«الغيطانى».. نقطة الاتصال بين عالمين

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

منى نور

الهوية فى مصر.. رد فعل لأى نوع من أنواع التهديد للشخصية المصرية! هذا ما حاولت أن تفنده الباحثة إنجى أحمد صلاح الدين أبوالخير فى عرض أطروحتها التى حصلت عنها على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرف الأولى فى قضية «جمال الغيطانى والبحث عن الهوية»، مشيرة إلى أن العديد من الكتّاب المصريين أثاروا مسألة الهوية : طه حسين، نجيب محفوظ، جمال حمدان، توفيق الحكيم، وترى أن الغيطانى يصر على القيمة الكونية للحضارات، والتى استمد منها المصريون الشكل العام للهوية المصرية، لأن الإنسان من وجهة نظره هو ثمرة إلتقاء العديد من الحضارات، وأن تلك العملية الثقافية التراكبية التى يقوم بها الفرد فى إطار الحياة الاجتماعية والسياسية والفنية والروحية هى موضوع الدراسة.

وتقول الباحثة فى عرض أطروحتها: أما عن الغيطانى وتعريفه للهوية، فهو لم يقدم لقارئه تعريفاً محدداً، إنما اصطحبه فى رحلته للبحث عن زمانه المتفلت، متأملاً فعله على نفسه وعلى وطنه وشعبه.

رحلة امتدت على مدار خمسين عاماً من التأمل والكتابة، انتهت بـ«حكايات هائمة» وهى أكثر ما نشر قبيل رحيله، وكما همست لى ماجدة الغيطانى أن حكاياته الهائمة، هى نقطة النهاية التى منها تكون البداية، إذ عندما نتناول كتابه «حكايات هائمة» نجد الهوية المصرية تنطق صوتاً وصورة، وأرى أن الغيطانى لا يقدم تعريفاً مقولباً للهوية الوطنية، ولكنه يوجه قارئه فقط إلى الجوهر الإنسانى لمعادلة الهوية فى مصر.

أما عن هوية الغيطانى الفردية فيقول، فهيهات أن يطمع القارئ فى أن يجد تعريفاً لها فى سطر من مداد الغيطانى، إنما هو القائل : التراث الإنسانى كله يصب فى تكوينى.. إنه ملكى وأنا ملكه، وهذا تفاعل يثرى، بشرط ألا أغيب أو تغيب على الدائرة المركز، أقصد التراث العربى بمفهومه الشامل.

وأقول إن هويته الفرد، فأستطيع القول- بيقين- إن جمال الغيطانى هو مواطن مصرى أفنى عمره فى إبراز المشتركات التاريخية والفنية والإنسانية بين المصريين، فإذا به يعرِّف الإنسانية جمعاء.

تنطوى الدراسة على محورين رئيسيين، الأول: الهوية المصرية، بحسب الغيطانى، التى تبلور شخصية الإنسان المصرى المتفاعل مع مجتمعه، والتى تفرض صورة معينة على مجتمع يهدف إلى توافق كفيل بتجاوز الاختلافات الفردية، أما المحور الآخر فهو عن : عرض الهوية المصرية على التراث الثقافى العالمى، حيث إن ذلك التفاعل الحضارى- كما يرى الغيطانى- يدعم الحفاظ على استمرارية عناصر الهوية المصرية العميقة فى معادلة توافقية، دون صدام أو صراع، مع العناصر الغريبة عنها.

وأشارت الباحثة إلى أنها لدراسة الهوية، اختارات الأدب المقارن على الرغم من أنها لا تقارن الغيطانى بكُتَّاب آخرين، معللة ذلك بأن نظريات الأدب المقارن ستتيح لها فرصة مقارنة مكونات الهوية المصرية المنتقاة من مختلف فنون الحياة، بفنون السرد والأدب، وذلك استناداً على كتابات الغيطانى.

وأكدت الباحثة أن الهدف الرئيسى للبحث هو دراسة علاقة الهوية الفردية التى يبحث عنها الغيطانى بالهوية الجمعية، هوية المجتمع المصرى، وأن محاولة الربط بين موضوع الهوية والأدب سمح باقتحام ما وراء خصوصيات المجالات الفنية المختلفة «أدب، عمارة، فنون الطهى، موسيقى»، استهدافاً للمنظور الاجتماعى والثقافى المشترك بين المصريين، وذلك بغية إثبات وجهة نظر الغيطانى فى أن أن الهوية ليست مفهوماً مجرداً، ولكن من الممكن تجسيدها أو تلمسها فى حياتنا اليومية.

