فى الفكر والسياسة

د. مراد وهبة.. «فاوست» فى مسوح جديدة

د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى

 فاوست، حكاية شعبية ألمانية قديمة، صاغها يوهان فولفجانج جوتة مسرحية تحكى عن الدكتور يوهان جورج فاوست الذى باع روحه للشيطان حتى يخدمه طوال حياته ويساعده للحصول على النجاح وقمة السعادة والمعرفة المطلقة والتمتع بملذات الحياة الدنيا، فى مقابل أن يستولى الشيطان على روحه بعد مماته. نشر جوتة الجزء الأول منها عام 1806، والجزء الثانى بعدها بستة وعشرين عاماً. ولعلنا فى أيامنا السوداء هذه بصدد الجزء الثالث منها، لكننا هذه المرة أمام فاوست جديد باع نفسه لشيطان آخر غير «مفستوفيليس» فى مسرحية جوتة. مسرحية جوتة كانت من نوع الميلودراما المؤثرة، أما صاحبنا فاوست الجديد فأرادها كوميديا سوداء، جاءنا فيها بمسوح الفلسفة ليسوغ التسليم بإحتلال الأرض الفلسطينية، ويسخر من العقل العربى وقيم المقاومة المتمثلة فى رفض التطبيع، بل يدعو لقبول صفقة القرن والتطبيع مع إسرائيل، والتماهى مع مشروعها الاستيطانى بدعوى التسامح ومحاربة الأصولية الإسلامية، بل يطالبنا بالوقوف مع إسرائيل ضد إيران الأصولية ومشروعها التوسعى فى منطقتنا العربية، أو هكذا كتب فى مقاله بالأهرام بتاريخ الأول من سبتمبر بعنوان «إما إيران أو إسرائيل». ولقد بينا فى مقالنا السابق كيف اعترف هو نفسه بأنه كتب يحث الفلسطينيين التنازل عن القدس كعاصمة واتخاذ «أبوديس» بديلاً لها، كما أوحى له بذلك عميد كلية الإنسانيات بتل أبيب، ويالها من كوميديا سوداء.
فى مقالها الأسبوع الماضى بجريدة الأهالى، كتبت فريدة النقاش نقداً موضوعياً تحت عنوان «رداً على د.مراد وهبة.. لا أيران ولا إسرائيل» تبين كيف انتقل د. مراد وهبة فى مقاله بالأهرام من المنطق العلمى إلى المنطق الشكلى، حين يصل إلى القول حرفياً: «بما أن إيران الأصولية ملتزمة بتدمير إسرائيل، فيلزم الدخول فى علاقة مع إسرائيل، ومن ثم تنتهى خرافة منع التطبيع، ومعاً يبدأ التقدم بلاخرافة، وهنا يبدو وكأن التقدم مرهون بتطبيع العلاقة مع إسرائيل». وفى تقديرى فإن آفة الرجال الهوى، إذ فيما قاله صاحبنا ضرب بكل قواعد المنطق والفلسفة، ويوصف علمياً بأنه Speculation أى تكهن بما لايمثل واقعاً لنتيجة مقنعة، وهو استنتاج لايقوم على دليل، وهو نوع من تعسف المنطق وتهاويه. ولابد لصاحبنا الذى عمل بالفلسفة سنوات تربو على أكثر من نصف قرن أن يعلم يقيناً بأن مايقول به ليس من العلم أو الفلسفة فى شئ، بل محض تجديف وهراء.
 وإذا كان لايعلم فالمصيبة أعظم. وإذ يتهم د. مراد وهبة كل المثقفين العرب بالخيانة لأنهم لا يحاربون الأصولية الإسلامية بالجدية المطلوبة، وهذا غير صحيح، وإذا كان يرى بأن إيران دولة أصولية، فهل لايعلم أن إسرائيل أيضاً دولة أصولية استعمارية، إذ حولت الدين ومنذ نشأتها إلى قومية، ومن ثم فهى تنادى حتى اليوم بيهودية الدولة، ولعل «قانون يهودية دولة إسرائيل» الصادر من الكنيسيت الإسرائيلى فى يوليو 2018، خير شاهد على ذلك. وهو أمر صرح بنيامين نتانياهو فى 18 يوليو 2018 باعتباره لحظة تاريخية حاسمة، كما أوردت BBC. فإذا لم يجد د. مراد وهبة فى ذلك دليلا على أصولية الدولة الإسرائيلية فماذا عساه يكون؟. إنها إذن المغالطة والقفز بالاستنتاج إلى المجهول، وهو عيب يرى فيه المشتغلون بالعلوم والفلسفة انتقاص كبير من موضوعية العالم أو الفيلسوف، وقدح فى معلوماته ومقاصده. وهو أمر لو وقع فيه باحث صغير لعوقب عليه من مجتمعه العلمى، ولفقد مصداقيته واحترامه، فما بالنا بحضرة الفيلسوف الذى ما فتئ يصدع رؤسنا عن العلم والفلسفة والأصولية، ويقوم بتوليد أفكاراً هجينة يعافها منطق الفلسفة ومنهج العلم ويرى فيها تلفيقاً وانتحالاً.
أكتب هذا وكلى ألم أن يصل الحال بالدكتور مراد وهبة إلى هذا المستوى الذى لايسئ إليه وحده، إنما ينسحب للأسف على امتداده ليسئ إلى مدرسة الفلسفة المصرية الرصينة التى وصلت بأفكارها وأساتذتها إلى حد التقدير فى الأوساط العلمية والأدبية العربية والدولية، والتى سطر أعلامها سمعة مرموقة من أمثال د. زكى نجيب محمود، د. عبد الرحمن بدوى، د. عثمان أمين، د. يوسف كرم، د. يوسف مراد، د. محمود أمين العالم، د. فؤاد زكريا، د. عبد الوهاب المسيرى، وكثيرين غيرهم.
وبناء على ماتقدم فأنا أعلن رفضى لهذه النسخة المنتحلة من فاوست الجديد، حتى وإن جاءتنا فى مسوح الفلسفة وادعاء الموضوعية والعلمانية والتقدم.