وهكذا في سائر الدلالات ما يستحق دراسة علمية أكاديمية متخصصة وافية تجلي أسرار ودلالات هذه السور
أكدنا في مقالنا السابق علي أهمية الزمان والمكان في القرآن الكريم، وتحدثنا عن دلالات أسماء بعض السور المسماة بأسماء الزمان، وبعض السور المسماة بأسماء المكان، وذكرنا منها سورتي : الحجر والكهف، وبعدهما في ترتيب المصحف الشريف تأتي سورة الأحقاف لتذكر بمصير ومآل أصحاب الأحقاف قوم سيدنا عاد (عليه السلام)، حيث يقول الحق سبحانه فيها : «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَي إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ «، إذ في ذلك متعظ لمن كان له أدني مسحة أو تدبر في أحوال الأمم التي طغت وتجبرت وظلمت وعتت عن أمر ربها فأخذها أخذ عزيز مقتدر، في سنة لا تتخلف في سوء عقبي الظالمين، وحسن عقبي المتقين، أفرادًا أو جماعات أو أمماً.
ثم تأتي سورة الحجرات حجرات أزواج النبي (صلي الله عليه وسلم)، حيث يقول الحق سبحانه : « إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّي تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «، وعندما سمع سيدنا الإمام مالك بن أنس (رضي الله عنه) رجلاً يرفع صوته في مسجد سيدنا رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، قال له : يا هذا : إن الله (عز وجل) امتدح أقوامًا فقال : «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ»، وذم آخرين فقال : « إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ «، وقال : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ»، وإن حرمة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ميتًا كحرمته حيًا، فاحفظ نفسك ولسانك في حضرة رسول الله (صلي الله عليه وسلم).
ثم تأتي سورة الطور «طور سيناء»، حيث يقول الحق سبحانه : «وَالطُّورِ ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ «.
وتأكيدًا علي قدسية هذا المكان ولفتًا للأنظار إليه قدم علي غيره من المقسم به من الكتاب المسطور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، وقد استمد هذا الطور هذه المكانة من تجلي الحق سبحانه وتعالي عنده لكليمه موسي (عليه السلام)، حيث يقول سبحانه : «فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَي ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي «، ويقول لنبينا (صلي الله عليه وسلم) : « وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»، وفي هذا كله ما يؤكد أهمية هذه البقعة المباركة من أرض سيناء المباركة بما حباها الله (عز وجل) به من خير وبركة، وهو ما يستحق منا الاهتمام بها وبأهلها وبمقدساتها والحفاظ عليها، ويجعلنا نلتف وبقوة خلف قواتنا المسلحة الباسلة في الدفاع عنها وعن كل حبة من ثراها الطيب الطاهر العطر، وألا نسمح للإرهابيين والمتطرفين من تلويثها بغدرهم وخيانتهم وعمالتهم وزيغهم وزيفهم وبهتانهم.
ثم يأتي الختام بسورة البلد، البلد الأمين، مكة المكرمة، بلد الله الحرام الآمن، حيث يقول الحق سبحانه : «لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ «، فالبلد مكَّرم لذاته، ولبيت الله المحرم، ومكَّرم لنبيه، حيث يقول الحق سبحانه مخاطبًا حبيبنا محمدًا (صلي الله عليه وسلم) : «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ».
ثم إن هذا القسم بهذا البلد الحرام ينصب علي حقيقة مهمة يجب أن نعيها جيدًا، وهي طبيعة هذه الدنيا التي بنيت علي الكد والنصب والتعب، حتي قال أحد العارفين : من طلب الراحة في الدنيا طلب ما لم يخلق ومات ولم يرزق، لأن الله (عز وجل) قد قال في كتابه العزيز : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ «، فالدنيا دار عمل وتعب ونصب، فالعاقل من أخذ منها ما يتزود به لغده، وما يجب أن يلقي الله به، في توازن بين عمارة الكون والتزود للآخرة.
فإذا ما تجاوزنا دلالات الزمان والمكان وجدنا القرآن الكريم يلفت الأنظار إلي الظواهر الكونية، من الشمس، والقمر، والنجم، والرعد، والتكوير، والانفطار، والزلزلة، والبروج، والطارق، والفلق، في تأكيد واضح علي أهمية هذه الظواهر، ولفتا للأنظار إليها والتأمل فيها، والإفادة منها، وأخذ العبرة والعظة منها، حيث يقول الحق سبحانه «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ «، ويقول (عز وجل) : « سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «.
وهكذا في سائر الدلالات ما يستحق دراسة علمية أكاديمية متخصصة وافية تجلي أسرار ودلالات هذه السور بما فيها فيض وإعجاز علمي وبلاغي، وتعطي الموضوع حقه من البحث والدرس والنظر، إذ في كل هذا ما يؤكد أن عطاء القرآن الكريم متجدد في كل زمان ومكان، فهو الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد.