الاحتفال بالمولد النبوى الشريف تراث مصرى أصيل

للفنانة : حياة النفوس
للفنانة : حياة النفوس

د. عبد الرحيم خلف عبد الرحيم 

أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية،كلية الآداب، جامعة حلوان

تظل ذكرى مولد النبيّ المصطفى – صلوات الله وسلامه عليه – يوماً عظيماً أنار الكون كله بضيائه، هذا اليوم له مكانة خاصة عند نفوس المسلمين جميعاً، وقد أولى الحكام والسلاطين والخلفاء عبر الأزمنة والعصور المختلفة اهتماماً كبيراً بمثل هذا اليوم، وخصصوا له الاحتفالات والطقوس التى تميزه عن غيره من أيام العام. ومعنى الاحتفال فى اللغة: مصدر احتفلَ / احتفلَ بـ/ احتفلَ لـ هو الاجتماعٌ على فرح ومسرّة.


البداية كانت مع الفاطميين الذين بدأوا بسلوك طريق جديد لاستمالة قلوب المصريين، واستثارة عواطفهم، ولما كانت الميول العامة لطبقات الأمة المصرية متجهة إلى حب آل بيت الرسول صل الله عليه وسلم فكان مما أصدره المعز لدين الله الفاطمى إقامة الأعياد والمواكب وكان من أهمها الاحتفال الأول بالمولد النبوى، وصنع الفاطميون الحلويات، لتوزيعها على الحاضرين مع الصدقات، وإقامة الشوادر بالأسواق، وإعداد الولائم، بالإضافة إلى موكب قاضى القضاة، حيث تحمل أطباق الحلوى إلى جامع الأزهر ثم إلى قصر الخليفة.


اعتاد الفاطميون الاحتفال بالمولد النبوى الشريف والمبالغة فى صنع الحلوى فيه، فيذكر المسبحى:( وفى العيد حمل السماط على الرسم، التماثيل(العرائس وغيرها) والتزيين والقصور من السكر، وشق به البلد وكان عدد قطعه مائة واثنين وخمسون قطعة من التماثيل ومن القصور الكبار سبعة قصور، وشق به البلد واجتمع الناس لرؤيته) ومن خلال هذا النص يتضح أن ظاهرة صنع التماثيل ارتبطت أولا بإقامة الأسمطة( موائد الطعام ) لتزيينها ثم تطورت بتخصيص تمثال العروسة فى احتفال المولد النبوى.


وفيما يخص عروسة المولد وارتباطها بالمولد النبوى، قد تكون فكرة العروسة لمناسبة المولد، هى نفس الأسطورة المرتبطة بعروس النيل، فالعروستان متصلتان بمولدين، مولد النيل والفيضان ومولد الرسول) ويضيف ( ويحتمل أن الخليفة الحاكم بامر الله الفاطمى وكان غريب الأطوار ، وقد حرم على الأهالى عمل الأفراح وإقامة الزينات ( بعد أن منع خروج النساء لمدة سبع سنوات) إلا فى مناسبة مولد النبى.

لذلك كان الناس يعقدون - عقد الزواج - على العروسين ويجهزون الجهاز حتى قدوم المولد النبوى فيتاح لهم عمل حفل الزفاف، وكان قبل مجئ المولد يتفنن أهل العروسين فى عمل الحلوى وتشكيلها على هيئة عروسة تزف، تيمناً بالزواج المرتقب، لذلك نجد بين الفلاحين وبين أولاد البلد فى الأحياء الشعبية من يشترى ويهدى للعروس عروسة حلوى كبيرة الحجم بحيث يحافظ عليها سليمة الى أن تنزف العروس ليلة الزفاف).


وفى العصر الأيوبى يعتبر الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى، وقد حُكى عن بعض من حضر سماط المظفر فى بعض الموالد كان يمد فى ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوى، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده فى المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أى جهة على أى صفة، وكانت صدقاته فى جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويتفك من الفرنج فى كل سنة خلقاً كثيراً من الأسرى.