وطرحت الباحثة سؤالاً: لماذا جمال الغيطانى لهذه المهمة؟

وأجابت : «الغيطانى وُلد فى 9 مايو 1945، صبيحة إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية، يوم قرر البشر أن يتفقوا ويضعوا حداً لحروب عصفت بأمم، وتوفى فى 18 أكتوبر 2015، فى فترة قررت فيها مصر أن توحد كلمتها.. من المعلوم أن الغيطانى ارتبط نفسياً وأدبياً ووجدانياً بشخصين، الأول هو شيخه الأدبى نجيب محفوظ، والآخر إبراهيم الرفاعى، أسطورة الصاعقة المصرية، ولفتت الباحثة إلى أنه بالنظر لتفاصيل رحيل الغيطانى، يلحظ أنه فقد الوعى خارجاً فى رحلة بين عالمين فى منتصف أغسطس 2015، وفارق عالمنا جسداً فى 18 أكتوبر من نفس العام، ولم يعد إلينا من هذه الرحلة ليقص علينا ما رأى كما كانت عادته ليخلد حبه لنجيب محفوظ الذى رحل منتصف أغسطس 2006، والرفاعى الذى استشهد فى 18 أكتوبر 1973، بتواريخ ثابتة، فلنتأمل المصادفة، ولنتأمل مقولته: «لم يكن رحيلى إلا بحثاً عنى، ولم تكن هجرتى إلا منّى وفىَّ وإلىَّ».

وينتمى «الغيطانى»، إلى رعيل الكُتَّاب المصريين الملقب بـ«جيل الستينيات»، شهد جميع الأحداث المعاصرة الكبرى فى مصر القرن العشرين، وروائعه (الزينى بركات، وقائع حارة الزعفرانى، حكايات الغريب، وكتاب التجليات) ليست سوى قمة الجبل الثلجى، فهو لم يكتف بكونه تلميذاً مخلصاً لنجيب محفوظ، ولكن- كما يقر الأديب الفرنسى روبرت سوليه- ما لا نقوله هو أن المريد أثر أيضاً على شيخه، كان الزينى بركات أول أعمال الغيطانى المترجمة إلى الفرنسية عام 1984، لدى دار نشر (سوى Seuil) أى قبل أربع سنوات من فوز محفوظ بجائزة عام 1988، وهنا ألفت النظر أن صاحب نوبل استوحى إطار روايته (الحرافيش) من رواية تلميذه (الزينى بركات).

وتواصل الباحثة : «فى نهاية حياته نجح الغيطانى، ذلك المصرى المتواضع الذى علم نفسه بنفسه، فى الوصول إلى مقعد عالم الآثار الأمريكى جيمس هنرى برستد فى جامعة شيكاغو، كأستاذ زائر، الغيطانى هو سعيد الجهينى فى الزينى بركات، وهو صورة معاصرة لذى النون المصرى ذلك النساج المتصوف، الأديب القارئ للغة الطير، أو هو ابن إياس آخر، أو جبرتى القرن العشرين، وأكثر ما كان يقلق الغيطانى هى فكرة الزمن!! وفى خضم رحلة بحثه عن وقته الضائع المنصرم والمتفلت، تأمل الغيطانى فعل الزمان على كل من حوله، وعلى نفسه وعلى وطنه، من هنا تبرز مسألة الهوية كموضوع بحث فى آفاق إشكالية الزمن».

وبدراسة «الغيطانى» فهمت أن الهوية، وإن كانت جوهراً فطرياً كامناً فى داخلنا أو متوارثاً، فهى تخضع لتطور تدريجى مستمر رأى أن الهوية عنده، هى عنصر كامن يلخص المشتركات الإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد، ويخضع لتطور تدريجى مستمر يعتمد على مجهود الفرد.

جاءت الرسالة فى ثلاثة أبواب، الأول منها تحدثت فيه الباحثة عن الروحانيات المصرية فى أدب جمال الغيطانى فى مجال الميتافيزيقا والصوفية والتوحيد، فتناولت الصورة الأدبية فى أعمال الغيطانى للروحانيات المصرية المستمدة من الأدب المصرى القديم «الفرعونى» كعنصر مؤسس للحضارة المصرية، وصولاً إلى ولادة شبه فكرة عن التوحيد فى أدبيات أخناتون، وأوضحت كيف استخدم الغيطانى التاريخ الإسلامى للتوفيق بين التراث القديم، والحالة الروحية المصرية المعاصرة.

وأظهرت وجهة نظر الغيطانى فى أن المصريين يستثمرون تراثهم القديم العميق لتكييف الأديان اللاحقة مع سياق تاريخهم الروحى، وفى ذات الوقت إبراز القواسم المشتركة بين الأديان السماوية المعتنقة فى مصر حالياً.

