نقطة ارتكاز

ورحل فارس الكويت النبيل

د. غسان محمد عسيلان
د. غسان محمد عسيلان

بقلم/ د.غسان محمد عسيلان

أُصيبت أمتنا العربية والإسلامية بمصابٍ أليمٍ منذ أيام، فقد تلقينا ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة المغفور له بإذن الله تعالى أمير دولة الكويت صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الذى وافته المنية عن عمر ناهز 91 عامًا، وكان هذا العمر المديد بفضل الله تعالى خيرًا وبركة على الكويت وشعبها، حيث حفل بالعطاء والإنجازات والجهود العظيمة والأعمال الجليلة التى لم يقتصر نفعُها على دولة الكويت وحدها بل شمل سائر الشعوب العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء.
لقد كان الفقيد الراحل قلب الخليج النابض، وأمير الإنسانية النبيل الذى كرَّمته الأمم المتحدة على جهوده الكبيرة فى مجال العمل الإنسانى والخيرى؛ إذ كان له رحمه الله أيادٍ بيضاء على الضعفاء والمنكوبين حول العالم، حيث مد لهم يد العون وشملهم بعطائه وكرمِه بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق أو اللون، وكان والدًا للجميع حانيًا عليهم، فترك بذلك بصمات عميقة لا تُنسى فى مجالات العمل الإنسانى المختلفة جعلت الأمم المتحدة تُكرِّمه عام 2014م وتمنحه لقب (أمير الإنسانية) تقديرًا لجهوده فى هذا المجال، إذ استثمر ما حبا الله تعالى به بلاده من نِعَمٍ وفيرة ليساعد المحتاجين فى كل مكان، ولم يبخل على أحد، بل عُرِف عنه البذل والعطاء الإنسانى بكل سخاء، وأسهم بعطائه وعطاء وطنه الكويت بشكل كبير فى مساعدة كثير من البؤساء والفقراء فى مختلف أنحاء العالم.
وقد تقلَّد الفقيد عددًا من المناصب خلال مسيرة حياته الحافلة، حيث كان أوّل وزيرٍ للإعلام فى تاريخ دولة الكويت، وثانى وزير للخارجية فيها، وطيلة أربعة عقود من الزمن ظلَّ على رأس الدبلوماسية الكويتية فى منصب وزير خارجية الكويت، وإليه يرجع الفضل فى إرساء دعائم سياستها الخارجية، وما تتميز به من حرص على إقامة علاقات صحيَّة متوازنة مع جميع الدول؛ بهدف الحفاظ على مصالح دولة الكويت فى منطقتها الحيوية العاصفة بالأحداث، وخلال هذه الحقبة المهمة من تاريخ الكويت وتاريخ أمتنا-والتى كان فيها على رأس وزارة الخارجية-وقع الغزو العراقى الغاشم لدولة الكويت عام 1990م، فكان له رحمه الله دور بارز فى التعامل معه، وتمكَّن ببراعة من أن يشرح قضية الكويت العادلة أمام جميع دول العالم.
فى الحقيقة لقد كان الراحل رحمه الله قائدًا حكيمًا وسياسيًّا محنَّكًا من الطراز الأول، وبحكم عمله دخل فى أدق تفاصيل المشهد السياسى والدبلوماسى العربى، وشهد كثيرًا من الأحداث فى الكويت بل فى المنطقة والعالم، وتقلَّد حكم الكويت فى 29 يناير عام 2006م، ويُجمع معظم المراقبين على أنّه اتَّبع سياسة إصلاحية متوازنة، وأن دولة الكويت شهدت فى عهده نهضةً تنمويّة كبيرة فى مختلف المجالات، وبنَت لنفسها صورة ذهنية رائعة بفضل حكمته ومهارته فى تغليب لغة العقل والحكمة والحوار الهادئ، حتى صار قدوة فى الدبلوماسية الناعمة الرشيدة، ورمزًا من رموز الحكمة والتسامح والمحبة والسلام، والتصالح مع النفس ومع الآخرين.
ومن أبرز ما كان يتميز به الفقيد رحمه الله أنه كان يؤمن أيُّما إيمان بالعمل العربى المشترك ولاسيما العمل الخليجى، بل كان واحدًا من أبرز داعمى مجلس التعاون الخليجى، وستظل مواقفه التاريخية المخلصة فى الحرص على سلامة وأمن واستقرار أبناء الخليج بصفة خاصة والأمة العربية بصفة عامة-حيَّةًّ على مر الأزمان وتعاقب الأجيال، وسيظل له رحمه الله مكانة استثنائية فى قلوب الشعوب العربية والإسلامية، لأنه بشخصيته الفريدة تمكَّن من القضاء على كثير من النزاعات بين الأشقاء، واستطاع على مدى عقود طويلة أن يُقنع الجميع بإنهاء الخلافات، والترفُّع على الضغائن والأحقاد، وطى صفحات الخلاف وتحقيق الأمن والاستقرار للشعوب والمجتمعات، وبذلك أصبح رمزًا من رموز الحكمة والاعتدال والعقلانية فى إدارة الأزمات، وتوفير المناخ الملائم لتحقيق الأمن والاستقرار، ودفْع عجلة البناء والتنمية فى شتى المجالات.
فى الواقع لقد ترك لنا الراحل إرثًا عظيمًا من الحكمة والعطاء والعمل الإنسانى النبيل، وستبقى ذكراه حيَّة فى القلوب، كما ستبقى مواقفه التاريخية الرشيدة مصدرَ إلهام للأجيال القادمة، لقد رحل عنا بجسده، لكن ما خلَّفه فينا من قيم العروبة الأصيلة فستبقى حيَّةً تُلهمنا أرقى معانى النبل والخير والوفاء والبذل والعطاء، وهذا هو ما عبَّر عنه قادة أمتنا العظيمة، وجاء فى نعيهم للأمير الراحل رحمه الله، حيث نجد هذه المعانى فى عزاء خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز-أيَّده الله ـ ونعى ولى عهده الأمين صاحب السمو الملكى الأمير محمد بن سلمان-حفظه الله-وفى عزاء فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى رئيس جمهورية مصر العربية لحكومة وشعب الكويت الشقيق، كما نجده عند ملك البحرين ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وسائر قادة وزعماء العالم.
< أكاديمى سعودى وكاتب صحفى