نقطة ارتكاز

بين حرية التعبير وازدراء الأديان والمقدسات

د. غسان محمد عسيلان
د. غسان محمد عسيلان

بقلم/ د. غسان محمد عسيلان

انتشرت فى العقدين الأخيرين ظاهرة الإساءة إلى مقدسات المسلمين ورموزهم فى كثير من الصحف ووسائل الإعلام الغربية، ولا سيما التهجم على شخص الرسول الكريم  سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، والسخرية منه، والإساءة إليه، والتجرُّؤ على تمزيق القرآن الكريم وإهانته، وادعاء أن ذلك من قبيل حرية التعبير التى هى حق من حقوق الإنسان، وهذا التطاول على الإسلام ومقدساته يغضب المسلمين حول العالم، ويثير حمية الشباب المسلم الذين يرون أن من واجبهم الذود عن دينهم ومقدساتهم!!

وعندما نتأمل حملات إهانة الإسلام ورموزه التى تتبناها صحف ووسائل إعلام غربية كصحيفة (شارل إيبدو) الفرنسية نجد أنها لا تعتمد على أى نقدٍ موضوعى لأفكار أو ممارسات أو معتقدات إسلامية، بل الدافع وراء تلك الإهانات وذلك التهجم هو مجرد الرغبة فى ازدراء الإسلام وتسفيهه وإهانة مقدسات المسلمين ورموزهم دون أي رؤية نقدية أو فكرية، ودون مراعاة لمشاعر ملايين المسلمين حول العالم والذين يشكلون تقريبا ربع سكان كوكب الأرض، بل دون مراعاة لأى اعتبار أو لوازع من دين أو خلق أو ضمير، ودون أى شعور بالمسؤولية.

وإذا بحثنا بكل شفافية وموضوعية عن إجابة لهذا السؤال: لماذا يتعمد هؤلاء ازدراء الدين الإسلامى بهذا الشكل المقيت بل يصرون على ذلك؟! لماذا كل هذا الحرص على تشويه العقيدة الإسلامية؟! ألا ينظر هؤلاء للمنظومة الأخلاقية العظيمةالتى يصنعها الإسلام ويدعو إليها؟!! لماذا يحرص هؤلاء على إظهار الدين الإسلامى على أنه دين قتل وعنف وإرهاب؟! وأى مصلحة سيجنيها العالم من شيطنة نحو ربع سكان الأرض، واستعدائهم،

وإظهارهم قتلةً إرهابيين؟!! ثم أين هى حرية التعبير فى كل ذلك؟! أين حرية التعبير فى التقوُّل على الإسلام وشريعته ورسوله ومقدساته؟!! ولماذا كل هذا التلهف على إبراز عدوانية أى شاب مسلم يغضب لدينه؟!! فى الحقيقة لا هدف لكل ذلك إلا تأكيد المزاعم المضللة ضد الإسلام والمسلمين؟!!

ولا شك أن العقلاء حول العالم من كافة الأديان والحضارات والأعراق يؤكدون أن ازدراء الأديان هو خطاب كراهية دون أى شك ولا يمت لحرية التعبير فى شيء، فهذا العمل القميء والفعل الدنيء يُعمِّق مشاعر الكراهية بين البشر، ويهدد فرص التعايش بينهم؛ لذلك لا بد من تجريمه لتوقِّى الغلو والعنف والتطرف من جميع الأطراف ضد بعضها البعض، وهذا ولا شك يساعد على خلق بيئة متسامحة تسمح بوجود علاقات إيجابية بين الناس فى مختلف المجتمعات، بل إن الفقرة 2 من المادة 20 من العهد الدولى الخاص بحقوق الإنسان المدنية والسياسية - وهو الوثيقة الدولية والأممية الأهم فى مجال الحريات وحقوق الإنسان - تشترط ألا تؤدى حرية التعبير إلى الحضّ على الكراهية، وذلك بنص صريح واضح يقول: «تُحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف».

لكن بكل أسف تصطدم هذه المادة دائمًا بموقف متصلب من الدول الغربية يقف باستمرار إلى جانب الصحف التى تزدرى الإسلام، وتهين رموزه ومقدساته، وتنشر ما يسيء إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يهتمون بمشاعر مليار وسبعمائة مليون مسلم موجودين فى شتى أنحاء العالم بذريعة الخشية من استغلال هذه الفقرة فى تكميم الأفواه والنيل من حرية التعبير، ولا شك أن فى ذلك الكثير من التعسف والافتئات والانتقائية فى تطبيق القانون الدولي.

وفى كل مرة تتقدم الدول والمنظمات الإسلامية الدولية بمشروع قرار إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لاتخاذ قرار أممى يحظر ازدراء الأديان وتجريمه تقف الدول الغربية ضد هذا المشروع الأمر الذى يحول دون اتخاذ مثل هذا القرار الدولى المهم الذى من شأن اتخاذه أن يرسى دعائم السلام والتعايش بين جميع البشر، ويرسخ لمبدأ احترام الجميع لأديان الآخرين وعدم السخرية منها والمساس بمقدساتها.

إن هناك مسؤولية نتحملهاجميعًا للمحافظة على الأمن والسلم العالميين ونشر ثقافة التسامح والتعايش بين مختلف الأمم والديانات والشعوب على اختلاف أديانها ومعتقداتها، وينبغى أن ننتبه لموضوع ازدراء الإسلام ومقدساته لدى المسلمين نظرًا لحساسيته الاستثنائية، لاسيما أن المسلمين يرون أن دينهم هو الدين الوحيد المستهدف بالسخرية والاستهزاء والازدراء من قبل الغرب.

إن ازدراء مقدسات الآخرين ليس من الحرية فى شيء، بل هو جريمة مرفوضة بكل المقاييس، والتطاول على رموز الأديان الأخرى وإهانتها وتجريحها عمل غير متحضر؛ لأنه يؤذى مشاعر الآخرين وينال منهم، وينبغى أن نفكر جميعًا فى المصلحة العامة لبنى البشر، ومن الضرورى أن ندرك جيدًا أبعاد تصرفاتنا وآثارها ونتائجها حتى يكون لسلوكنا معنى وغاية، لاسيما عندما يتعلق بالشأن الدينى الذى يهم الآخرين ويشكل وجدانهم وهويتهم.

نعم ينبغى حماية حرية التعبير كواحدة من أهم حريات الإنسان الأساسية، لكن ليس هناك حرية مطلقة، فالحرية تعنى أيضًا المسؤولية؟ ولا يمكن تخيل حرية دون مسؤولية!! ولا حرية دون مراعاة لمشاعر الآخرين واحترام لظروفهم!! وينبغى أن يدرك الجميع أن الإحساس بالآخرين واحترام معتقداتهم وأديانهم قيم جميلة راقية تزيِّن الحرية وتجعلها أكثر بهاءً وجلالًا، وتجعل العالم أكثر أمنًا واستقرارًا .