يوميات الأخبار

ترامب أم بايدن ؟

أيمن منصور ندا
أيمن منصور ندا

أيمن منصور ندا

«الحكيم يأخذ قراراته بنفسه، والجاهل يتبع الرأى العام»!

إذا كان الشعر هو "ديوان العرب"، فإن استطلاعات الرأى العام هى "ديوان الحياة الأمريكية المعاصرة"..أوعلى حد تعبير "جورج جالوب" فإن " الرأى العام هو نبض الديمقراطية الأمريكية"..وتشير الإحصائيات إلى أنه وفى كل عام يتم طرح أكثر من ثلاثين ألف سؤال على الجمهور الأمريكي؛ وهى أسئلة تتدرج اهتماماتها وتتنوع من قياس الاتجاهات نحو أعقد القضايا وأكثرها أهمية كالحروب الدولية ومحددات الأمن القومى الأمريكى ومهدداته، إلى قياس الاتجاهات نحو أبسط الموضوعات وأكثرها سذاجة فى بعض الأحيان كقياس الاتجاهات نحو أكثر العيون جمالاً، وأكثر الرجال وسامةً..
وقد ارتبط ظهور قياسات الرأى العام العلمية فى الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية بشكل رئيس منذ مطلع القرن التاسع عشر (انتخابات 1824)، ومنذ ذلك الحين وهما متلازمان بشكل كبير..ويمكن إرجاع البدايات الأولى لبحوث واستطلاعات الرأى العام فى الولايات المتحدة ليس إلى رغبة المسئولين الحكوميين إلى تحديد أو التعرف على وجهات نظر الناس حول القضايا المختلفة، ولكن رغبة منهم فى التعرف على النيات التصويتية والسلوك الانتخابى للناس..
وعلى الرغم من نجاح استطلاعات الرأى العام الأمريكية فى التنبؤ بالفائز فى الانتخابات الأمريكية بشكل صحيح منذ انتخابات عام 1916.. فإنها وعلى مدار مائة عام كاملة (1916- 2016)، فشلت فى التنبؤ بالفائز فى ثلاث انتخابات (1936، 1948، 2016).. فهل تكون انتخابات نوفمبر 2020 هى المرة الرابعة؟.. نتائج الاستطلاعات الحالية تشير إلى تفوق "بايدن" على "ترامب" بفارق يتراوح بين 5- 8 نقاط، فى معظم الاستطلاعات القومية.. فهل يفوز "بايدن" وتصدق التوقعات؟ أم يفوز "ترامب" وتفشل الاستطلاعات للمرة الرابعة؟
انتخابات 1936 ومجلة المختار الأدبي
شهد العام 1916 دخول أول لاعب أساسى فى تاريخ استطلاعات الرأى العام وهى مجلة المختار The Literary Digest، فمنذ ذلك التاريخ أنتجت المجلة عدداً من التوقعات الصحيحة، واكتسبت سمعة طيبة كرائدة فى هذا المجال.. بالإضافة إلى محاولتها التنبؤ بنتائج الانتخابات..
وكان الأسلوب أو المنهج المستخدم بواسطة هذه المجلة هو أن تقوم بإرسال كروت تصويت عن طريق البريد إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، يتم تحديدهم من خلال أدلة التليفون، وقوائم ملاك السيارات.. وكانت المجلة ترسل بطاقات إلى ما يقرب من 20 مليون شخص أثناء هذه الانتخابات. وعلى الرغم من أنه كانت هناك دائماً فروق وانحرافات بين النسب التى توقعتها المجلة والنسب الحقيقية للتصويت، فإن هذه المجلة كانت تحظى بقدر كبير من الاحترام، خاصة أنها نجحت فى توقع الفائز فى انتخابات 1920، و1924، و1928، و1932.. وكانت نتائج استطلاعات هذه المجلة يتم نشرها على نطاق واسع فى كل الصحف الأمريكية تقريباً..