وقد كان لسلاطين الخلافة العثمانية عناية بالغة بالاحتفال بجميع الأعياد والمناسبات المعروفة عند المسلمين، ومنها المولد النبوى الشريف، فكانوا يحتفلون به على المستوى الرسمى فى أحد الجوامع الكبيرة بحسب اختيار السلطان، فلما تولى السلطان عبد الحميد الثانى الخلافة قصر الاحتفال على الجامع الحميدى.


وفى عهد السلطان عبد الحميد الثانى يبدأ الاحتفال بالمولد منذ بداية ليلة 12 ربيع الأول حيث كان يحضر إلى باب الجامع عظماء الدولة وكبراؤها بأصنافهم، ويرتدى جميعهم الملابس الرسمية التشريفية، وعلى صدورهم الأوسمة، ويقفون فى صفوف فى انتظار السلطان، ثم يأتى السلطان من قصره راكباً جواداً من خيرة الجياد وعليه سرج مصنوع من الذهب الخالص، وحوله موكب فخم، ورفعت فيه الأعلام، ثم يسير هذا الموكب بين صفين من جنود الجيش العثمانى وخلفهما جماهير الناس، ثم يدخلون الجامع ويبدأون الاحتفال بقراءة القرآن الكريم، ثم بقراءة قصة مولد النبى محمد – صلوات الله عليه.


وكان من عادات بعض السلاطين العثمانيين فى المولد النبوى أنهم يقومون بالإفراج عن بعض السجناء ذوى الأحكام الخفيفة. ويُذكر أن يوم المولد النبوى الشريف فى الدولة العثمانية تحول إلى عطلة رسمية فى أواخر القرن السادس عشر.


وكانت الاحتفالات العثمانية بالمولد النبوى يغلب عليها الطابع الصوفى لما للطرق الصوفية فى المجتمع العثمانى حتى يومنا هذا أهمية بالغة. وكانت الاحتفالات فى بادئ الأمر مقصورة على السلاطين والوزراء والمسئولين رفيعى المستوى فى القصر، وكان يحضر إلى القصر قارئ للقرآن وعالم يلقى موعظة عن النبى.

وكانت هذه الاحتفالات لا تشمل المستوى الشعبى، ولكن بحلول عام 1910 أصبح الاحتفال بالمولد النبوى الشريف على المستويين الحكومى والشعبى، وكان يحضر الاحتفال الرجال والنساء، وأثناء الاحتفال كان يسكب على أيدى الحضور عطر الورد وتوزع عليهم الحلوى فى أطباق فضية، وعند الانتهاء من الاحتفال كان تقدم للمحتفلين صناديق بها حلوى وعصير ليمون بالنعناع، ويقدم أيضا ما يعرف بـ «الشربة العثمانية»، ثم يلقى السلطان تحياته ويترك مكان الاحتفال وينتهى بذلك الاحتفال.


وفى ذلك ومع بداية شهر ربيع أول من القرن العشرين من كل عام تنصب السرادقات حول المساجد الكبرى والميادين فى جميع مدن مصر، كمسجد الإمام الحسين والسيدة زينب رضى الله عنهما، وتضم تلك الشوادر أو السرادقات زوار المولد من مختلف قرى مصر والباعة الجائلين بجميع فئاتهم وألعاب التصويب وبائعى الحلوى والأطعمة، وركناً للمنشدين والمداحين تخصصوا فى مدح الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم».


وذكر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى، الذى عاش أيام الحملة الفرنسية على مصر، أن نابليون بونابرت اهتم بإقامة الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، من خلال إرسال نفقات الاحتفالات وقدرها 300 ريال فرنسى إلى منزل الشيخ البكرى، نقيب الأشراف فى مصر بحى الأزبكية، وأرسلت إليه الطبول الضخمة والقناديل، وفى الليل أقيمت الألعاب النارية احتفالاً بالمولد النبوى، وعاود نابليون الاحتفال به فى العام التالى لاستمالة قلوب المصريين إلى الحملة الفرنسية.
وختاماً صلى الله وسلم وبارك على صاحب الذكرى.