أما الباب الثانى، فتناولت فيه الباحثة دور الطبيعة فى تشكيل الشخصية المصرية، مصر عبر زمان ومكان اختارهما الغيطانى، حيث ألقت الضوء على تأثير الطبيعة على نشأة الهوية المصرية، موضحة أن الطبيعة فى هذا المقام تُعرف بزمان تاريخى ومكان إقليمى يختارهما الغيطانى، لذلك كان لابد من تناول بعض الجوانب من الحقب التاريخية التى أبرزها الكاتب مثل العصر المصرى القديم والمملوكى والجمهورى.

ومن هذا المنظور، يتم بناء الهوية بشكل غير متزامن، بحيث يقوم المصريون باستخدام الماضى الفرعونى عبر الزمان لتجميل حاضرهم والاستبشار بمستقبل واعد لوطنهم، وعن المكان يقول الغيطانى فيما معناه إنه عندما تهيم الروح فى شرايين الماضى بحثاً عن الأيام الخوالى، يجب بالضرورة أن تتشبث بجغرافيا حميمة لها.

وترى الباحثة أن ما قام به الغيطانى من تنقل بين الأساطير القديمة للمدن المصرية والمشاهد المجيدة لتحرير أرض الوطن، سمح له بالتأكيد على هوية أصيلة لوطنه مظهراً عظمة مصر الحديثة.

وفى الباب الثالث والأخير اهتمت الباحثة بدراسة العنصر البشرى فى معادلة الهوية المصرية من خلال بعض الفنون: المأكولات الشعبية، والموسيقى، والعمارة فى أدب جمال الغيطانى.

ولكى تتناول الباحثة الهوية الثقافية، بدأت بدراسة فن الطهى فى مصر وارتباط فلسفة الطعام بالشخصية المصرية حسبما تحدث الغيطانى عن ذلك، ثم انتقلت إلى دراسة المنتج الفنى المصرى فى الموسيقى والمعمار، فى الموسيقى أبرزت استمرارية بعض الخصائص الموسيقية التى كانت موجودة منذ القدم، والتى نسمعها حتى الآن فى التراتيل القبطية والتلاوات القرآنية، وحتى فى الأغانى الحديثة.

أما بالنسبة للمعمار فقد اقتصرت الدراسة على بعض الأمثلة المحددة للمبانى الدينية كمعبد بن عزرا، والكنيسة المعلقة، ومسجد السلطان حسن، ومعبد دندرة، مركزة على تشابه بعض الزخارف المعمارية الرمزية التى تدعم فكرة استمرارية الثقافة المصرية.

وتتبعت الباحثة فى دراستها خطى الغيطانى الذى لجأ لفن المعمار، لإعادة بناء صورة مصر من خلال استعادة معمار مبنى أثرى محترق باستدعاء الذاكرة مثال قصر المسافرخانة.

وأكدت الباحثة أن فنون الطعام والموسيقى والمعمار التى تؤلف بين أفراد المجتمع الواحد هى كلها دلالات على الهوية، يتم تحديدها من خلال مشاركة العادات والتقاليد، مما يعظم الرغبة فى الانتماء إلى جماعة كبيرة.

وانتهت الباحثة فى دراستها إلى أن الهوية الوطنية فى المثال المصرى، هى ثمرة لعملية تراكمية، بنائية، فى تطور مستمر، بالإضافة إلى مجموعة مختارة من قرارات فردية حرة وطوعية بشكل أو بآخر، يتخذها الفرد مما يهدف بكل شىء إلى بناء هوية فردية.

فى العموم، تظهر مسألة الهوية- دائماً- وبشكل مستمر فى آفاق الحياة اليومية خاصة فى حالة الخلافات الاجتماعية أو السياسية، للخروج من الخلاف يركز الغيطانى على القيم الإنسانية المشتركة بين الشعب المصرى، بل وبين المجتمع الإنسانى المتحضر.

ويصر فى أعماله على الثقافة العميقة للشعب المصرى مسلطاً الضوء على ارتباط ذلك الشعب العريق بالفضائل الاجتماعية والثقافية المتوارثة، كما يصر الغيطانى على الاستمرارية التاريخية التى توحد أهل وطنه.

تمت مناقشة الرسالة بقسم اللغة الفرنسية وآدابها والترجمة الفورية بكلية الدراسات الإنسانية، جامعة الأزهر، بإشراف: د. ميرفت إبراهيم بكير، د. علا محمد عبدالحى، د. جيهان ممدوح السبكى، ومناقشة: د. فريدة محمد النجدى، د. نرمين أسعد وشفيق حلابة.