وفى انتخابات 1936، أرسلت المجلة نحو 10 ملايين بطاقة تصويت مستخدمة نفس الإجراءات التى كانت تستخدمها سابقاً فى سحب عيناتها من قوائم ملاك السيارات، ومن أدلة التليفونات، وقد أعاد هذه البطاقات واستجاب لهذا الاستطلاع 2.3 مليون شخص (من 10 ملايين).. وكانت التوقعات من هذه البطاقات التى رجعت تشير إلى أن المرشح الجمهورى "ألفريد ليندون" سوف يحصل على 55% من الأصوات، فيما سيحصل المرشح الديمقراطى "فرانكلين روزفلت" على 41%، ويحصل مرشح حزب الاتحاد "ويليام ليميك"على 4%..
 لكن السؤال : لماذا نجحت الصحيفة فى التنبؤ فى الأربعة انتخابات السابقة على 1936، وفشلت فى المرة الأخيرة رغم أنها اتبعت نفس الأسلوب؟ كان هذا التعارض الكبير بين النتائج المتوقعة والنتائج الفعلية نتيجة التحيز فى اختيار العينة، وإلى ارتفاع نسبة عدم الاستجابة.. كانت القوائم فى عام 1936 تحتوى على نسب غير متساوية ولا متوازنة من ذوى الدخول العالية، بينما لم يكن هناك تمثيل حقيقى ومتناسب لذوى الدخول المحدودة، إذ كانوا لا يملكون سيارات، وليس لديهم تليفونات حتى يكونوا فى إطار العينة وهذه الفئة كانت هى الأكثر احتمالاً للتصويت لروزفلت. كذلك، فإن ضعف الاستجابة (23%) أدى إلى هذا التحيز فى العينة.. إضافة إلى ذلك، فإنه قبل انتخابات 1936 كان التصويت إلى حد ما ذا طابع طبقى أو اقتصادى.. ولم يكن من المحتمل أن يصوت الفقراء إلى أى حزب مقارنة بالأغنياء.. الذى تغير فى هذه الانتخابات هو البرنامج الذى طرحه روزفلت وما أسماه بالعهد الجديد. هذا البرنامج الإصلاحى خلق دافعاً لهؤلاء الفقراء للتصويت لصالح الحزب الديمقراطى ودفع الأغنياء إلى تأييد الحزب الجمهورى. وبالتالى فإن عينة الصحيفة التى أعطت وزناً نسبياً أكبر للأغنياء على حساب الفقراء بالغت فى إظهار التأييد للمرشح الجمهورى..
انتخابات 1948 والارتداد المفاجئ
مثلما نجحت صحيفة المختار فى توقع الفائز بالانتخابات عدة مرات وفشلت فى انتخابات 1936، فقد نجح "جالوب" و"وبر" و"كروسلى" فى توقع نتائج الانتخابات فى 1936، و1940، و1944، وسقطوا سقوطاً مدوياً فى انتخابات 1948؛ فقد توقعت المراكز الثلاثة فوز المرشح الجمهورى "توماس ديوى"على منافسه الديموقراطى "هارى ترومان"بفارق يتراوح بين 5- 10%.. ولأن الناس قد بدأت فى الاعتماد بشكل متزايد على استطلاعات الرأى العام، فقد كانت صدمتهم كبيرة يوم أظهرت النتائج فوز ترومان.. وظهر ترومان فى صورة له ممسكاً بإحدى الصحف مكتوباً فيها بمانشيت عريض "ديوى يهزم ترومان" !! بعد هذه الانتخابات، أجبر أصحاب مراكز استطلاعات الرأى على إعادة اختبار وتقييم أساليبهم، وتم إخضاعهم للمساءلة والاستجواب من قبل مجلس الدراسات الاجتماعية الأمريكية، ولهذا يطلقون على انتخابات 1948 "عام المصائب لاستطلاعات الرأى".