضارية المهمَّة، وأنهم ساهموا فى تطور مسيرة الحضارة الإنسانية، وكان لهم الكثير من الإنجازات العلمية فى مجالات عديدة مثل الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والصيدلة والفلك وغيرها، وقد استمر تأثير التراث العلمى العربى عدة قرون، وكان على الطالب الذى يريد دراسة علوم عصره آنذاك أن يتعلم اللغة العربية ويجيدها كما نفعل الآن مع اللغة الإنجليزية وغيرها من لغات الأمم المتقدمة حاليًّا.
وفى كتابه (تاريخ العلم) ذكر المؤرخ (جورج سارتون) أن: «علماء الإسلام والعرب هم عباقرة القرون الوسطى، وأن تراثهم يُعدُّ من أعظم مآثر الإنسانية وقد قام العرب بدورهم فى تقدم الفكر وتطوره، ولم يكونوا مجرد ناقلين، بل إن فى نقلهم روحًا وحياة، فبعد أن اطَّلع العرب على ما أنتجته قرائح القدماء فى سائر ميادين العلم والمعرفة نقَّحوه وشرحوه وأضافوا إليه إضافات مهمة».
أما موقف المستشرقين المعادين للعرب والمسلمين فقد تجنُّواعلى الحضارة العربية الإسلامية وادعوا أنها لم تقدم شيئًا يذكر للبشرية، وهذا إجحافٌ وظلمٌ رفضه المنصفون من بنى جلدتهم، ولاشك أن أصحاب هذا الإتجاه مغرضون، فلديهم دوافع معادية للإسلام لذا انتقصوا من قيمة ومكانة العلوم العربية والإسلامية ودورها فى مسيرة الحضارة الإنسانية.
ورغم تاريخنا الحضارى المشرِّف إلا أن تقنيات العصر الرقمى أو ما يُعرف بتقنية المعلومات تُشكِّل تَحديًا مُهِمًّا أمام عالمنا العربى، فكثيرٌ من شعوبنا العربية تعانى من مشاكل الفقر والجهل والمرض، وتلهثُ حكوماتها الحالية وراء إيجاد حلول لهذه المشاكل المتفاقمة منذ عقود، ومن الرفاهية والترف الفكرى أن نُحمِّل هذه الحكومات مسئولية سد الفجوة بيننا وبين هذه التقنيات الحديثة، أو نطالب الجيل الحالى وحده بالتقدم فى مجال صناعة تقنية المعلومات وعدم الاكتفاء باستهلاكها فقط، صحيح أن الثورة المعرفية التى تجتاح العالم حاليًّا هى نتاج طبيعى لتراكم تطور الفكر البشرى، لذا يجب على الحكومات العربية أن تساعد شعوبها على سلوك درب العلم والمعرفة والمساهمة فى صناعة التقنية فالعلم هو الطريق الوحيد لعودة حضارتنا العربية والإسلامية للريادة.
والغريب أن يزعم البعض أن العرب متخلفون تقنيًّا بسبب العقيدة الدينية (الأيديولوجيا) المهيمنة على العقل العربى، ويدَّعى هؤلاء أن هناك تناقضًا بين الدين والعلم، وهذا فى الواقع زعمٌ واهٍ، فالأبحاث العلمية تؤكد أن هذا التناقض المزعوم مجرد تناقض مفتعل، ولم تعد هذه المزاعم قادرة على أن تصمد فى وجه الدراسات العلمية التى تؤكِّد على وجود الكثير من التكامل بين العلم والدين.
وفى الواقع ليس بوسع أحد إنكار ما يعانيه العالم العربى من التخلف التقنى والحضارى حاليًّا، فنحن نُحسن استخدام التقنيَّة لكننا عالة على العالم فى هذا المجال، حيث تعانى صناعة التقنية لدينا مشاكل كثيرة، ونكاد لا نُسهم عالميا بشيء يذكر.
وبالرجوع إلى قاعدة بيانات البنك الدولى المتاحة قام أحد الباحثين العرب بعقد مقارنة علميَّة كاشفة بين أداء الدول العربية (مجتمعة) فى مجال صادرات التقنية المتقدمة وبين أداء إسرائيل فى نفس المجال على مدار ثلاثة أعوام (2011م، و2012م، و2013م) وتبين أن الأداء العربى فى هذا المجال شديد الضعف، حيث بلغ (1.72) و(1.36) و(1.51) مليار دولار فقط خلال هذه الأعوام الثلاثة على التوالى، بينما وصل أداء إسرائيل فى نفس الفترة وفى نفس المجال إلى (8.8) و(9.2) و(9.6) مليار دولار على التوالى، مع الأخذ فى الاعتبار الفارق الكبير فى عدد السكان والإمكانات المادية، وعدد الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث، وكلها تأتى فى صالح العرب، ولكننا رغم ذلك لا نُنتج ما يجعلنا نشغل مراتب متقدمة فى إنتاج التقنية وصناعتها، فى حين أن إجمالى صادرات العرب من السلع الاستهلاكية فى نفس الفترة وصل إلى (1.19) و(1.32) و(1.31) تريليون دولار على التوالى، وأغلبها الصادرات النفطية، وبعض السلع التقليدية الأخرى.
ولعل ما يثلج الصدر هو أن صادرات ماليزيا من الصناعات التقنية المتقدمة حققت نتائج مذهلة، حيث بلغت فى نفس الفترة (61.1) و(61.2) و(60.3) مليار دولار على التوالى، وهى دولة إسلامية مهمة، ما يعنى أن العرب أيضًا قادرون على التقدم فى مجال صناعة التقنية إن هم استعدوا لذلك بالتعليم الجيد، والبحث العلمى الجاد المتطور، وعبر تبنى مشروع نهضوى علمى متكامل يهتم بتوطين التقنية والإبداع فيها، وليس مجرد استخدامها فقط!!
< أكاديمى سعودى وكاتب صحفى