وقد خلص تقرير مراجعة ما حدث فى انتخابات 1948، إلى عدد من أوجه القصور فى استطلاعات الرأى التى تمت فى هذه الانتخابات، وأدت إلى التشكيك فى درجة الاعتماد على والثقة فى بيانات هذه الاستطلاعات.. فقد أظهرت هذه التحقيقات أن هناك أربعة أسباب رئيسية وراء هذا الخطأ فى التوقع: (1) أن هذه المراكز قد ارتكبت نفس الخطأ الذى وقعت فيه الصحيفة فى عام 1936، حيث كانت العينات متحيزة لصالح الفئات المتوسطة والعليا اقتصادياً، وبالتالى كانت متحيزة أكثر لصالح الجمهوريين. (2) إن هذه المراكز قد توقفت عن إجراء استطلاعات قبل الانتخابات بفترة طويلة، وبالتالى لم تكن قادرة على اكتشاف التحول الكبير فى الأصوات لصالح "ترومان" الذى حدث فى الأيام الأخيرة قبل الانتخابات، ولو استمرت المقابلات والاستطلاعات لكان يمكنها التنبؤ بدقة، ولكن التوقف جعلها لا تستطيع توقع الفائز بنجاح. (3) إن صحيفة الاستقصاء لم تتضمن أسئلة عما إذا كان المبحوث سيصوت أصلاً أم لا. (4) إن المترددين أو الذين لم يحددوا مرشحهم بعد وقت الانتهاء من الاستطلاعات، تم توزيعهم بالتساوى بين المرشحين دون أساس موضوعى لذلك.
انتخابات 2016 والخطأ القاتل
فى انتخابات 2016، كانت التوقعات كلها لصالح مرشحة الحزب الديمقراطى هيلارى كلينتون، وعلى سبيل المثال، فقد كانت توقعات جالوب قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات، وحتى يوم الانتخابات تشير إلى تقدم كلينتون بفارق يتراوح بين 5-7 نقاط على المرشح الجمهورى دونالد ترامب.. وهو ما جاءت نتائج التصويت على عكسه تماماً.. وكانت التوقعات تشير إلى حصول كلينتون على أغلبية الأصوات فى المجمع الانتخابى..
وقد انساقت وسائل الإعلام فى تغطيتها للانتخابات وراء هذه الاستطلاعات، خاصة أن كثيراً من هذه الوسائل لديها مراكز قياس رأى قد توقعت نفس النتيحة.. حتى أن مجلة مثل نيوزويك، كانت قد أعدت عدداً خاصاً يصدر فى اليوم التالى للانتخابات عنوانه "السيدة الرئيسة Madam President" وصورة الغلاف للرئيسة هيلارى كلينتون، غير أن النتائج كانت على عكس ما توقعته المجلة، واضطرت إلى تغيير التقرير وصورة الغلاف إلى "السيد الرئيس ترامب"!
وقد حاول الباحثون التوصل إلى الأسباب الحقيقية وراء هذا الانفصال الذى حدث بين الواقع والتوقع، وتباينت التفسيرات التى تم تقديمها.. ومن هذه التفسيرات :ما يشير إلى أن هذه الاستطلاعات التى تمت قبل الانتخابات لم تتواصل بشكل كافٍ مع فئة البيض الأقل تعليماً، وهى الفئة التى كانت أكثر تصويتاً لترامب فى الانتخابات.. كذلك، فقد تمت الإشارة إلى فرضية "الخجل من تأييد ترامب".
 «Shy Trumpers Hypothesis» والذى يشير إلى أن التصويت لترامب تم اعتباره شيئاً غير مرغوب فيه من الناحية الاجتماعية، ويسبب إحراجاً للناخبين الذين تعمدوا عدم الإعلان عن مرشحهم المفضل.. ولذا، فقد كان الجمهور كاذباً فى التعبير عن اختياراته خوفاً من "التجريس الاجتماعي"!.. كذلك، تمت الإشارة إلى عدم التوفيق فى توقع نتائج الولايات المتأرجحة الستة، والتى كان الفوز فيها مفتاح فوز ترامب. وهى ولايات كان السبق فيها متوقعاً لكلينتون لأسباب تاريخية وواقعية عديدة، غير أن فوز ترامب غير المتوقع فى هذه الولايات قد أدى إلى فشل المراكز فى توقع النتائج النهائية للانتخابات..
يشير المثل الصينى إلى أن "الحكيم يأخذ قراراته بنفسه، والجاهل يتبع الرأى العام"، فهل تصلح التجربة الشعبية ما أفسده فيروس"كوررونا"الصينى على حد تعبير السيد ترامب؟! دعونا ننتظر ونر.
 > رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون- إعلام القاهرة